إنجيل برنابا في ضوء التاريخ والعقل والدين

بقلم

عوض سمعان

هذا الكتاب

 يعتقد بعض الناس أن إنجيل المسيحيين أصابه التحريف منذ زمن بعيد، وأن الإنجيل الحقيقي هو المسمى: إنجيل برنابا . فيجب الاعتماد على إنجيل برنابا دون إنجيل المسيحيين. ولما كان هذا الاتهام خطيراً، فقد دَرَس الكاتبُ الإنجيلَيْن، وقارن بين المعتقدات الواردة فيهما، وبين ما استطاع العثور عليه من محتويات الكتب الدينية والأدبية والتاريخية التي أشارت إلى شيء من المعتقدات المذكورة. فأسفرت الدراسة والمقارنة عن إصدار هذا الكتاب. وهو إذ يقدّمه للقراء، يرجو الله أن يستخدمه لإعلان إنجيله الحقيقي، لأجل مجده وخير نفوسهم العزيزة.

المؤلف

الكتاب الأول

 

الفصل الأول

إنجيل المسيحيين

سلامة الإنجيل من الناحية التاريخية

كلمة الإنجيل معرَّبة عن الكلمة اليونانية إفانجيليون ومعناها البشارة أو الخبر السار . والسبب في إطلاق هذا الاسم عليه، أنه يعلن للملأ محبة الله المطلقة للخطاة وموت المسيح كفارةً عنهم، حتى لا يهلك كل من يؤمن به منهم إيماناً حقيقياً، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16).

وقبل الرد على الدعوى بحدوث تحريف في إنجيل المسيحيين، نقول: إنه يمكن لأي إنسان أن يتّهم آخر بما يشاء، لكن إذا لم يستطع إثبات اتهاماته بأدلّة مقنعة تكون باطلة. فكان من الواجب على القائلين بحدوث تحريف في هذا الإنجيل أن يذكروا

(1) الآيات التي أصابها التحريف، وماذا كانت قبل تحريفها.

 (2) أسماء الذين قاموا بالتحريف، وفي أي وقت قاموا به، وما هي غايتهم من تصرفهم هذا

 (3) كيف استطاع هؤلاء الأشخاص أن يقوموا بالتحريف مع أنه كان يوجد منذ القرن الثاني الميلادي آلاف النسخ من الإنجيل في بلاد متفرقة وبلغات متعددة، الأمر الذي يتعذّر معه إجراء تحريف فيها جميعاً.

 (4) وأخيراً أن يذكروا الطريقة التي لجأ إليها الأشخاص المذكورون لإخفاء التحريف المزعوم، حتى لم يستطع اكتشافه إلا المعترضون، وذلك بعد مئات السنين من حدوثه!

وبما أن المعترضين اكتفوا بالاتهام دون ذكر الأدلة التي تثبته، يكون اتهامهم باطلاً. ومع هذا فقد بحث الكاتب هذا الاتهام من نواحٍ متعددة، فاتّضحت له سلامة الإنجيل من أي تحريف، كما يتضح من هذا الكتاب.

 1 - لم يعترض معاصرو المسيح ولا خلفاؤهم في القرون الأولى على شيء مما ورد في الإنجيل:

 أ - كان الإنجيل قد أخذ في الانتشار شفوياً بعد صعود المسيح إلى السماء بعشرة أيام فحسب، وذلك بين سكان أورشليم الذين عاصروا المسيح وعرفوا كل شيء عنه (أعمال 2 - 7) دون أن ينهض واحدٌ منهم، مهما كان شأنه، لمناقضة شيء مما جاء فيه. وبعد ذلك انتشر الإنجيل في مدةٍ لا تتجاوز ثلاث سنوات في كثير من بلاد الشرق والغرب بلغات سكانها. وكان معظم هؤلاء بسبب انتشار الثقافة اليونانية وقتئذ بينهم، لا يقبلون الأخبار إلا بعد فحصها وتمحيصها من كل الوجوه (إقرأ مثلاً أعمال 17: 10-12 و19: 8-24). وبالرجوع إلى التاريخ لا نرى واحداً من هؤلاء أيضاً قد اتهم المبشرين بالإنجيل بتحريفٍ أو تزوير.

 ب - لم يتّهم اليهود والوثنيون، على الرغم من تهكّمهم منذ القرن الأول على عبادة المسيحيين وعقائدهم (لروحانية العبادة المسيحية وسمّو عقيدتها فوق الإدراك البشري) أبداً بأنهم حذفوا شيئاً من إنجيلهم، أو أضافوا إليه شيئاً آخر.

 ج - اشتهر الفلاسفة الوثنيون الذين اعتنقوا المسيحية في القرون الأولى بالبحث والمناقشة، ولم يكن لهم رأي واحد من جهة عقائد المسيحية، فانقسموا إلى فرقٍ متعددة لاختلافهم في شرح بعض آيات الإنجيل. وكان كل فريقٍ منهم يناصب الفريق الآخر العداء، ويحاول إسناد شتّى التّهم إليه. ومع ذلك لم يُسند فريق منهم إلى غيره جريمة إجراء تزويرٍ في الإنجيل الذي يُعتمَد عليه في البحث والمناقشة، فاتفاقهم على نصٍّ واحد يؤكد مصداقيته.

 2 - نُشر الإنجيل كتابةً دون تنقيح بين معاصري المسيح، وتُرجم إلى لغات متعددة ابتداءً من القرن الثاني:

أ - بعد نشر الإنجيل شفوياً في كثير من بلاد الشرق والغرب، أُرسل ابتداءً من منتصف القرن الأول مكتوباً في كتب، بواسطة أشخاص عرفوا كل شيء عن المسيح، إمّا في هيئة سيرة تفصيلية له كما فعل متى ومرقس ولوقا ويوحنا، أو في هيئة شرحٍ لمبادئه وتعاليمه كما فعل بولس وبطرس ويعقوب وغيرهم، دون أن يقابل بعضهم ما كتبه على ما كتبه البعض الآخر، الأمر الذي يدل على نزاهتهم وعدم وجود أي تواطؤ بينهم، وقيام كل منهم بكتابة الإنجيل مستقلاً عن صاحبه.

ب - كان هؤلاء الأشخاص مختلفين عن بعضهم اختلافاً كبيراً لا يسمح لهم بالاتفاق على أمرٍ ما، إلا إذا كان هذا الأمر حقيقةً ملموسة لديهم جميعاً. فمتَّى كان محاسباً حريصاً، ومرقس شاباً متحمّساً، ولوقا طبيباً مدقّقاً، ويوحنا شيخاً رزيناً هادئاً، وبولس فيلسوفاً متعمقاً، وبطرس جريئاً جسوراً، ويعقوب خبيراً محنّكاً. وبينما كان لوقا الطبيب يونانياً يتمتع بدرجة عظيمة من الثقافة وحرية الفكر، كان معظم الآخرين من اليهود، واليهود أصوليون متزمّتون بطبيعتهم، لا يميلون إلى الدراسة أو التأليف. كما أنه لم يكن يخطر ببال واحدٍ من هؤلاء جميعاً أن ما كتبه عن المسيح، سيكون كتاب المسيحية الذي يتناقله الناس في كل العصور والبلاد، حتى كان يجوز الظن بأن واحداً منهم لجأ في كتابته إلى شيء من الموضوعات المستحدثة، أو أضاف إلى سيرة المسيح شيئاً أو حذف منها شيئاً آخر، لتكون حسب نظره ملائمةً لطبائع البشر جميعاً. بل كان غرضهم الوحيد أن يدوّنوا سيرة المسيح وتعاليمه كما عرفوها، وذلك لفائدة الذين لم يسمعوا عنها من معاصريهم.

 وبعد ذلك كُتب الإنجيل في آلاف النسخ، كما تُرجم إلى لغاتٍ متعددة ابتداءً من القرن الثاني، لفائدة الذين اعتنقوا المسيحية من اليهود والوثنيين، الذين كانوا يتكلمون بهذه اللغات في البلاد المختلفة، ليُتلى في اجتماعات عبادتهم. فكان كثيرون يحفظون ما جاء فيه عن ظهر قلب، كما شهد يوستينوس وترتليان في القرن الثاني. وكتابة الإنجيل في آلاف النسخ، وترجمته إلى لغات متعددة، وانتشاره في بلاد مختلفة، وحفظ كثيرين ما جاء به عن ظهر قلب، يجعل إجراء أي تحريف في كل نسخة أمراً مستحيلاً.

 3 - كُتب الإنجيل على ورق البردي أو جلد الغزال:

لم يكُتب الإنجيل على أحجار أو عظام، كما كانت تُكتب الحوادث والسِّيَر القديمة (حتى كان يجوز الظن أن بعض هذه المواد قد تآكل أو ضاع) بل كتبوه في كتب من ورق البردي وجلد الغزال بكل دقة وعناية. ثم نسخه الذين أتوا بعدهم على ورق البردي وجلد الغزال أيضاً، كما كان يفعل اليونان والرومان قديماً بكتبهم الهامة، الأمر الذي لا يدع مجالاً للظن بضياع جزء من الإنجيل وكتابة غيره بدله.

4 - عدم حرق النسخ الأصلية للإنجيل:

لم يتعمّد أحدٌ إحراق أو إتلاف النسخ الأصلية للإنجيل، كما حدث مع بعض الكتب القديمة التي أراد فريق من الناس إخفاءها، أو إخفاء شيء مما جاء فيها لغرضٍ في نفوسهم (حتى كان يُظن أن الإنجيل الذي في أيدينا الآن ليس هو الإنجيل الحقيقي) بل ظلّت هذه النسخ موجودةً كما هي، ونُقلت عنها ابتداءً من القرن الثاني نسخٌ كثيرة لا تزال باقية إلى الآن، كما سيتضح في الفصل الثاني.

5 - حافظ قدامى المسيحيين حتى على الأناجيل المزيفة ونشروها:

لم يحرق المسيحيون القدامى حتى الكتب التي ألّفها أصحاب البدع عن المسيح، في الفترة الواقعة بين أواخر القرن الثاني وأواخر القرن الرابع (لترويج بدعهم) وأطلقوا على كلٍ منها زوراً وبهتاناً اسم الإنجيل بل أبقاها هؤلاء المسيحيون كما هي، لثقتهم الكاملة في صدق الإنجيل الذي بين أيديهم. وليس هذا فحسب، بل وأيضاً طبعوها ونشروها بلغاتٍ كثيرة، مراعاةً لمبدأ حرية الرأي، وليُفسحوا المجال أمام الناس في كل العصور للمقارنة بين ما جاء في هذه الكتب، وبين ما جاء في الإنجيل الذي بين أيديهم، الأمر الذي يدل على أمانة المسيحيين القدامى ونزاهتهم وعدم جواز اتهامهم بإجراء أي تحريف في الإنجيل.

 

الفصل الثاني

سلامة الإنجيل من الناحية الأثرية

 

1 - وجود نسخ من التوراة والإنجيل يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الثاني وما بعده:

هناك نسخة كاملة من الإنجيل الذي كتبه يوحنا وجدت سنة 1923 على بعد 28 كيلومتراً جنوب أسيوط (في مصر) يرجع تاريخها إلى سنة 125م. وهي محفوظة الآن بمكتبة ريلاندز بمنشستر (انجلترا). وهناك أيضاً بقايا نسخة من الأناجيل التي كتبها كل من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، مع رسائل بولس الرسول، وجزء من سفر الرؤيا يرجع تاريخها إلى سنة 180م، وجميعها محفوظة أيضاً هناك. وعدا ذلك توجد مجموعة شتوبي التي تحتوي على أجزاء من العهدين القديم والجديد، يرجع تاريخها إلى سنة 200م. كما يوجد مخطوط مدينة دورا (الواقعة على نهر الفرات) يحتوي على أجزاءٍ من العهد الجديد، ويرجع تاريخه إلى سنة 275م، ومجموعة أرسنيوس (بالفيوم - مصر) تحتوي على كثير من أقوال المسيح، ويرجع تاريخها إلى أوائل القرن الرابع.

وبالإضافة إلى ذلك، هناك ست نسخ كاملة من الكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى المدة الواقعة بين القرنين الثالث والخامس، نُشرت صورٌ لبعض صفحاتها في الكتب والمراجع الهامة، كما يتضح مما يلي:

أ - النسخة الإخميمية:

وقد اكتشفها في إخميم بصعيد مصر سنة 1945م العلاّمة شستر بيتي، ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث، وهذه النسخة محفوظة الآن في لندن.

ب - نسخة سانت كاترين:

ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد اكتشفتها بعثة أمريكية بمساعدة بعض الأساتذة المصريين من جامعة فاروق سابقاً الإسكندرية حالياً . وقد أشارت إلى هذه النسخة الجرائد المصرية لا سيما جريدة الزمان في 15 يوليو تموز 1950 وجريدة الأهرام الصادرة في 6 يوليو تموز 1966 عند حديثها عن احتفال جامعة الإسكندرية بمرور 1400 سنة على إنشاء دير سانت كاترين، وعند الاحتفال بإحياء مكتبة الإسكندرية القديمة عام 1991.

ج - النسخة السينائية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد عثر تشندروف العالم الألماني على 45 ورقة منها في سنة 1842م في دير سانت كاترين، وعثر على الباقي فيالمدة من سنة 1852-1859م، ثم أهداها إلى الإسكندر إمبراطور روسيا. وقد صُّوِرت صفحاتها سنة 1911 وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب. ولما قامت الثورة الشيوعية عرضت هذه النسخة للبيع، فاشتراها المتحف البريطاني سنة 1935 بما يوازي بضعة ملايين من الدولارات.

د - النسخة الفاتيكانية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع، وقد سُمِّيت بهذا الاسم لأنها كانت ملكاً لمكتبة الفاتيكان بروما، إذ ورد ذكرها في محتويات هذه المكتبة سنة 1475م. لكن لما اقتحمت جيوش نابليون إيطاليا، نُقلت إلى باريس ليدرسها العلماء بباريس. وفي عام 1889 صُورّت صفحاتها وطُبع منها عدد كبير، أرسل إلى بعض المتاحف والجامعات. ومن الأدلة على قدم هذه النسخة، عدم انفصال كلماتها بعضها عن البعض الآخر. ويقول رجال الآثار إنها كتبت بواسطة رجل مصري.

ه - النسخة الإسكندرانية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وتتكون من أربعة مجلدات ضخمة. وقد عثر عليها في الإسكندرية لوكاربوس بطريرك الأستانة، فأرسلها إلى تشارلز الأول ملك إنجلترا، على يد السير توماس سفير إنجلترا في الأستانة سنة 1624م. وأودعت بعد ذلك في المتحف البريطاني سنة 1853م. ويقول رجال الآثار إن النسخة المذكورة كُتبت بواسطة شخص يدعى تكلا وإنها كانت إحدى النسخ التي جُمعت من الإسكندرية سنة 615م لمقارنة الترجمة السريانية عليها. ومن الأدلة على قدمها أن رسائل بولس الرسول ترد بها غير مقسّمة إلى أصحاحات، على نقيض النسخ التي كُتبت بعد القرن الخامس. وقد صُورت صفحاتها سنة 1869م وأُرسلت إلى بعض المتاحف ودور الكتب.

و - النسخة الأفرائيمية:

ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس، وكانت ملكاً لعائلة مديشى في فلورنسا، ثم نُقلت إلى باريس في القرن السادس عشر، حيث أُودعت بدار الكتب بها.

ز - وعدا النسخ المذكورة توجد النسخة الأمبروسانية (وترجع إلى سنة 450م) والنسخة البيزائية (550م) والنسخة الشرقية (820م) والنسخة البطرسية (916م). كما توجد 674 نسخة غير كاملة يرجع تاريخها إلى الفترة الواقعة بين القرنين الخامس والعاشر، وجميعها محفوظة في المتاحف ودور الكتب الأوربية.

أما الدعوى بأنه نظراً لأن النسخة الأصلية للكتاب المقدس غير موجودة الآن، لذلك لا يجوز الاعتماد على النسخ الأثرية السابق ذكرها، فلا يجوز الأخذ بها لثلاثة أسباب:

(1) يرجع تاريخ بعض هذه النسخ إلى سنة 126م، أي بعد الانتهاء من كتابة أجزاء الكتاب المقدس الأصلية بمدة تتراوح بين 60 و25 سنة فقط. وهذا لا يدع مجالاً لحدوث أي تحريف فيه.

(2) عاصر كثيرون من المسيحيين النسخة الأصلية وهذه النسخ معاً، ولو كان قد حدث أقل تحريف، لثاروا ضده وأعلنوا للملأ حقيقة الأمر.

(3) لا أثر لأصول أهم الكتب القديمة، مثل لوْحَي الحجر اللذين كُتبت عليهما الوصايا العشر، ومع ذلك لا يشك أحدٌ في أن الوصايا العشر الواردة الآن في التوراة هي بعينها التي كانت مدوّنة على اللوحين المذكورين، لأن التواتر العام دليل على صدقها. وهكذا الحال من جهة الكتاب المقدس.

2 - وجود جداول لمحتويات الكتاب المقدس، يرجع تاريخها إلى القرن الثالث وما بعده:

هناك 13 جدولاً للكتاب المقدس يرجع تاريخها إلى القرن الثالث والقرون الأربعة التالية له، يحتوي كل منها على أسماء أسفار هذا الكتاب وملخص كل سفر منه، وأشهرها: جدول مورتوري المحفوظ بميلان، وجدول أوريجانوس المحفوظ بباريس، وجدول يوذينوس، وجدول أثناسيوس، وجدول يوسابيوس، وجدول لاودكية، وجدول سلاميس، وجدول غريغوريوس. وهذه الجداول محفوظة الآن في لندن. وقد قام يوشيان وغيره من العلماء بمضاهاة نسخ الكتاب المقدس القديمة وما جاء في هذه الجداول، على الكتاب المقدس الموجود بين أيدينا الآن، فلم يجدوا اختلافاً ما، الأمر الذي يدل على أنه لم يحدث به تحريف أو تغيير.

3 - وجود كتب دينية بها اقتباسات كثيرة من الكتاب المقدس، يرجع تاريخها إلى القرن الأول وما بعده:

أ - فمن القرن الأول توجد: (1) رسالة لأكليمندس (أسقف روما سنة 80م) الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (فيلبي 4: 3) تحتوي على 59 فصلاً، كلها مواعظ مؤسسة على فصول من الإنجيل. وقد أشار إليها إيريناوس سنة 170م وديونسيوس أسقف كورنثوس سنة 190م. وهذه الرسالة محفوظة الآن بمتحف لندن. (2) ثلاثة كتب لهرميس الذي كان رفيقاً لبولس الرسول (رومية 16: 14) وتتحدث عن حياة المسيح والعقائد المسيحية الواردة في العهد الجديد. (3) سبع رسائل لأغناطيوس (أسقف أنطاكية سنة 95م) تحثّ على التقوى والقداسة والإيمان الحقيقي بالمسيح، وهي محفوظة الآن بمتحف باريس.

ب - ومن القرن الثاني توجد: (1) رسالة لبوليكاربوس (أسقف أزمير، الذي كان تلميذاً ليوحنا الرسول) وهذه الرسالة تتحدث عن صلب المسيح وقيامته وصعوده. (2) تفسير الإنجيل تأليف بابياس أسقف هيرابوليس في ستة مجلدات. (3) كتاب ليوستينوس الفيلسوف يدافع فيه عن المسيحية، ويجادل بشأنها كثيرين من بينهم شخص يهودي يدعى تريفو. ولهذا الفيلسوف أيضاً رسائل موجّهة إلى الأمبراطور تيطس أنطونيوس والإمبراطور ماركوس أنطونيوس. وأيضاً إلى أعضاء مجلس السناتو في روما، يوضح فيها أسباب اعتناقه للمسيحية. (4) كتاب لهيجسبوس يصف فيه رحلته إلى الكنائس الشرقية والغربية. سجل فيه أنه وجد الكنائس المذكورة تسير وفقاً للتعاليم الواردة في إنجيل يسوع المسيح. (5) كتاب لإيريناوس أسقف ليون ذكر فيه ما سمعه عن رسل المسيح الإثني عشر، من الأشخاص الذين عاصروهم. (6) كتاب لأثيناغورس أحد فلاسفة المسيحيين القدامى سجل فيه أن الكنائس تواظب على دراسة إنجيل المسيح المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا. (7) كتاب للفيلسوف أرستيدس يتضمن خلاصة التعاليم المسيحية، وقد أهداه مؤلفه إلى الإمبراطور أدريانوس. (8) كتاب اتفاق البشائر الأربع بقلم تيتيانوس. (9) تفسير الإنجيل بقلم باتنينوس وآخر بقلم أكلمندس. (10) مؤلفات ترتوليان الفيلسوف عن العقائد المسيحية.

ج - ومن القرن الثالث توجد (1) كتب أوريجانوس في التفسير والبحوث الدينية، وعددها كما يقول المؤرخون أكثر من 500 كتاب. (2) تاريخ الكنيسة وتعاليمها الأساسية ليوسابيوس المؤرخ المشهور. (3) كتب غريغوريوس أسقف قيصرية، وديونسيوس أسقف الإسكندرية، وكبريانوس أسقف قرطجنة وكلها تحتوي على دراسة للعقائد المسيحية، وتفسير لبعض الآيات الكتابية، وكثير من الحوادث التاريخية التي جرت في القرنين الأول والثاني.

وقد أحصى العلامة ميل والسير دافيد وغيرهما من العلماء، الآيات التي اقتبسها أصحاب الكتب المذكورة، فوجدوا أنها تبلغ حوالي ثلاثة أرباع الآيات الواردة في الكتاب المقدس الذي بين أيدينا، وتحوي كل آيات العهد الجديد ما عدا إحدى عشرة آية. كما وجدوا أنه ليس هناك اقتباس في هذه الكتب إلا وهو موجود في هذا الكتاب. وقال غيرهم من العلماء إنه لو ضاعت نسخ الكتاب المقدس الحالي من الوجود، لأمكن جمع معظمه من الكتب الدينية السابق ذكرها، الأمر الذي يدل على أن نسخة الكتاب المقدس الحالية هي هي كما كانت منذ القرون الأولى، دون تغيير أو تبديل.

4 - شهادة بعض العلماء عن صدق الكتاب المقدس:

أ - شهادتهم عن صدق العهد الجديد (الإنجيل):

(1) قال جان جاك روسو: أتقولون إن ما يرويه الإنجيل اختراع متقن! كلا. إن الاختراع لا يكون على هذا النحو، فإن درجة التحقق من أعمال سقراط التي لا يشك أحد في صدقها، أقل من درجة التحقق من أعمال المسيح الواردة في الإنجيل .

(2) وقال هرناك أكبر علماء النقد: ظن ستروس في أوائل القرن التاسع عشر أن الإنجيل ليست له قيمة تاريخية، لكن اجتهاد جيلين من علماء النقد والتاريخ أعاد إليه قيمته من هذه الناحية، إذ ثبت أنه يرجع إلى الحقبة اليهودية الأصلية من الدين المسيحي .

(3) وقال جولشر أحد علماء النقد أيضاً: الأناجيل مستندات قوية لتاريخ يسوع المسيح .

(4) وقال سير فريزر أستاذ علم الدين المقارن: وجود الإنجيل الحالي منذ القرن الأول مؤيَّد بشهادة تاريخية لا مجال للشك فيها .

(5) وقال دكتور برايت: بفضل اكتشافات قمران، أصبحنا نوقن أن العهد الجديد هو هو، كما كُتب بواسطة تلاميذ المسيح. وأن كل الأحداث الواردة فيه، يرجع تاريخها إلى الفترة ما بين 25 و80 ميلادية .

(6) وقال السير وليم رمزي في كتاب شهادة الاكتشافات الحديثة لصدق العهد الجديد: كنت أعتقد أن سفر أعمال الرسل كُتب بعد الحوادث التي دُوِّنت فيه بحقبة طويلة من الزمن. ولكن بدراستي للوثائق الرومانية اتضح لي أني كنت مخطئاً في اعتقادي .

(7) وقال الأب لاجرانج مدير المعهد الكتابي: لا يوجد الآن أي عالم حقيقي يشك في صدق العهد الجديد، ولذلك أصبح الدفاع عنه مضيعة للوقت .

ب - شهادتهم عن صدق العهد القديم (التوراة):

(1) قال دانا العالم الجيولوجي والمسيو كوفيبيه ومستر سميث العالم الإنجليزي: أثبتت مواضع الاتفاق بين قصة الخَلْق الواردة في التوراة وبين تاريخ الأرض المأخوذ من الاكتشافات الطبيعية، صدق انتساب الكتاب المقدس إلى أصلٍ إلهي .

(2) وقال الأستاذ ولي: تأيد صدق حادثة الطوفان الواردة في سفر التكوين، لأنه بالبحث في طبيعة أرض العراق، وُجدت طبقات من الغِرْين عمقها 8 أقدام. وتحت هذه الطبقات وُجدت آثار أقدم المدنيات المعروفة لغاية الآن .

(3) وقال أحد علماء اللغة الأشورية: ثبت صدق حروب الملوك ضد سدوم وعمورة التي ذكرها سفر التكوين (14: 17 - 23) من الكتابات الأشورية التي اكتُشفت حديثاً .

(4) وقال العلامة نيابور: الحوادث التاريخية الواردة في العهد القديم صادقةٌ كل الصدق، فهي تنبئنا بكل دقة عن هزائم اليهود، كما تنبئنا عن انتصاراتهم في العهد المذكور .

ج - شهاداتهم عن صدق الكتاب المقدس بصفة عامة:

(1) قال إسحق نيوتن: أثبت البحث النزيه صدق الكتاب المقدس، وأن كل ما جاء به يحمل في طياته البراهين الكافية على صدقه .

(2) وقال رينان بعد زيارته لفلسطين: تجلّى أمامي الآن تاريخ الكتاب المقدس الذي كنت أشك في صدقه بصورةٍ أثارت إعجابي ودهشتي .

(3) وقال غيره: على الرغم من أن كتَبَة الكتاب المقدس لم يقصدوا بهتاريخاً بحتاً، غير أنه أصدق مرجع تاريخي للعصور التي يشير إليها. وتدل القرائن على أنه لم يعد هناك مجال لنقده أو الاعتراض عليه .

(4) وقال أحد أعضاء جمعية الاكتشافات الفلسطينية بقيادة السير جيمز نيل: يا له من أمرٍ عجيب! كنا نظن في أول الأمر أننا سنجد أخطاء كثيرة في الكتاب المقدس، ولكن لم نكن نمكث ثلاثة أسابيع في مكان من الحفريات، إلا وكنا نتحقق أن هذا الكتاب كتب بكل دقة وعناية .

(5) وقال سبرجن: نحن لا ندافع عن الكتاب المقدس، لكنه هو يدافع عن نفسه .

(6) وقال وستكوت: ليس هناك دليل على وجود أي اتفاق مقصود بين كتَبَة أسفار الكتاب المقدس، وهذا دليل على نزاهتهم .

(7) وقال أودلف سفير اليهودي المتنصِّر: للكتاب المقدس هدف واحد، فليس هناك أي تعارض بين العهدين القديم والجديد، فالعلاقة بينهما مثل العلاقة بين المسألة وحلّها، أو أساس البيت وجدرانه، مما يدل على أن كتَبَته جميعاً كانوا منقادين بروح الله نفسه .

(8) وقال هنري مارتن: يشبه الكتاب المقدس قصراً بناه كثيرون، ولكن الذي وضع تصميمه شخص واحد . أي أنه كله موحى به من الله.

(9) وقال الأستاذ فيليب مورو: من يتتبّع تاريخ الفكر البشري يتضح له عدم استقراره على حالة واحدة، فآراء الناس تختلف باختلاف عقولهم وباختلاف البلاد والعصور التي يعيشون فيها. أما الكتاب المقدس، فعلى الرغم من اختلاف الذين كتبوه (من جهة ثقافتهم والبلاد والعصور التي عاشوا فيها) فليس هناك أي اختلاف أو تعارض في ما كتبوه، ممّا يدل على أنهم لم يكونوا إلا آلاتٍ في يد الله نفسه .

الفصل الثالث

سلامة الإنجيل من الناحية العقلية

 

1 - استحالة حدوث التحريف، ووجود إنجيل واحد للمسيحيين:

لا يمكن أن يكون المؤمنون الحقيقيون قد قاموا بإجراء أي تحريف في الإنجيل، لأن هذا العمل وزر لا يمكن أن يكون قد خطر ببال واحدٍ منهم. ولا يمكن أيضاً أن يكون بعض المؤمنين بالاسم قد قاموا بالتحريف المزعوم في نسخ الإنجيل التي كانت بين أيديهم، لأنهم لو كانوا قد قاموا به، لثار المؤمنون الحقيقيون ضدهم وقضوا عليه. ولو فرضنا جدلاً أن المؤمنين الحقيقيين لم يقضوا على التحريف المزعوم، لكان يوجد الآن إنجيلان مختلفان، الأول هو الخالي من التحريف، والثاني هو المُصاب به. ولكن لا يوجد سوى إنجيل واحد، هو المستعمل لدى جميع المسيحيين في كل العصور والبلاد. فالقول بحدوث تحريف في الإنجيل لا يتفق مع العقل على الإطلاق.

2 - بقاء الآيات التي تتعارض في ظاهرها مع عظمة المسيح، ووحدانية الله:

هدف التحريف أو التزوير (كما نعلم) هو الحصول على فائدة ما. فلو فرضنا جدلاً أن بعض المسيحيين سوَّلت لهم نفوسهم أن يحرفوا شيئاً من الإنجيل لَحَذفوا ما يأتي:

(أ) الآيات التي تتعارض في ظاهرها مع عظمة المسيح مثل الآيات الخاصة بولادته في مذود للغنم (لوقا 2: 7) وهروبه إلى أرض مصر، واحتقار بعض الناس له واتهامهم إياه بأنه مختل وبه شيطان (متى 13: 55 ومرقس 3: 21 و22 ويوحنا 7: 20). وكذلك الآيات الخاصة باعتراض أحد تلاميذه عليه وإنكار علاقته به، وخيانة يهوذا وتسليمه المسيح لليهود ليصلبوه طمعاً في دريهمات معدودات، وهروب باقي التلاميذ وتركهم إياه وحيداً (الواردة في متى 26: 15 و56 و74)، وغير ذلك من الآيات التي كان الوثنيون يعيِّرون المسيحيين بها.

ومن ناحية أخرى لكانوا قد أسندوا إلى المسيح عمل المعجزات منذ طفولته، وقبول السجود من الحيوانات والأشجار، والتصفيق من الجبال والتلال. ولوصفوه أيضاً بملاحة الوجه وطول القامة واعتدال القوام وقوة العضلات وغزارة الشعر. ولأطنبوا كذلك في ذكر صفاته وحسَبه ونسَبه وغيرها من الأمور التي كان يتفاخر الناس بها قديماً.

(ب) الآيات الخاصة بأن الله الواحد الأحد هو الآب والابن والروح القدس، والخاصة بأن المسيح هو ابن الله. أو لفسَّروها تفسيراً يضع حداً لاعتراضات الوثنيين واليهود. ولم يكن هذا بالأمر العسير عليهم، كما يتضح مما يلي:

(1) لا يُراد بالآب والابن والروح القدس المعاني المادية بل الروحية، كما لا يُراد بهم أقانيم منفصل أحدهم عن الآخر، بل يراد بهم ذات واحدة هي ذات الله، وذلك من جهة كونه ذا علاقات بينه وبين ذاته أزلاً، وبينه وبيننا في الزمان. وقد بحث العلماء عقيدتنا هذه، فقال ابن رشد في كتاب تهافت التهافت ص 32 : إن النصارى لا يرون أن الأقانيم زائدة عن الذات، وإنما هي عندهم كثيرة بالقوة لا بالفعل. ولذلك يقولون إن الله ثلاثة وواحد. أي واحد بالفعل وثلاثة بالقوة . وقال غيره في كتاب العقائد النسفية ص 162 : لا مخالف في مسألة توحيد واجب الوجود إلا الثنوية، دون النصارى . وقال الأستاذ عباس محمود العقاد في كتاب الله - ص 171 : الأقانيم (عند المسيحيين) جوهر واحد، و·الكلمة و·الآب وجود واحد. وحين تقول الآب لا تدل على ذات منفصلة عن الابن لأنه لا انفصال ولا تركيب في الذات الإلهية . والأقنوم كلمة سريانية يُراد بها من يتميّز عن غيره دون أن يكون له ظل. وفي الوقت نفسه يتحد مع آخر في الذاتية والجوهر بكل خصائصهما ومميزاتهما. ولذلك لا تُطلق هذه الكلمة إلا على كل من الآب والابن والروح القدس لأنهم ذات الله الواحد.

ولإزالة كل لبس من جهة اعتقادنا، نحن المسيحيين، في ذات الله، نقول: إن الله يتصف بصفات إيجابية مثل المحبة والعلم والإرادة والبصر والسمع والكلام. وهذه الصفات لا يمكن أنها كانت عاطلة أزلاً، ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات، بل لا بد أنها كانت عاملة أزلاً قبل خلق هذه الكائنات. وإلا كان الله قد تغيّر وتطوّر، فأخذ يحب بعد أن كان لا يحب، ويريد بعد أن كان لا يريد، وهلم جراً. وهو لا يتغير ولا يتطور. وعمل صفات الله أزلاً يتطلب إما وجود أزليين معه، أو وجود تركيب في ذاته. وبما أنه ليس هناك أزلي سواه، وفي الوقت نفسه ليس فيه تركيب، إذن لا بد أنه كان يمارس صفاته بينه وبين ذاته نفسها.

وإذا كان الأمر كذلك، لا تكون وحدانيته وحدانية مطلقة، بل وحدانية شاملة أو جامعة. وقد عرف هذه الحقيقة معظم علماء الكلام. فمثلاً قال البيجوري: والحاصل أن الوحدانية الشاملة هي وحدانية الصفات ووحدانية الأفعال . وقال غيره: وحيث أن صفاته تعالى حقيقية، لم يكن بسيطاً من كل وجه . وقال صاحب التحقيق: أرى الكثرة في الواحد وإن اختلفت حقائقها وكثرت، فإنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين . وقال الشيخ محيي الدين بن عربي: أمرنا بالاستفادة بالاسم الجامع الذي هو أحد أسماء الله الحسنى المعروفة. وقال أيضاً: الله عين ما ظهر وعين ما بطن. فالأمر حيرة في حيرة. واحد في كثرة وكثرة مردُّها إلى واحد . وقال غيره: من غلبت عليه الوحدة من كل وجه كان على خطر (مشكلة الألوهية، وفصوص الحكم، وحاشية الأمير على الجوهرة، وتحفة المريد على جوهرة التوحيد). وقد بحثنا هذا الموضوع بالتفصيل في كتب الله الثلاثة، فليرجع إليها القارئ إذا أراد.

(2) أما من جهة الاصطلاح ابن الله ، فلا يُراد به المعنى الحرفي كما ذكرنا، لأن الله لم يلد ولم يولد، إذ أنه روح محض (يوحنا 4: 24)، بل يراد به المعنى الروحي. والمعنى الروحي للابن بالنسبة إلى الله، هو المعلِن لذاته تعالى .

ولذلك يُدعى ابن الله كلمة الله لأن كلمة الكائن هي التي تعلن ذاته. وقد أشار المسيح إلى هذه الحقيقة فقال عن نفسه: اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى ا لْآبَ (يوحنا 14: 9). فإذا كان من اللازم لكمال الله أن يكون قائماً بكلمته أزلاً (لأنه لولا ذلك، لكان قد تعرَّض للتغيُّر، إذ يكون بدون كلمة أصلاً، ثم اتَّخذ له كلمة) أدركنا أن المسيح من الناحية الجوهرية هو الذي يعلن الله لذاته منذ الأزل الذي لا بدء له. ومن الناحية الجسدية التي اتخذها من العذراء، هو الذي أعلن الله لنا، عندما كان له المجد على الأرض بيننا.

وقد أدرك هذه الحقيقة بعض العلماء، فقال الشيخ أبو الفضل القرشي: يمكن أن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأنه لا إله إلا الله (حاشيته على تفسير البيضاوي ج 3 ص 142). وقال الأستاذ عباس محمود العقاد: جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإِلهية (الله - ص 159). والصورة الجميلة للذات الإِلهية هي الصورة الكاملة لها. وصورةٌ مثل هذه لا يمكن أن يعلنها إلا الله أو أقنوم من أقانيمه، لأن البشر والملائكة جميعاً كائنات محدودة، وفي الوقت نفسه معرّضة للخطأ، فلا يمكن أن يأتي ملاك أو إنسان بهذه الصورة على الإطلاق. ولذلك لا يكون ابن الله هو المعلِن لله فقط، بل يكون أيضاً هو الله معلَناً لأنه لا يعلن ذات الله إلا الله . وكان هذا الحق معروفاً عند اليهود المعاصرين للمسيح (يوحنا 5: 18) بسبب وجود إشارة عنه في توراتهم (مزمور 2: 7 - 9 وأمثال 30: 4).

كما أن هذا التفسير الذي ذكرناه عن معنى ابن الله ليس أمراً غريباً عنا نحن الناطقين بالضاد، فنحن نقول بنات الفكر بمعنى الفكر معلَناً وجلياً.

3 - بقاء الآيات التي تتعارض مع غرائز البشر وميولهم:

ولو فرضنا أيضاً أن بعض المسيحيين حرّفوا شيئاً من الإنجيل، لحذفوا منه الآيات التي تنهى عن الطلاق ومحبة المال، والتي تأمر بمحبة الأعداء والإحسان إليهم والصلاة لأجلهم (مثل متى 5: 31 و43 - 48 و6: 19 - 34) وغير ذلك من الآيات التي تنفِّر معظم البشر من المسيحية. ومن ناحية أخرى، لأضافوا إلى الإنجيل العبارات التي تفتح المجال أمام البشر للقيام بالأعمال التي تميل إليها غرائزهم (مثل الأخذ بالثأر، والزواج بأكثر من واحدة، وجمع المال وتكديسه)، وفي الوقت نفسه تسهّل أمامهم طرق الحصول على غفران الخطايا التي يرتكبونها (وذلك بالصيام لبضعة أيام أو إعطاء شيء من المال للفقراء، أو القيام ببعض الصلوات) والتي تصّور لهم أيضاً متع الحياة الأخرى بصورة تأخذ بمجامع قلوبهم، مثل الأطعمة الشهية والملذات الجسدية وما شاكلها حتى يعتنقوا المسيحية.

لكن بالرجوع إلى الإنجيل يتضح لنا ما يأتي:

أ - إنه ينهى عن مقابلة الشر بالشر (متى 5: 38-42) وذلك حسماً له ومنعاً من انتشاره. وينهى عن الزواج بأكثر من واحدة (متى 19: 4-6) لكبح جماح الشهوات وضمان سلامة الأسرة. وينهى عن تكديس المال (متى 16: 19-21) لإفادة كثيرين منه. ومن الناحية الأخرى يوصي بالسلوك بالقداسة والأمانة حتى نكون كاملين كما أن الله كامل (متى 5: 48).

ب - ويعلن أن الخطية بالفكر أو القول تحرم صاحبها من التوافق مع الله لأنه كامل، ولا يتوافق مع الكامل إلا الكامل. ولذلك فإن عقاب الخطية في أصغر مظاهرها هو الحرمان الأبدي من الله، أو بالحري هو الطرح في جهنم إلى أبد الآبدين (متى 5: 22). كما يعلن أن الأعمال الصالحة لا تستطيع التكفير عن الخطية. لأن هذه الأعمال مهما كثرت هي محدودة في قدرها، وحق الله الذي أُسيء إليه بسببها لا حدّ له. والأشياء المحدودة في قدرها لا تستطيع إيفاء مطالب أمرٍ لا حدّ له. ومن ناحية أخرى بما أنه لو غفر الله خطايانا دون مراعاة لحقوق عدالته، لكانت رحمته قد طغت على عدالته، ومحبته على قداسته. وهذا ما لا يجوز حدوثه في ذات الله، الذي لكماله المطلق لا تطغى فيه صفة على صفة أخرى. فمن البديهي أن يقوم الله بإيفاء مطالب عدالته وقداسته بينه وبين نفسه، أو بالحري أن يتقبل فيها عار خطايانا وقصاصها على نحوٍ ما، قبل أن يغفرها لنا. وهذا هو عين ما فعله في موت المسيح الكفاري على الصليب، فعلى الصليب التقى العدل بالرحمة (مزمور 85: 10).

ج - ويعلن الإنجيل لنا أن الحياة الأخرى لا مجال فيها للأكل أو الشرب أو الزواج (متى 22: 30 ورومية 14: 17) لأن المؤمنين الحقيقيين سيكونون هناك كملائكة الله، لذَّتهم الوحيدة هي التمتع بجلاله وتقديم العبادة اللائقة به بكل محبة وسرور.

مما تقدم يتضح لنا أن الإنجيل خالٍ خلواً تاماً من الوصايا التي تحبِّب معظم الناس في المسيحية. وهو في الوقت نفسه مليء بالوصايا التي تنفِّرهم منها، رضوا بذلك أم لم يرضوا. فلا يُعقل إطلاقاً أن يكون بعض المسيحيين قد سّوَلت لهم نفوسهم أن يحذفوا من الإنجيل شيئاً، أو يضيفوا إليه شيئاً آخر.

 

الفصل الرابع

سلامة الإنجيل من الناحية الموضوعية

 

الذي يقوم بالتحريف عادةً يكون متأثّراً بعقائد وعادات البشر التي يعرفها. ولكن تعاليم الإنجيل خالية من أي أثرٍ لهذه وتلك، وهذا يؤكد لنا أنه لا يمكن أن تكون يد التحريف قد امتدّت إليه. وللإيضاح نتحدث فيما يلي عن العقائد والعادات التي كانت منتشرة بين اليهود، وبين الوثنيين من الرومان واليونان، الذين عاش بينهم المسيحيون الأوائل، ثم نقارنها بعد ذلك بما ورد في الإنجيل من تعاليم.

1 - عقائد وعادات اليهود والوثنيين في القرون الأولى:

أ - عقائد اليهود وعاداتهم: فاليهود مع إيمانهم بكمال الله وقدرته، كانوا يعتقدون أنه هو الذي يرسل الخير والشر معاً إلى الناس، وأنه لا يتصل بالأتقياء منهم مباشرة بل بواسطة ملائكة تحمل عطاياه إليهم، وترفع عبادتهم إليه. وأن العبادة يجب أن تكون في أورشليم وحدها، ولا يقبلها الله إلا إذا اقترنت بالذبائح والطقوس. وأن الاغتسال بالماء ضروري جداً قبل القيام بها، وأن حق الاقتراب إلى الله مقصور على أهل الختان، لأن غير المختون كان يُعتبر نجساً أمام الله. وأن تقاليد الآباء هي في مرتبة الناموس الذي أعطاه الله لموسى النبي، ولذلك يجب احترامها احترام الناموس، حتى إذا كانت متعارضة مع الناموس في بعض الأمور.

كما كانوا يعتقدون أنهم بسبب انتسابهم الجسدي إلى إبرهيم الخليل، فهُم وحدهم شعب الله المختار. وإذا صافحوا إنساناً من جنس آخر أو تعاملوا معه في بيعٍ أو شراء كانوا يغسلون أيديهم وينفضون الغبار الذي علق بثيابهم منه قبل الدخول إلى منازلهم. وأن يوم السبت يوم مقدس يحرمون فيه حتى عمل الخير، كما يحرّمون مجرد قطف السنابل من الحقول لأكلها، ويحرّمون تطلّع امرأة إلى مرآة خشية أن تجد شعرةً بيضاء في رأسها فتنزعها في السبت. كما كانوا يعتقدون أن النساء طبقة حقيرة، ولذلك كان الرجال اليهود يشكرون الله في صلواتهم لأنه لم يخلقهم نساءً. وأن رجال الدين مهما كانت أخلاقهم يستحقون كل إكرام واحترام، ولذلك كانوا يطلقون عليهم الربيين أي السادة .

وبالإضافة إلى ذلك كانوا يحبون الصلاة في الأزقّة والشوارع، وتقديم الصدقات على مرأى من الناس، لينالوا مدح الناس. كما كانوا يعتبرون حتى الأكل بأيدٍ غير مغسولة نجاسة يتجنّبونها تماماً. وتحت هذا الستار الديني، أو بالحري الرياء الديني، كانوا يستبيحون كل الشرور والآثام. كما كانوا يبيحون تعدّد الزوجات، وكذلك الطلاق لأتفه الأسباب. فقد كان عدم إتقان الزوجة لطهي الطعام ولو مرة واحدة، أو تحدُّثها مع رجل في أي موضوع من الموضوعات، سبباً كافياً لطلاقها لأنها لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً (تث 24: 1) في عين زوجها ذلك اليوم فقط!

ب - عقائد الوثنيين وعاداتهم: وكان السواد الأعظم منهم يعبدون الكواكب والأوثان والأباطرة والعظماء. أما الفلاسفة الذين سمت مداركهم واهتدوا إلى وجوب وجود خالق عظيم للكون، فقد قال بعضهم إنه الأثير، وقال البعض الآخر إنه موجود لا يتصف بصفة إيجابية ولا تربطه بالعالم رابطة حقيقية. وكانوا يعتقدون أن المادة أزلية وأنها هي السبب في وجود الشر في العالم، وأن الكواكب لها نفوس تحرّكها في أفلاكها. وأن أرواح البشر خُلقت قبل ولادة أجسادهم من أمهاتهم، وأنها تحيا في هذه الأجساد ليس وفقاً لمشيئتها بل وفقاً لأحكام القَدَر. وأنها تتناسخ بعد موت أجسادها في حيوانات تأديباً لها على ما تكون قد ارتكبته من آثام. فكان كثيرون ينكرون البعث والقيامة من الأموات.

وكان اليونان والرومان يعتقدون أنهم وحدهم الحكماء، وأن باقي الناس برابرة أو جهلاء. كما كانوا لا يشفقون على طفلٍ صغير أو شاب في مقتبل العمر أو شيخ كلّل الشيب رأسه، بل كانوا يقتلون الطفل والشيخ إذا كان هزيلاً. ويقتلون الشاب إذا كان وجهه قبيحاً. وبالإضافة إلى ذلك كانوا يطلقون العنان للغريزة الجنسية لينالوا رضى الآلهات لديهم، كما كانوا يزعمون!!

2 - خلو الإنجيل من العادات والعقائد اليهودية والوثنية:

فإذا نظرنا إلى العقائد والعادات السابقة، لا نرى أثراً لها في الإنجيل، كما يتضح مما يلي:

أ - فهو يعلن أنه لا إله إلا الله، وأنه وحده هو الأزلي، وأنه خالق كل ما عداه، وأن الكواكب تتحرك في أفلاكها حسب النظام الذي وضعه لها، وأن أرواح البشر لم يكن لها وجود قبل أجسادهم، بل أنها تولد معها. وأنها تحيا في العالم ليس بقوة الجبر أو القَدَر، بل بمطلق حريتها وإرادتها. كما أنها لا تنتقل بعد موت أجسادها إلى الحيوانات، بل إلى الهاوية أو إلى الفردوس حسبما يكون إيمانها وعملها.

ب - ويعلن أن الله يتّصف بكل صفات الكمال الإيجابية، وأنه يتّصل بالمؤمنين الحقيقيين اتصالاً مباشراً، وأنه مصدر الخير لهم ولغيرهم من البشر. أما الشر الذي يصيب بعضهم، فهو نتيجة سوء تصرفهم. وأن العبادة تكون للّه وحده، وأنها يمكن أن تكون في أي مكان، لأن الله لا يتحيَّز بحيِّز، ولأنه لا يفضِّل مكاناً على مكان. وأن الطقوس والنظم الدينية مهما كانت جميلة وجذابة في نظر الناس، فهي ليست بذات قيمة أمامه، لأن العبادة التي يرتضيها هي ما كانت بالروح والحق. وأنه لا حاجة لتقديم الذبائح الحيوانية كفارة عن الخطية بعد أن قدَّم المسيح نفسه كفارةً، فوفى كل مطالب عدالة الله وقداسته من جهة المؤمنين الحقيقيين. وأن العبادة إذا كانت فردية، يجب أن تكون في الخفاء، وهكذا يجب أن تكون الصَّدَقَة، حتى تكون كلتاهما للّه دون سواه. والاغتسال الذي يجب أن نقوم به قبل الصلاة، ليس تنظيف بعض أجزاء الجسم بالماء، بل إزالة الأفكار الشريرة من النفس، حتى تتهيأ للاتصال بالله والتمتع به.

ج - ويعلن أن الناس جميعاً سواسية أمام الله، فلا فرق بين أبيض وأسود أمامه. وأن مجرد الانتساب الجسدي إلى نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل لا يعود على أحد من ذريته أو تابعيه بخيرٍ ما، لأن المهم هو الانتساب الروحي للّه والسير في سبيله بالإيمان. وأن رجال الدين مهما كانت مكانتهم في العالم، هم خدَّامٌ للمؤمنين وليسوا رؤساء عليهم. كما أنهم إذا كانوا أشراراً يجب نبذهم والتحوُّل عنهم، لأن مكانتهم لا تتوقف على مراكزهم بل على سلوكهم. وأن الدستور الذي يجب أن يسير عليه رجال الدين وغيرهم من الناس هو كلمة الله دون سواها، لأن تقاليد القدماء، وإن كانت تتضمن بعض الفوائد، غير أنها لا تخلو من الخطأ، لأن واضعيها ليسوا معصومين في التعليم أو السلوك. وأن الختان الذي يطلبه الله ليس هو الختان الجسدي بل الختان الروحي، أو بالحري نزع الخطية من القلب تماماً.

د - ويعلن أن الخطية ليست هي فعل الشر فحسب، بل هي مجرد التفكير فيه (أمثال 24: 9) والتفوُّه به (متى 5: 22). كما أنها هي التقصير في عمل الخير (يعقوب 4: 17) والانصراف الذهني عن الله (مزمور 9: 17).

وتقديس يوم في الأسبوع لا يعني الكفّ فيه عن الأعمال الخيرية، بل بالعكس يُراد به التفرُّغ للقيام بهذه الأعمال، بالإضافة إلى عبادة الله وتمجيده. ولا حرج على المؤمنين في يوم الرب من الأكل والشرب وغيرهما من الأعمال الضرورية، التي لا يمكن تأجيلها إلى يوم آخر. وأن المرأة ليست أقل من الرجل ولا الرجل أعظم من المرأة، بل إنهما واحد أمام الله. وأن الطلاق وتعدُّد الزوجات غير جائزين، لأن الله خلق من البدء امرأةً واحدة لرجلٍ واحد، وجعلها لحماً من لحمه وعظماً من عظامه، ولذلك فلا طلاق بينهما إلا لعلة الزنا.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لم يحدث أي تغيير في الإنجيل، بل إنه باق كما هو، وحي الله الذي يسمو فوق آراء البشر وتصّوُراتهم في كل العصور والبلاد.

 

الفصل الخامس

سلامة الإنجيل من الناحية الدينية

 

1 - وجود رموز ونبوَّات في العهد القديم تشير إلى الكثير مما جاء في الإنجيل:

أوحى الله بالعهد القديم إلى موسى النبي وغيره من أنبياء إسرائيل، ويتمسك به اليهود الذين لا يؤمنون بالمسيحية لغاية الآن. والعهد القديم مليء بالرموز والنبوات عن المسيح، وولادته العذراوية، واسم الأسرة التي يولد منها، والبلدة التي يولد فيها. وتدل تلك النبوات أيضاً على أعماله وصفاته، وموته كفارةً عن البشر وقيامته بعد ذلك من بين الأموات، وغير ذلك من الأمور الخاصة به. وبمضاهاة هذه النبوات وتطبيق تلك الرموز على ما ورد في الإنجيل عن المسيح، نرى أن كلاً منها ينطبق عليه كل الانطباق.

فمن جهة شخصيته قارن مثلاً إشعياء 9: 6 مع لوقا 1: 32 و33. ومن جهة ولادته العذراوية قارن إشعياء 7: 14 مع لوقا 1: 31. ومن جهة الأسرة التي يولد منها قارن ميخا 5: 2 مع متى 1: 2 و3 و2: 5 و6. ومن جهة أعماله وتصرفاته قارن إشعياء 42: 1-9 مع متى 12: 14-21. ومن جهة موته كفارةً قارن إشعياء 53 مع يوحنا 10: 11. ومن جهة قيامته من بين الأموات قارن مزمور 16: 10 مع متى 28: 6 - الأمر الذي يدل على عدم حدوث أي تحريف في الإنجيل.

وقد قام عالم رياضيات أمريكي اسمه بيتر ستونر بحساب نسبة تحقيق 48 نبوة بطريق الصدفة، فوجد أن لها فرصة واحدة، من بين عدد هو واحد أمامه 181 صفراً من الفرص. فمن المستحيل أن يكون تحقيق تلك النبوات بطريق الصدفة!

2 - تحريض الوحي على التمسُّك الشديد بكل آياته، وإنذاره لمن يزيد عليها أو يحذف منها:

أمر الله من جهة آياته: اُرْبُطْهَا عَلَى قَلْبِكَ دَائِماً. قَلِّدْ بِهَا عُنُقَكَ. إِذَا ذَهَبْتَ تَهْدِيكَ. إِذَا نِمْتَ تَحْرُسُكَ، وَإِذَا ا سْتَيْقَظْتَ فَهِيَ تُحَدِّثُكَ (أمثال 6: 21 و22) وأمر أيضاً: لْتَكُنْ,,, عَلَى قَلْبِكَ، وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلَادِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ وَحِينَ تَمْشِي فِي ا لطَّرِيقِ وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ، وَا رْبُطْهَا عَلَامَةً عَلَى يَدِكَ، وَلْتَكُنْ عَصَائِبَ بَيْنَ عَيْنَيْكَ، 9éوَا كْتُبْهَا عَلَى قَوَائِمِ أَبْوَابِ بَيْتِكَ وَعَلَى أَبْوَابِكَ (تثنية 6: 6-9). وأيضاً: لا تمِلْ عنها يميناً أو شمالاً لكي تفلح حيثما تذهب. لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهاراً وليلاً لكي تتحفّظ للعمل حسب كل ما هو مكتوب فيه (يشوع 1: 7 و8).

كما أمرهم: ولا تزيدوا على الكلام... ولا تُنقصوا منه، لكي تحفظوا وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها (تثنية 4: 2). و·كُلُّ ا لْكَلَامِ ا لَّذِي أُوصِيكُمْ بِهِ ا حْرِصُوا لِتَعْمَلُوهُ. لَا تَزِدْ عَلَيْهِ وَلَا تُنَقِّصْ مِنْهُ (تثنية 12: 32). وحذَّرهم: إن كان أحد يزيد على هذا (أي كتاب النبوَّة) يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة، يحذف الله نصيبه من سفر الحياة (رؤيا 22: 18 و19). فلا يمكن لمسيحي أن يحذف كلمة من الكتاب المقدس أو يضيف أخرى إليه.

3 - ترحيب المسيحيين بالاضطهاد في سبيل التمسُّك بما جاء في الإنجيل:

أ - لو أن المسيحيين الأوائل حرَّفوا آيةً من الآيات الخاصة بشخصية المسيح أو موته الكفاري نيابة عن البشر (اللذَيْن هما أهم موضوعات الكتاب المقدس) لَمَا كانوا يعرِّضون أنفسهم للاضطهادات القاسية التي كانت تحلّ بهم منذ القرون الأولى، من اليهود والوثنيين على السواء، بسبب هذين الموضوعين. لأنه ليس هناك عاقل يعرّض نفسه للاضطهاد بسبب أمرٍ لا نصيب له من الصواب، زوَّره واختلقه هو بنفسه!

وقد أشار الأستاذ عباس محمود العقاد إلى هذه الحقيقة فقال: ومن بدع (أهل) القرن العشرين سهولة الاتهام كلما نظروا في تاريخ الأقدمين فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها وصِفاتٍ لا يشاهدونها ولا يعقلونها. ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان أو أعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمُّد الكذب والاختلاق. فشتّان عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقاً لعقيدته، وعمل المحتال الذي يكذب، ويعلم أنه يكذب، وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب. مثل هذا لا يُقْدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن يوجد بين الكذَبَة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون. فإذا كان المؤلف الصادق مَن يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين أن الرسل لم يكذبوا في ما رووه، وفي ما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوه ممن رآه (عبقرية المسيح ص 118 و189).

4 - بُطلان الدعوى بوجود اختلاف بين كتبة الإنجيل:

أ إن ما يقال عنه اختلاف بين كَتَبَة الإنجيل الذي يتّخذه البعض دليلاً على حدوث تحريف فيه (كما يدَّعون) هو اختلاف لفظي فحسب، وأسبابه (1) إن كلاً من كتبة الإنجيل كتب على انفراد (2) وإنه كتب إلى جماعة تختلف عن الجماعات التي كتب إليها الآخرون، من جهة الثقافة والعادات. (3) كما أن كلاً منهم كتب إلى جماعته عن ناحية من شخصية المسيح، رأى بإرشاد الله ضرورة توجيه أنظارهم إليها بصفة خاصة. فهذا الاختلاف ليس اختلاف التعارض، بل تنوُّع التوافق والانسجام.

ب فإذا أضفنا إلى ذلك (1) أن وجود أربعة كتب لأشخاصٍ مختلفين (من جهة السن والثقاقة والطباع والجنسية، كما ذكرنا في الفصل الأول) عن سيرة المسيح، أفضل جداً لدى الباحثين عن الحقيقة مما لو كان هناك كتاب واحد عن سيرته. (2) أن اتفاق الشهود في حادثةٍ ما، من جهة كل لفظٍ فيها، مدعاةٌ للطعن في شهادتهم بدعوى التواطؤ، بينما اختلافهم في اللفظ دون المعنى (مع مراعاة الظروف الثلاثة الخاصة بكَتَبة الإنجيل) دليل على صدق شهاداتهم.

ج كان كتبة الإنجيل على درجةٍ سامية من القداسة والأمانة وإنكار الذات، حتى استطاعوا التأثير على كثيرين من اليهود والوثنيين، فصرفوهم عن أهوائهم وشهواتهم المتعددة، وقادوهم إلى حياة الطاعة للّه والتوافق معه في صفاته الأدبية السامية. وهذا يبرهن لنا أنه لا مجال للقول بحدوث اختلاف في الإنجيل، الأمر الذي يبطل القول بعدم جواز الاعتماد عليه.

ويقول الأستاذ عباس محمود العقاد: إذا اختلطت الروايات في أخبار المسيح، فليس في هذا الاختلاط بدع، ولا دليل قاطع عن الإنكار، لأن الأناجيل تضمَّنت أقوالاً في مناسباتها لا يسهل القول باختلافها، لأن مواطن الاختلاف بينها معقولة مع استقصاء أسبابها والمقارنة بينها وبين آثارها. كما أن مواضع الاتفاق بينها تدل على أنها رسالة واحدة من وحيٍ واحد (عبقرية المسيح ص 88-90 و·الله ص 149 و154 و194).

5 - بطلان الدعوى بحدوث تحريف في التوراة:

أ - كانت التوراة موجودة في أيدي اليهود قبل مجيء المسيح بمئات السنين. فكانت هناك نسخ منها في الهيكل والمجامع والمدارس الدينية. وكان الكهنة واللاويون يقدسون هذه النسخ كل التقديس ويحافظون عليها بكل دقة وعناية (تثنية 31: 9 و2ملوك 22: 8). كما كانت هناك أيضاً نسخ منها في أيدي القضاة والملوك وأتقياء اليهود والكتبة والفريسيين والناموسيين (تثنية 17: 18). وكان هؤلاء جميعاً يواظبون على قراءتها كل يوم، كما كانوا يعرفون عدد آياتها وكلماتها وحروفها، بل وأيضاً عدد المرات التي تستعمل فيها كل كلمة وكل حرف أيضاً.

ب - فضلاً عن ذلك فإنه لخوفهم الشديد من التعرض لقضاء الله المريع إذا حدث خطأ ما في كتابة التوراة، كانوا لا يعهَدون بنَسْخها إلا لفئة خاصة من رجال الدين الملمِّين بها، وكان هؤلاء يصلّون كثيراً قبل قيامهم بعملهم هذا حتى لا يخطئوا. وإذا وصلوا إلى كتابة اسم الجلالة كانوا يستبدلون القلم الذي يكتبون به بقلمٍ آخر، ثم في خشوع وورع عظيمين يكتبون هذا الاسم الكريم. وعندما يفرغون من كتابة التوراة، كانوا يسلّمونها إلى غيرهم للمراجعة. وكان هؤلاء يراجعونها كلمة كلمة. ولكي لا يكون لديهم شك في دقة المراجعة كانوا يُحْصون عدد كلمات التوراة المكتوبة وعدد حروفها وعدد كل نوع من الحروف أيضاً، ويطابقون كل ذلك على النسخة الأصلية. فإذا وجدوا أخطاء قليلة، كتبوا صوابها. أما إذا وجدوا أخطاء كثيرة، أحرقوا النسخة التي يراجعونها في الحال.

ج - فإذا أضفنا إلى ما تقدَّم أن المسيح وتلاميذه كانوا يقتبسون في أقوالهم الكثير مما ورد في التوراة من نبوات وشرائع، حتى بلغ ما اقتبسوه من هذه وتلك حوالي 200 آية (كما يظهر بكل بيان على صفحات العهد الجديد) اتضح لنا بدليل قاطع أنه لا يمكن أن يكون قد أصاب التوراة تحريف ما.

ونظراً لأن قدامى العلماء كانوا يثقون كل الثقة أن التوراة هي أقوال الله، وأنها لم تتعرض لأي تحريف، كانوا يواظبون على تلاوتها. فمن المأثور عن أبي جلد أنه كان يقرأ القرآن في سبعة أيام والتوراة في ستة، يقرأها نظراً، وكان يومها يقول: تنزل عند ختمها الرحمة (ضحى الإسلام ج1 ص33).

أما ما يظنه بعض المسلمين تحريفاً في آية من آيات التوراة أو الإنجيل، فيرجع في الواقع إلى تفسير علماء المسيحيين لها تفسيراً يختلف عما يراه هؤلاء المسلمون. وقد أشار الإمام الرازي إلى هذه الحقيقة في تفسيره فقال: كيف يمكن التحريف في الكتاب الذي بلغت آحاد حروفه وكلماته مبلغ التواتر المشهور في الشرق والغرب. ولكنهم يحرفونه أي يؤوّلونه على غير تأويله (الرازي في تفسير البقرة 2: 75).

وبما أنه لم يحدث تحريف في التوراة أو الإنجيل حتى قرن 14م (الذي ظهر فيه مفسِّرو القرآن القدامى) فمن البديهي أن لا يكون قد حدث تحريف فيهما بعد ذلك، لأنهما كانا قد انتشرا في بلاد أكثر من التي كانا منتشرين فيها، كما كانا قد تُرجما إلى لغاتٍ أكثر من التي كانا مترجمين إليها. فضلاً عن ذلك فقد أقبل على دراستهما وحفظهما وتفسيرهما أشخاص أكثر جداً من الذين كانوا يفعلون ذلك من قبل، في كل البلاد.

ويسجل لنا ابن كثير في تفسيره للمائدة 5: 43-48 وجود نسخة سليمة من التوراة كانت بين يدي نبي الإسلام، عندما جاء بعض اليهود يسألونه عن عقوبة الزنا، فأخذ الوسادة التي كان يجلس عليها ووضع التوراة فوقها (وكانت باللغة العبرية) ثم أمسك بالتوراة وقال: آمنت بك وبمن أنزلك . وقد جاء الحديث نفسه في سنن أبي داود (مشكاة المصابيح، تحقيق الألباني رقم 4449).

 

الكتاب الثاني

إنجيل برنابا

تمهيد

لم يكن برنابا الوارد ذكره في الكتاب المقدس واحداً من تلاميذ المسيح، كما أنه لم يكن من سكان فلسطين الذين شاهدوا أعمال المسيحوسمعوا تعاليمه، بل كان يهودياً من سكان جزيرة قبرص. ولما سمع الإنجيل بعد صعود المسيح إلى السماء بتسع سنوات تقريباً، آمن به مثل غيره من اليهود (أعمال 4: 36 و37). فلو فرضنا جدلاً أنه هو الذي كتب الإنجيل الذي ينسبونه إليه، لما جاز لأحدٍ أن يصدقه، لأن الشرط الأساسي في صدق الإنجيل أن يكون كاتبه واحداً من تلاميذ المسيح، أو رفيقاً له شاهد بنفسه كل أعماله.

أما الكتاب المسمى الآن إنجيل برنابا والذي ترجمه إلى العربية السيد خليل سعادة، ونشره في مصر السيد محمد رشيد رضا، فليست لكاتبه علاقة ببرنابا الذي ذكرناه. ومع أن الكاتب يقول إنه كان أقرب الرسل إلى المسيح وأحبّهم إليه، غير أنه ليس هناك شخص مسيحي يصدقه أو يقبل كتابه، لأسباب متعددة سنأتي على ذكرها.

لكن الذين يقبلونه، هم فقط فريق من إخواننا المسلمين الذين لم يدرسوا محتوياته دراسة دقيقة، ولكنهم يقبلونه لسببين رئيسيين:

 

(1) قوله إن المسيح ليس ابن الله، بل هو إنسان عادي,

(2) وقوله إنه لم يُصلب بل أُلقي شَبَهه على يهوذا الإسخريوطي، فصُلب بدله. لكن فضلاً عن أن الإنجيل الموجود بين أيدينا الآن، هو الإنجيل الحقيقي (كما اتضح لنا في الكتاب السابق) الأمر الذي لا يدع مجالاً للاعتقاد بصدق الإنجيل المنسوب إلى برنابا هذا، نقول: إن إنجيله أو بالحري كتابه، هو كتاب مزيف أُدخل حديثاً خلسةً إلى العالم مثل غيره من الكتب المزيفة، لتشويه الحقائق المسيحية ونشر آراء مضادة لها، بهدف تحويل بسطاء المسيحيين عن عقائدهم، كما يتضح من الفصول التالية.

 

الفصل الأول

تاريخ كتابة إنجيل برنابا

 

1 - من الناحية الإسلامية:

أ - لو فرضنا أن هذا الإنجيل كان هو إنجيل المسيحيين في أول الأمر، أو بالحري قبل ظهور الإسلام، لما أشار القرآن إلى وجود اختلاف بينه وبين إنجيلهم، كما جاء في العنكبوت 29: 46. ولما أشار أيضاً إلى وجود القسوس لدى المسيحيين، كما جاء في المائدة 5: 80 لأن إنجيل برنابا لم يورد أي كلمة عن هؤلاء. ولو فرضنا أن إنجيل برنابا المذكور كان موجوداً مع إنجيل المسيحيين (لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا) لحرَّضهم القرآن على التمسُّك به دون الباقين، بل وشهّر بالباقين! وبما أنه لم يفعل هذا أو ذاك، فلا بد من التسليم بأن الإنجيل المنسوب إلى برنابا، لم يكن له وجود لغاية القرن السابع الذي ظهر فيه الإسلام.

ب - لو كان هذا الإنجيل موجوداً بين القرنين الثامن والرابع عشر، التي ظهر فيها قدامى المفسرين المسلمين مثل الطبري وابن كثير، لما اختلفوا معه من جهة الشخص الذي قالوا إنه صُلب بدل المسيح، بل لأجمعوا كلهم على أنه يهوذا الإسخريوطي، كما جاء في الإنجيل المذكور. فلا جدال في أن هذا الإنجيل لم يكن له وجود لغاية القرن الرابع عشر.

ج - سجَّل كل المؤرخين المسلمين الذين عاشوا لغاية سنة 790 ه (آخر القرن 14م) أن إنجيل المسيحيين هو المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا - إقرأ مثلاً مروج الذهب لأبي الحسن المسعودي ج1 ص 161 والبداية والنهاية للإمام عماد الدين ج2 ص 100 والقول الإبريزي للعلامة أحمد المقريزي ص 18 والتاريخ الكامل لابن الأثير ج1 ص 128. وهذا يدل على أن الإنجيل المنسوب إلى برنابا لم يكن له وجود لغاية القرن الرابع عشر كما ذكرنا.

د - وبالإضافة إلى ما تقدم، فإن بعض هؤلاء المؤرخين سجلوا لنا أسماء تلاميذ المسيح، كما وردت في الإنجيل الذي كتبه لوقا تماماً (6: 12-16) إنما باختلافٍ بسيط في هجاء بعضها، اقتضته ضرورة نقلها من اليونانية إلى العربية، فقالوا إنهم بطرس ويعقوب ابنا زبدا ويحنس أخو يعقوب، واندراوس وفيلبس، وبرثلما ومتى وتوماس، ويعقوب بن حلفيا وتداوس، وفتاتيا ويودا أكريابوط (البداية والنهاية لابن كثير ج2 ص92). وبالتأمل في هذه الأسماء لا نرى واحداً منهم يسمى برنابا أو اسماً مشابهاً له، كما يدَّعي كاتب الإنجيل الذي نحن بصدده في فصل 14: 12-17 وغيره. وهذا يبرهن كذبه وادعاءه.

ه - أخيراً نقول إن الأستاذ عباس محمود العقاد، الذي درس الكثير من الكتب الإسلامية والمسيحية قال في كتابه عبقرية المسيح ص126 إن الأناجيل (أناجيل المسيحيين) هي العمدة الوحيدة التي اعتمد عليها قومٌ هم أقرب الناس إلى عصر المسيح. وليس لدينا نحن بعد قُرابة ألفي عام عمدة أحق منها بالاعتماد . وبناءً على قوله هذا يكون الإنجيل المنسوب إلى برنابا، هو كتاب حديث مزيف كما ذكرنا.

2 - من الناحية المسيحية:

أ - تدلّ نسخ الكتاب المقدس الأثرية، والكتب الدينية القديمة، والجداول التي عُملت في القرون الأولى لحصر أسفار الكتاب المقدس وتسجيل خلاصة محتويات كل منها، التي ذكرنا جزءاً منها في الجزء الأول من هذا الكتاب على أن الإنجيل المنسوب إلى برنابا لم يكن موجوداً في هذه القرون. فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيحيين كانوا منذ القرون الأولى للمسيحية يتعرضون للتهكم والاضطهاد بسبب اعتقادهم أن المسيح هو ابن الله، وأنه صُلب كفارة عن الخطاة، وهذان الأمران ينكرهما الإنجيل المذكور إنكاراً تاماً، لا يبقى لدينا شك في أنه لم يكن له وجود في القرون الأولى.

ب - على الرغم من انقسام المسيحيين إلى طوائف متعددة منذ القرن الرابع إلى الآن، بسبب اختلافهم في تفسير بعض الآيات التي وردت في الكتاب المقدس (كما يحدث في كل دين من الأديان) لم تظهر بينهم في أي عصر من العصور طائفة (مهما كان عدد أفرادها) تؤمن بهذا الإنجيل . فضلاً عن ذلك فإن العقائد المسيحية التي تناولها بالبحث رجال الفلسفة والدين، وأشار إليها علماء التاريخ في كل العصور والبلاد، لا أثر لها في الإنجيل المذكور، مما يدل على أنه غريب عن المسيحية، وأنه كُتب في الأزمنة الحديثة لتشويه الحق المسيحي، كما ذكرنا في المقدمة.

3 - من الناحية الموضوعية:

مما يدل على أن إنجيل برنابا إنجيل مزيف أن الآيات الواردة فيه ليست مقتبسة من التوراة العبرية التي كُتبت قبل الميلاد بمئات السنين، أو من الترجمة السبعينية اليونانية التي ظهرت في القرن الثاني للميلاد، بل مقتبسة (كما يقول العلماء) من الترجمة اللاتينية التي لم تظهر إلا في القرن الخامس للميلاد. وهذا يدل على أن الإنجيل المذكور إنجيل مزيف. ومن الأدلة على ذلك:

أ - جاء في فصل 82: 18 و83: 25 أن اليوبيل يقع كل مائة عام. مع أن اليوبيل كان يقع لغاية وجود المسيح على الأرض كل خمسين عام فقط (لاويين 25: 11). أما جعل اليوبيل كل مائة عام، فكان بأمر البابا بونيفاس الثامن سنة 1300م.

ب - وجاء في فصل 13: 19 عن فضل الزهد والتقشف أن المسيح لم تكن معه نقود. وفي 174: 2-11 بحث عما إذا كان سكان الفردوس يأكلون أو لا يأكلون. مع أن أهمية الزهد والتقشف لم تظهر في الشرق إلا في القرن الرابع، ولم تظهر في أوروبا إلا في العصور الوسطى. وكان ذلك في إيطاليا وأسبانيا بصفة خاصة (فجر الأندلس ص 28). وهكذا الحال من جهة البحث الخاص بنوع طعام سكان الفردوس، هل هو مادي أو روحي، فإنه لم يظهر إلا في هذه العصور، لأن الجهل كان يخيِّم عليها، حتى أنها سُمِّيت العصور المظلمة .

ج - وجاء في فصل 217: 88 أن نيقوديموس وضع مئة رطل من العطور على جثة يهوذا، ظناً منه أنها ليسوع. وجاء في 74: 16 أن المسيح قال إن الصيرفي ينظر في النقود ليرى هل هي من العيار المعهود. مع أن العثمانيين هم أول من استعملوا الرطل في القرن الرابع، عشر ثم نشروا استعماله في البلاد التي فتحوها، والبلاد التي كانت تربطهم بها علاقات تجارية، مثل إيطاليا وأسبانيا. كما أنهم هم أول من قال بمعايير الذهب، فأطلقوا على أجود أنواعه كلمة البندق . وكل من عاش في مصر حتى أوائل القرن العشرين يذكر أشياء كثيرة كانت توصف بأنها عثمانية.

د - جاء في فصل 105: 3 أن السماء تِسْع طبقات، عاشرها الفردوس (105: 7). وجاء في 59: 2 و135: 10 أن الجحيم مكّونة من سبع طبقات، كل طبقة لنوعٍ خاص من الخطاة، وأن الفَخور المتجبّر في قلبه يهبط إلى الدائرة السفلى، مارّاً بجميع الدوائر التي فوقها، فيعاني أقسى الآلام. وجاء في 135: 44 أن الله حكم على حواس الإِنسان بسبب شرها، ليس بالنار فحسب، بل وأيضاً بثلجٍ وجليد لا يُحتملان. مع أننا إذا رجعنا إلى الكتب الدينية والفلسفية القديمة، لا نرى واحداً منها قال بشيء من هذه الأمور. لكننا نراها مجتمعة في الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي شاعر إيطاليا في القرن 13م، وانتشرت بعد ذلك في القرون التالية له. وهذا يدل على أن كاتب الإنجيل الذي نحن بصدده عاش بعد هذا القرن. إذ لا يمكن أن يكون الاتفاق الموجود بين آرائه وبين آراء دانتي هو من باب المصادفة، لأن اتفاقهما ليس في أمرٍ واحد بل في أمور متعددة. كما أن هذه الأمور ليست منطقية أو علمية مما يتفق عليها بعض الناس، على الرغم من اختلاف أجناسهم والعصور التي يعيشون فيها، بل إنها أمور خيالية، إن خطرت ببال الواحد لا تخطر ببال الآخر.

ه - جاء في فصل 106 أن النفس تنقسم إلى حاسية وعقلية. وفي 17: 4-18 أن المسيح قال: الله صلاح، بدونه لا صلاح... الله حياة، بدونه لا أحياء. هو عظيم حتى أنه يملأ الجميع وهو في كل مكان. هو وحده لا ندَّ له، لا بداية ولا نهاية له. لكنه جعل لكل شيء بداية وسيجعل لكل شيء نهاية. لا أب ولا أم له، لا أبناء ولا إخوة ولا عشراء له. ولما كان ليس للّه جسم، فهو لا يأكل ولا ينام ولا يموت ولا يمشي ولا يتحرك، ولكنه يدوم إلى الأبد بدون شبيه بشري. لأنه غير ذي جسد، وغير مركب، وغير مادي. وأبسط البسائط... وبالاختصار أقول لك يا فيلبس إنه لا يمكنك أن تراه أو تعرفه على الأرض تمام المعرفة، ولكنك ستراه في مملكته إلى الأبد، حيث يكون قوام سعادتنا ومجدنا . وجاء في 43: 6-12 كل من يعمل، فإنما يعمل لغايةٍ يجد فيها غَناءً (أي غنى)، لذلك أقول لكم إن الله لما كان بالحقيقة كاملاً، لم يكن له حاجة إلى غَناء لأنه الغَنَاء عنده نفسه... وهل كان هذا هكذا، إلا لأن الله أراد ذلك ؟!

وبالتأمل في هذه العبارات نرى أنه لا يمكن أن تكون قد قيلت إلا بعد حدوث مباحثات ومناقشات من جهة النفس وخواصها، ومن جهة ذات الله وصفاته وأعماله. وأيضاً من جهة شخصية المسيح، وهل كان إنساناً عادياً أم كان هو ابن الله بمعنى المعلِنللّه أو الله مُعلَناً. كما نرى أن هذه العبارات مصاغة في أسلوب لم يكن معروفاً في البيئة التي عاش المسيح فيها، لأن هذه البيئة كانت تميل إلى الإيجاز، كما كانت تميل إلى البساطة في التفكير والتعبير. لكن بالرجوع إلى التاريخ نرى أن المباحثات الخاصة بشخصية المسيح ظهرت في أول الأمرفي القرن الخامس للميلاد. وأن المناقشات الخاصة بالنفس، وبذات الله والغرض من خلقه للعالم، واستعمال الاصطلاح أبسط البسائط عن ذاته تعالى، ظهرت في أول الأمر في القرن الثاني عشر للميلاد، وذلك على أثر انتشار كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم ممن تثقّفوا بالثقافة اليونانية القديمة، واقتبسوا منها الشيء الكثير في شرح الموضوعات الدينية لديهم. وهذا يدل على أن كاتب الإنجيل الذي نحن بصدده عاش بعد القرن المذكور، واطّلع على ما كتبه هؤلاء الفلاسفة.

4 - من الناحيتين العلمية والتاريخية:

أجمع العلماء الذين اكتشفوا الإنجيل المنسوب إلى برنابا ودرسوه دراسةً دقيقة، على أن النسخة الأصلية منه ظهرت في أول الأمر سنة 1709م باللغة الإيطالية عند رجل يدعى كرامر، كان مستشاراً لملك بروسيا. وبعد أن أهداها هذا الملك إلى الأمير أوجين سافوي، أودعت بمكتبة فينا سنة 1738 ولا تزال محفوظة هناك إلى الآن. كما أجمعوا على أن الرسم الموجود على غلاف هذه النسخة هو من طراز عربي، وأن بالصفحة الأولى منها عبارات مكتوبة باللغة العربية، مثل: الله عظيم و·إذا أرديتم (أي أردتم) من الله شيئاً، أرديتم (أي أردتم) خير الأشياء . كما أنه توجد بهوامش النسخة المذكورة عبارات باللغة العربية، بعضها سقيم التركيب والبعض الآخر سليمهُ. ولما فحص هؤلاء العلماء الورق المستخدم في هذه النسخة ودرسوا الخط والأسلوب المكتوبة بهما، اتضح لهم أنها كُتبت في القرن 16 لا في القرن 18 الذي اكتُشفت فيه. كما اتضح لهم أن النسخة المذكورة لم تكن مترجمة من اليونانية التي كُتب بها إنجيل المسيحيين في أول الأمر، بل أنها مكتوبة أصلاً باللهجة الإيطالية التي انتشرت بعد عصر دانتي.

ويقول دكتور جورج سال العلاّمة الإنكليزي في ترجمته الإنكليزية للقرآن إنه وجد نسخة من هذا الكتاب أيضاً باللغة الأسبانية تكاد تكون معاصرة للنسخة الإيطالية، كتبها شخص اسمه مصطفى العرندي، يقول إنه ترجمها عن النسخة الإيطالية. وقد جاء في مقدمة النسخة الأسبانية أن راهباً يدعى فرامارينو زار مرة سكتوس الخامس بابا روما سنة 1585م فعثر لديه مصادفة على كتاب للقديس إيريناوس، ينقض فيه تعاليم بولس الرسول، ويشير إلى كتاب يدعى إنجيل برنابا المذكور. وصلى الراهب طالباً أن ينام البابا، فنام. وانتهز الراهب الفرصة وأخذ يبحث في مكتبة البابا، فعثر على هذا الإنجيل وفي الحال خبأه في ردائه وانتظر حتى استيقظ البابا، فاستأذن منه وانصرف. ولما درس الإنجيل المذكور اعتنق الإسلام. وفي ضوء ما تقدم نقول:

أ - إن الإنجيل الذي يؤمن به المسيحيون جميعاً كُتب في أول الأمر بواسطة بعض أتباع المسيح، باللغة اليونانية التي كان يتكلم بها معظم سكان فلسطين وقتئذ. فلا يمكن أن يكون كاتب الإنجيل المنسوب إلى برنابا واحداً من هؤلاء الأشخاص. لأنه لو كان الأمر كذلك لكتب أولاً باليونانية، وترجم منها إلى لغات أخرى، وانتشر تبعاً لذلك منذ القرون الأولى في البلاد التي تتحدث بهذه اللغات، ولكان يوجد منه الآن نسخ أثرية باللغة اليونانية، واقتباسات أيضاً منه في الكتب الدينية القديمة (كما هو حال الإنجيل المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا، كما ذكرنا فيما سلف) إذ لا يعقل إطلاقاً أن يكون هذا الإنجيل وحده قد اختفى عن أنظار العالم في القرن الأول، ولم يظهر إلا في القرن 16 بلغتين غريبتين عن اللغة التي كانت منتشرة في فلسطين في القرن الأول للميلاد.

ب - إن قصة العثور على هذا الكتاب لا يمكن أن تكون حقيقية، للأسباب الآتية:

(1) إن مؤلفات إيريناوس لا تزال موجودة لغاية الآن، وكلها تتوافق مع الإنجيل الذي بين أيدينا، ومع رسائل بولس الرسول أيضاً، كما ذكرنا في الجزء الأول من هذا الكتاب.

(2) إن برنابا الحقيقي (كما يتضح من الكتاب المقدس) كان قد باع ممتلكاته ووزع ثمنها على الفقراء إكراماً للمسيح الذي بذل نفسه كفارة على الصليب من أجله ومن أجل غيره من الناس (أعمال 4: 36 و37). ثم أتى بعد ذلك ببولس الرسول إلى تلاميذ المسيح وعرفهم به (أعمال 9: 27). كما سافر معه للمناداة بالإنجيل في دربة ولسترة وإيقونية وأنطاكية (أعمال 14: 20 و21) وأورشليم (غلاطية 2: 1) وتحمل معه آلاماً واضطهادات كثيرة بسبب هذه الخدمة (1كورنثوس 9: 6). وبعد ذلك نادى بالإنجيل مع مرقس البشير في قبرص وغيرها من البلاد (أعمال 15: 39). ومما يدل أيضاً على أن برنابا ظل متمسكاً إلى نهاية حياته بالحقائق المسيحية، وفي مقدمتها موت المسيح كفارة على الصليب، أن له رسالة يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 100م جاء فيها إننا نحفظ اليوم الثامن (أو بالحري يوم الأحد، لأن السبت كان يدعى اليوم السابع) بفرح وابتهاج، لأنه اليوم الذي قام فيه المسيح من الأموات . كما أن بعض رجال الدين في شمال إيطاليا عملوا قداساً في القرن الخامس، وأطلقوا عليه قداس برنابا ، لأن برنابا هو الذي نادى بالإنجيل في بلادهم في أول الأمر. والقداس المذكور على نمطٍ خاص يُعرف عند المؤرخين بالطقس الميلاني.

(3) إن رؤية المدعو فرامارينو مصادفة للكتاب المنسوب إلى إيريناوس، ووقوع سبات عميق على البابا بناءً على صلاة فرامارينو، وعثوره بعد ذلك بالمصادفة أيضاً على الإنجيل المنسوب إلى برنابا، وسرقته إياه وهروبه دون أن يراه أحد كل هذه تصرفات أقرب إلى الروايات المصطنعة منها إلى الحقائق الواقعة. فليس من المعقول أن يكون البابا قد غطّ في النوم أثناء زيارة الراهب له. وليس من المعقول أن يسرق الراهب الكتاب، فقد كان يمكنه أن يستعيره، أو أن يقرأه على دفعات في مكتبة البابا. ولو فرضنا أن هذا الراهب كان لصاً، فكيف استجاب الله صلاته وأوقع على البابا سباتاً عميقاً ليتمكن للراهب المذكور من القيام بالسرقة المزعومة!!

وإذا كان الأمر كذلك، فلا يمكن أن يكون أحد رسل المسيح الأولين قد كتب هذا الإنجيل . بل من المؤكد أن أحد المدَّعين كتبه في القرن السادس عشر، كما اتضح لنا مما سلف، وكما يتضح بأكثر تفصيل في الفصول التالية.

 

الفصل الثاني

جنسية كاتب إنجيل برنابا

 

تدل محتويات إنجيل برنابا على أن أحد المدّعين كتبه في القرن السادس عشر، كما تدل أيضاً على أن كاتبه كان من أهالي غرب أوروبا، وبالتحديد من أهالي أسبانيا، وليس من أهالي فلسطين، وذلك لسببين

(1) جهله بتاريخ وجغرافية فلسطين، وتأثّره بتاريخ وجغرافية غرب أوروبا وبصفة خاصة أسبانيا.

(2) جهله بالحالة الاجتماعية في فلسطين، وتأثّره بالحالة الاجتماعية في غرب أوروبا لا سيما أسبانيا، كما يتضح مما يلي:

1 - جهله بتاريخ وجغرافية فلسطين، وتأثّره بتاريخ وجغرافية غرب أوروبا لا سيما أسبانيا

أ - جاء في فصل 20: 1 و92: 3 أن الناصرة (التي وُلد فيها المسيح) وأورشليم (عاصمة اليهود قديماً) هما ميناءان على البحر. وجاء في 139: 13 و143: 1 أن المسيح هرب إلى دمشق واتّخذها مركزاً للاجتماع بتلاميذه. مع أن الناصرة مدينة في السهل، وأورشليم مدينة على الجبل، ودمشق عاصمة سوريا، ولا تقع في بلاد فلسطين التي عاش المسيح فيها.

ب - وجاء في فصل 92: 1 أن يسوع ذهب مع تلاميذه إلى جبل سينا وقضى معهم هناك 40 يوماً في الصوم، مع أن جبل سينا يبعد كثيراً عن بلاد فلسطين التي عاش فيها المسيح، فلا يمكن أن يكون المسيح قد ذهب مع تلاميذه إليه. أما الجبل الذي كان يذهب إليه معهم، فهو جبل الزيتون قرب أورشليم.

ج - وجاء في فصل 169: 13 أن الحقول والأودية في فلسطين تكون جميلة في فصل الصيف، مع أن فلسطين قاحلة تقريباً في الصيف، لأنها تعتمد على الأمطار التي لا تسقط إلا في الشتاء. أما في غرب أوروبا فالأودية والحقول تكون جميلة في فصل الصيف، لأن الأنهار هناك طويلة ودائمة الجريان.

د - وجاء في فصل 109: 9 أنه توجد في فلسطين مقاطع للأحجار والرخام، مع أن هذه المقاطع لا توجد هناك، بل توجد بكثرة في إيطاليا وأسبانيا. وقد أشار إلى وجودها في أسبانيا كتاب ظهر الإسلام ج3 ص 16 .

ه - وجاء في فصل 3: 2 أنه عندما وُلد يسوع كان بيلاطس والياً على اليهود، وكان حنان وقيافا رئيسي كهنة. وجاء في 131: 6 و217: 61 أن هيرودس ملك الجليل كان يعبد الأوثان، مع أن بيلاطس كان والياً على اليهود في المدة من سنة 26-36م، وحنَّان كان رئيساً للكهنة في المدة من سنة 6-15م، وقيافا في المدة من سنة 18-36م بعد ولادة المسيح بعدة سنوات. وهيرودس كان أدومياً لكنه تهوّد وبنى هيكل أورشليم ولذلك كان يحضر إليها في الأعياد (لوقا 23: 7).

و - وجاء في فصل 63: 4-7 أن الله عزم على إهلاك نينوى، لأنه لم يجد أحداً يخاف الله في تلك المدينة التي بلغ من شرها أن دعا الله يونان النبي ليرسله إلى تلك المدينة، فحاول الهرب إلى طرسوس خوفاً من الشعب، فطرحه الله في البحر، فابتلعته سمكة وقذفته على مقربة من نينوى . مع أن المعروف أن مدينة نينوى كانت عاصمة الإمبراطورية الأشورية. وقد شُيدت على الضفة الشرقية من نهر دجلة، على فم رافد صغير اسمه رافد الخسر. فهي إذن لم تكن على البحر الأبيض المتوسط كما قال الكاتب.

2 - جهله بالحالة الاجتماعية في فلسطين، وتأثره بالحالة الاجتماعية في غرب أوروبا لا سيما أسبانيا

أ - جاء في فصل 152: 25 أن اليهود في فلسطين كانوا يضعون الخمر في براميل يمكن دحرجتها، مع أنهم كانوا يضعونها في زقاق من الجلد (يشوع 9: 13). أما البلاد المشهورة بصناعة الخمور وتقوم بحفظها في براميل فهي بلاد غرب أوروبا، وخاصةً إيطاليا وفرنسا وأسبانيا.

ب - وجاء في فصل 140: 9 أن العساكر كانوا يتدربون على الفنون الحربية في زمن السلم، مع أن هذا التدريب لم يكن مألوفاً في فلسطين أثناء وجود المسيح على الأرض، بل كان مألوفاً فقط في بلاد غرب أوروبا ابتداءً من حوالي القرن العاشر، وفي غيرها من البلاد، في الوقت الحاضر.

ج - وجاء في فصل 91: 10 أنه كان في فلسطين ثلاثة جيوش بكل منها 000ر200 جندي مسلَّحون بالسيوف. وفي 91: 11 أن هيرودس الملك لم يكن له احترام عسكري في فلسطين. وفي فصل 152 أن السلطتين الدينية والمدنية كانتا تسمحان للرومان بالدخول إلى الهيكل اليهودي لمجادلة يسوع في الأمور الدينية، مع أن الرومان كانوا يحتلون فلسطين وقتئذ، ولم يسمحوا بتكوين جيوش مثل هذه فيها. وأن هيرودس بوصفه نائباً عن قيصر كانت له السلطة الكافية في هذه البلاد. وأن الرومان، مثل غيرهم من الشعوب الوثنية، لم يكن يُسمَح لهم بالدخول إلا إلى دار الأمم، وهي بعيدة عن الهيكل ويفصلها عنه ثلاثة حواجز هي: دار إسرائيل، ودار النساء، ومساكن الكهنة.

د - وجاء في فصل 2: 1 أن العذراء مريم لما وجدت أنها حبلى خافت أن يرجمها الشعب بتهمة الزنى، فاتّخذت لها عشيراً يُدعى يوسف. مع أن اتخاذ الفتاة عشيراً لها لم يكن معروفاً في بلاد فلسطين، بل في أوروبا. أما العذراء مريم فكانت مخطوبة ليوسف قبل أن يبشرها الملاك بالحبل بالمسيح (لوقا 1: 26 و27).

ه - وجاء في فصل 194: 3 ما يدل على أن مريم ومرثا ولعازر الوارد ذكرهم في يوحنا 11 و12 كانوا من الموالي الذين يتصرّفون في أرضهم وفي الفلاحين الذين لديهم تصرُّف المالك الذي لا حدود لسلطته، مع أن هذا التصرف لم يكن له وجود إلا في نظام الإقطاع الذي نشأ في غرب أوروبا في العصور الوسطى. وقد أشار الدكتور حسين مؤنس إلى وجود الإقطاعيين وقتئذ، وإلى استخدامهم للرقيق في بلاد الأندلس (أي أسبانيا) في كتابه (فجر الأندلس ص27 و472).

و - وجاء في فصل 141: 17-20 وصف للمبارزات التي تقوم بين العشّاق. وفي 217: 63 أن يهوذا الإسخريوطي عندما صرخ أنه ليس يسوع، رماه اليهود بالحُمق، ووضعوا عليه رداءً أبيض. مع أن هذه المبارزات لم يكن لها وجود إلا في غرب أوروبا قبيل الثورة الفرنسية، وكانت تُسمى وقتئذٍ الفروسية . وأن الرداء الأبيض كان علامة الحداد على الموتى في أسبانيا (أو الأندلس) لغاية القرن الخامس عشر، وقد أشار إلى هذه الحقيقة كتاب (ظهر الإسلام ج3 ص8).

ز - وجاء في فصل 153: 8 و154: 1 أن السارق يُعدم شنقاً والقاتل تُقطع رأسه، مع أن هاتين العقوبتين كانتا تُطبَّقان في غرب أوروبا في العصور الوسطى وليس في بلاد اليهودية، لأن السارق في هذه البلاد كان يُعاقب بردّ خمسة أو أربعة أمثال ما سرق إذا كان قد باعه، وضِعف ما سرقه إن لم يكن قد باعه (خروج 22: 1-15) وذلك بالإضافة إلى الذبيحة الكفارية التي كان يجب أن يقدمها عن خطيته. وأن من يقتل سهواً، كان يُصان من القتل بالالتجاء إلى أحد مدن الملجأ. أما من يقتل عمداً فكان يُقتل بأي وسيلة، وليس بقطع رأسه فقط (عدد 35: 9-28).

ح - وجاء في فصل 69: 4-9 أن الكهنة كانوا يشغفون بركوب الخيل، دون أن تكون لهم الرغبة في الذهاب إلى الحروب. كما أنهم كانوا يحبون المجد كالجمهوريين، دون أن تكون لهم الرغبة في القيام بأعباء الجمهورية. مع أن ركوب الخيل لم يكن شائعاً في فلسطين أيام المسيح، كما أنه ليس من تعاليم المسيح أن يدعو إلى الحروب. كما أن الرومان الذين كانوا يحكمون فلسطين بيدٍ من حديد، لم يكونوا يسمحون لأحدٍ من أهلها أن يفكر في الحكم الجمهوري. ولكن هذه الأمور الثلاثة (الخاصة بركوب الخيل، والحروب، والحكم الجمهوري) كانت من الأمور الشائعة بين سكان غرب أوروبا في أواخر العصور الوسطى.

وإذا كان الأمر كذلك، فإن كاتب الإنجيل المسمى إنجيل برنابا لم يكن واحداً من تلاميذ المسيح، ولا من سكان فلسطين، إنما كان من سكان غرب أوروبا في أواخر العصور الوسطى. فلا يجوز الأخذ بما كتبه عن المسيح، لا سيما وقد ظهر جهله بالكثير عن فلسطين التي عاش المسيح وتلاميذه فيها.

الفصل الثالث

ديانة كاتب إنجيل برنابا

 

1 - الأدلة على أنه كان يهودياً:

آراء الكاتب الدينية، وإلمامه بموضوعات لا يعرفها إلا اليهود، يدلان على أنه كان يهودياً:

(أ) أشار في فصل 50: 25 إلى قصة سوسنة والشيخين، وقال في 220: 9 إن الملاك روفائيل يقبض الأرواح، مع أن قصة سوسنة والشيخين لا ترد إلا في الكتاب الذي يسمى ملحق سفر دانيال . وإسناد قبض الأرواح إلى من يُدعى الملاك روفائيل لا يرد إلا في الكتاب المسمى كتاب أخنوخ . وهذان الكتابان لا يوجدان إلا في مجموعة الأبوكريفا التي لم يكن يعرفها أحد سوى اليهود، وهي مجموعة قصص وأحداث وأمثال وأحلام يهودية محضة كُتبت في القرن الثاني قبل الميلاد، بعد انقطاع الوحي عن اليهود بمائتي عام. و·الأبوكريفا كلمة يونانية معناها المحفوظ سراً أو الأسفار المشكوك في صحة نسبتها إلى كاتبها ويعرفها البعض بالأسفار الثانوية، وبعضهم بالأسفار غير القانونية. وهي كتابات ظهرت بعد النبي ملاخي، في فترة انقطاع الوحي الإلهي (فترة ما بين التوراة والإنجيل) وكانت مكتوبةً باليونانية، لا بالعبرية لغة التوراة. وقد أدرج اليهود هذه الأسفار ضمن كتبهم المقدسة حسب قرار مؤتمر جامينا سنة 90م، واعتُبرت أسفاراً للقراءة، ودون قيمة الأسفار القانونية التسعة والثلاثين. وبها أخطاء تاريخية ولاهوتية.

(ب) وجاء في فصل 99: 3 أن الله يحب إسرائيل كعاشق. وصدور عبارة مثل هذه من كاتب إنجيل برنابا يدل على أنه يهودي ولا شك، لأن الله يحب كل الناس. وإن كان يحب بعضهم بصفة خاصة، يكون ذلك راجعاً إلى تقواهم وطاعتهم له.

(ج) وجاء في فصل 21: 30 أن أقرباء الكنعانية التي شفى يسوع ابنتها اعتنقوا شريعة موسى. وفي 31: 23 أن رئيس المجمع الذي شفى يسوع غلامه حطم كل الأصنام وعبد إله إسرائيل. وجاء في 22: 2 أن الكلب أفضل من رجل غير مختون. وفي 23: 15 و17 أن غير المختون محروم من الفردوس. وتدل هذه الأقوال على أن كاتبها يهودي لأن اليهود هم الذين يعتّزون بموسى كل الاعتزاز، ويدعون الله إله إسرائيل كما يعتقدون أن غير المختون مرفوض من الله، ويجب أن يُطرد من بينهم (تكوين 17: 14).

(د) وجاء في فصل 22: 9 أن كفر الإِنسان سببه عدم وفائه بعهد الله مع إبرهيم. فكاتب إنجيل برنابا يرى في الانتساب الجسدي إلى إبرهيم السبيل الوحيد للتمتع برضى الله مع أن المسيح أعلن أن الله يستطيع أن يقيم من الحجارة (أي من عَبَدة الأوثان) بواسطة الإِيمان الحقيقي أبناء روحيين لإبرهيم. كما أعلن أن كثيرين من نسل إبراهيم بالجسد نصيبهم الهلاك الأبدي لأنهم لم يؤمنوا إيمان إبرهيم (متى 3: 9 ولوقا 3: 8).

(ه ) الخرافات الواردة في إنجيل برنابا وادّعاء صاحبه أن الله مسخ بعض المصريين فجعلهم حيوانات (فصل 27: 5) تدل أيضاً على أن الكاتب يهودي (1) لأن اليهود مشهورون بالخرافات. (2) لأن كراهتهم الشديدة للمصريين منذ القديم تجعلهم يتمنّون لهم الإصابة بالبلايا. (3) لأن المسخ لا أساس له في المسيحية، بل هو من العقائد التي كان اليهود والوثنيون يتمسكون بها في الأزمنة الغابرة.

2 - جهله ببعض الحقائق الإسلامية، لتأثُّره باليهودية أو بآرائه الشخصية:

(أ) جاء في فصل 63: 18 أن أخا هابيل يُدعى قايين كما جاء في التوراة (تكوين 4: 1) مع أن اسمه كما يقول المفسرون المسلمون هو قابيل .

(ب) وجاء في فصل 105: 3-8 و178: 5 و6 ان السموات تسع، مع أن السموات في الإسلام سبع فقط (الإسراء 17: 44).

(ج) وجاء في فصل 3: 10 أن العذراء مريم ولدت المسيح بدون ألم مع أن الإسلام يعلن أنه لما جاءها المخاض قالت: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً (مريم 19: 23).

(د) وجاء في فصل 42: 5 و72: 10 و14 و82: 9-18 أن يسوع قال لكهنة اليهود وللسامرية عن نفسه إنه ليس المسيا، بل المسيا هو محمد الذي سيأتي بعده، مع أن المسلمين لا يعتقدون أن نبيَّهم هو المسيا، بل يعتقدون أن المسيا هو المسيح (آل عمران 3: 45) لأن كلمتي المسيح و·المسيا مترادفتان وبمعنى واحد، هو الممسوح أو المعيّن من الله تعييناً رسمياً لتنفيذ مقاصده، وفي مقدمتها التكفير عن خطايا الناس (إشعياء 61: 1). وإن كان اليهود قد تجاهلوا المسيح، لكنهم يتوقون من كل قلوبهم إلى ظهوره ليرفع من شأنهم، كما يعتقدون.

(ه ) وجاء في فصل 115: 18 فليقنع الرجل إذاً بالمرأة التي أعطاه إياها خالقه، وليَنْسَ كل امرأة أخرى . مع أن تعدد الزوجات جائز في الإسلام (النساء 4: 3).

(و) وجاء في فصل 102: 17-19 أن الجنس البشري تعس، فالله قد اختاره ابناً ووهبه الجنة ولكنه سقط بعمل الشيطان وطُرد من الجنة. مع أن القرآن يحسب الاعتقاد بابوة الله كفراً يستوجب نار جهنم، إذ يقول وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً (الكهف 18: 3).

(ز) وجاء في فصل 155: 12 و13 لذلك لما خلق الانسان حراً ليعلم أن ليس للّه حاجة إليه كما يفعل الملك الذي يعطي حرية لعبيده ليظهر ثروته وليكون عبيده أشد حباً له . مع أن هذا يخالف ما جاء في القرآن أن كل إنسان الزمناه طائره في عنقه (الإسراء 17: 13).

(ح) وجاء في فصل 137: 1-4 أن رسول الله يطلب رحمةً لمن لبث في الجحيم 70 ألف سنة، ليعتقهم من العقوبات المرّة، فيستجيب الله ويأمر ملائكته الأربعة المقرَّبين ليُخرجوا كل من على دين رسوله ويقودوه إلى الجنة. مع أن الله لعن الكافرين وأعدَّ لهم سعيراً خالدين فيها أبداً ولا يجدون ولياً ولا نصيراً (الأحزاب 33: 64 و65).

3 - الأدلة على اعتناقه الإسلام:

أ - تجريده للمسيح من كل خواصه الإلهية، وتخطئته لكل ما ورد في الإنجيل بشأنها:

(1) جاء في فصل 19: 14-18 أن بعض المرضى بالبرص قالوا ليسوع: أعطنا صحة فقال لهم: أيها الأغبياء، أفقدتم عقلكم حتى تقولوا: أعطنا صحة! ألا ترون أني إنسان نظيركم؟ أدعوا إلهنا الذي خلقكم، وهو القدير الرحيم يشفيكم . فقالوا له: إننا نعلم أنك إنسان نظيرنا، لكنك قدوس الله ونبي الرب، فصلِّ للّه ليشفينا . فسمع لهم وتضرع إلى الله فشفاهم، مع أن الإنجيل يعلن أنه عندما أتى هؤلاء المرضى إلى المسيح طالبين منه الرحمة، قال لهم: إذهبوا وأروا أنفسكم للكهنة ليشهد الكهنة لشفائهم ويسمحوا لهم بالعودة إلى بيوتهم. وفيما هم منطلقون طهروا، ورجع واحد منهم يمجد الله بصوت عظيم، وسجد عند قدمي المسيح مقدماً له الشكر. فقال لهالمسيح: قم وامض. إيمانك خلصك (لوقا 17: 11-19).

كما أن الإنجيل يعلن لنا أن المسيح لم يكن في حاجة إلى أن يوجّه أحدٌ نظره، حتى بوصفه ابن الإِنسان، إلى أنه قدوس الله، الذي يستمع الله له، فقد كان يعلم أنه خرج من عند الآب (يوحنا 16: 28) وأن كل ما يطلبه من الآب يعطيه إياه (يوحنا 11: 42) وأنه إذا أراد أمراً، حدث للتو، مهما كانت الظروف والأحوال (متى 14: 25 و29).

(2) وجاء في فصل 47: 8-13 أنه لما طلب البعض من يسوع أن يحيي ميتاً، خاف كثيراً. ثم اتجه إلى الله وقال له: خذني من العالم يارب لأن العالم مجنون، وكادوا يدعونني إلهاً. ولما قال ذلك بكى. حينئذ جاء الملاك جبريل وقال له: لا تخف يا يسوع . وجاء في 95: 20 أن المسيح قال إنه لا طاقة له أن يخلق ذبابة، مع أن الإنجيل يعلن لنا أن المسيح قال بسلطان إلهي للميت الذي كان محمولاً على النعش: أيها الشاب: لك أقول قم فقام في الحال (لوقا 7: 14). وقال للعازر، فقد قال له بعد موته ودفنه بأربعة أيام: لعازر، هلم خارجاً فخرج من القبر في الحال أيضاً (يوحنا 11) فآمن كثير من اليهود بأن المسيح هو حقاً ابن الله . كما أن الوحي الإلهي يسجل أن المسيح خلق عينين لأكمه وُلد أعمى (يوحنا 9).

فضلاً عن ذلك فإن المسيح لم يكن في حاجة إلى ملاك أو غير ملاك ليبعث إلى نفسه السلام والطمأنينة لأنه رئيس السلام (إشعياء 9: 6) الذي يبعث السلام والطمأنينة إلى المؤمنين به، فقد قال لهم أكثر من مرة: أنا هو لا تخافوا (متى 14: 27 ومرقس 6: 50 ويوحنا 6: 20). وقال أيضاً لهم: سلاماً أترك لكم. سلامي أعطيكم. ليس كما يعطي العالم أعطيكم أنا. لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب (يوحنا 14: 27). كما أنه لم يرهب مرة قول الناس له إنه ابن الله ، أو بالحري الله مُعلَناً بل كان يقبله منهم كأمرٍ عادي، لأنه حقاً كذلك (متى 16: 17 ويوحنا 6: 69 و11: 27 و20: 28).

(3) وجاء في فصل 13: 15-20 أن جبريل الملاك نصح يسوع أن يقدم كبشاً كفارة عن نفسه، كما فعل إبرهيم من قبل، فقال له يسوع: سمعاً وطاعة . مع أن الإنجيل يقول إن المسيح لكماله المطلق ومعرفته بكل صغيرة وكبيرة، لم يطلب نصيحة أحد (يوحنا 7: 3-6) بل كان ينصح الناس ويرشدهم إلى الصواب (مزمور 32: 8 وإشعياء 9: 6 ورؤيا 3: 18). كما أنه لم يكن ينقاد وراء رأي إنسانٍ ما (متى 16: 23) بل كان هو الذي يأمر فيُطاع. وقال إنه قبل مجيئه ثانيةً للملك على الأرض، سيرسل الملائكة ليجمعوا مختاريه من أنحاء الأرض (متى 24: 31) فيقومون للتّو بجمعهم. كما قال لجميع المؤمنين به: احملوا نيري عليكم (أي اخضعوا لي) وتعلَّموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم (متى 11: 29).

ثم إن الإنجيل يعلن لنا أن المسيح لم يكن في حاجة إلى تقديم فدية عن نفسه، لأن من يفعل ذلك هو الخاطئ، أما المسيح فلم يفعل خطية على الإطلاق، وفي الوقت نفسه كان كاملاً كل الكمال، ولهذا فهو الشخص الوحيد الذي استطاع أن يقدم نفسه كفارة عن البشر جميعاً (1يوحنا 2: 2) لأن الخاطئ لا يعجز فقط عن التكفير عن غيره، بل يكون هو نفسه في حاجة إلى من يكفر عنه.

(4) وجاء في فصل 42: 28 أن صوتاً أتى من السماء قائلاً للتلاميذ عن يسوع: انظروا خادمي الذي به سُررت . وجاء في 212: 6 أن المسيح قال إنه لم يحسب نفسه قط خادماً صالحاً للّه، مع أن الإنجيل يعلن لنا أن الله قال للتلاميذ عن يسوع: هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت. له اسمعوا (متى 17: 5). وأن المسيح أعلن عن نفسه أنه الراعي الصالح (يوحنا 10: 11) وأنه بوصفه ابن الإِنسان قام بكل الأعمال التي أسندها الآب إليه (يوحنا 17: 4).

(5) وجاء في فصل 70: 5 و6 أنه عندما قال بطرس ليسوع: إنك المسيح ابن الله غضب يسوع وقال له: انصرف عني . مع أن الإنجيل يعلن لنا أن المسيح قال له وقتئذ: إن لحماً ودماً لم يعلن لك، لكن أبي الذي في السموات (متى 16: 17) - أي أن بطرس لم يكن يستطيع من تلقاء ذاته أن يعرف حقيقة بنّوة المسيح الفريدة للّه لولا أن الله أعلنها له.

(6) وجاء في فصل 52: 10-12 أن يسوع قال: إني أقشعر لأن العالم سيدعوني إلهاً. وعليَّ أن أقدم لأجل هذا حساباً... إني رجل فانٍ كسائر الناس . ثم بكى يسوع وبكى تلاميذه، وصلوا إلى الله لكي يرحمه. فقال آمين . وفي 112: 8 أنه قال: إنني لا أقدر أن أبكي بقدر ما يجب عليَّ، لأنه لو لم يَدْعُني الناس إلهاً لكنت عاينْتُ هنا الله كما يُعايَن في الجنة، ولكنت أمنت خشية يوم الدين . مع أن الإنجيل يعلن (أ) أن المسيح لكماله المطلق ليس فقط لن يُحاسَب على شيء، بل إنه هو الذي سيحاسب الناس جميعاً يوم الدينونة على خطاياهم (متى 25: 31). (ب) أنه بوصفه ابن الإِنسان، كان يصلي لأجل الناس، دون أن يطلب من أحدهم أن يصلي لأجله. (ج) أن نفسه البشرية لم تذهب إلى مكانٍ مجهول بعد موته، بل ذهبت إلى الفردوس مباشرة (لوقا 23: 43). (د) يعلن الإنجيل أن المسيح كان يطلب من الناس أن يؤمنوا أنه ابن الله (يوحنا 14: 1) على النقيض مما يقول إنجيل برنابا لعدم معرفته بمعنى بنوة المسيح للّه.

ب - تفضيله نبي الإسلام على المسيح كثيراً:

(1) جاء في فصل 39: 20 و82: 17 و18 و212: 17 أن الله خلق العالم لأجل نبي الإسلام. وفي 35: 8 و39: 22 و43: 9 و96: 5 أن الله خلق نبي الإسلام قبل يسوع. وأنه لما انتصب آدم على قدميه رأى في الهواء كتابة تتألق كالشمس لا إله إلا الله ومحمد رسول الله (49: 14). ولما سأل آدم الله عنه، قال له: إن نفسه (محمد) موضوعة في بهاء سماوي ستين ألف سنة قبل أن أخلق شيئاً (39: 14). وفي فصل 39: 14 و41: 30 أنه لما طُرد آدم من الجنة، رأى مكتوباً فوق الباب لا إله إلا الله. ومحمد رسول الله فبكى آدم وقال: عسى الله أن يريد أن تأتي سريعاً وتخلصنا من هذا الشقاء . ثم كتب الله على ظفر إبهام يد آدم اليمنى لا إله إلا الله ، وعلى ظفر إبهام يده اليسرى محمد رسول الله (39: 25 و26). وفي فصل 44: 30 و31 ولما رأيته امتلأت عزاء قائلاً: يا محمد ليكن الله معك وليجعلني أهلاً أن أحل سير حذائك لأني إذا نلت هذا صرت نبياً عظيماً وقدوس الله .

وللرد على ذلك نقول:

تتوافق الأوصاف التي ذكرها إنجيل برنابا عن نبي الإسلام في معناها مع ما جاء في الكتب الإسلامية، مثل الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية، والدين والشهادة. أما الخلاص من الشقاء الأبدي فمنوط بالمسيح دون سواه، وذلك بناءً على موته الكفاري على الصليب نيابة عن البشر (يوحنا 12: 47 ومتى 18: 11). كما أن اسمه الأول، وهو يسوع يدل على هذه الحقيقة (متى 1: 21 لأنه مكّوَن من كلمتين عبريتين هما يا و·سوع ومعناهما معاً الله يخلص لأن كلمة يا هي اختصار كلمة يهوه أي الكائن بذاته أو بالحري الله نفسه.

أما كلمة عيسى المستعملة في الإسلام، فالأرجح أنها معرَّبة عن الكلمة اليونانية ايسا ، (والتي تُنطق في حالة الرفع أيسوس ومعناها المخلِّص ). وجدير بالذكر أن ملاّحي صعيد مصر الذين لا يزالون يستعملون الاصطلاحات اليونانية التي توارثوها عن أجدادهم القدماء دون أن يدركوا، يصرخون لغاية الآن عند التعرّض لأي خطر في النهر بالقول: إيلا أيسا ، أي هيا خلصنا .

هذا مع العلم بأن المدعو برنابا قال في فصل 4: 6 إن الملاك قال للرعاة عندما أنبأهم بمولد المسيح، إنه وُلد في مدينة داود نبي سيحرز لبيت إسرائيل خلاصاً عظيماً. وبهذا يناقض برنابا نفسه، شأن كل من يقوم بالتزييف والتزوير.

(2) ولما كان كاتب إنجيل برنابا يهودياً اعتنق الإسلام، فقد فاق جميع الناس في تعظيم نبي الإسلام، شأن صغار النفوس الذين يتظاهرون بغير الحقيقة، لتكون لهم مكانة ما. فقال في فصل 43: 25-31 عنه إنه هو رب داود الوارد ذكره في مزمور 110: 1 و2 .

وللرد على ذلك نقول:

إن رب داود الوارد ذكره في هذا المزمور هو المسيح. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة عندما أراد أن يمتحن معلومات معلّمي اليهود. فلما قالوا له إن المسيح هو ابن داود، سألهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً، قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك. فإن كان داود يدعوه رباً، فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد منهم أن يجيبه بكلمة (متى 22: 44 - 46 ولوقا20: 42-44). ولكن الإجابة واضحة جلية، فالمسيح من حيث لاهوته هو رب داود، ومن حيث ناسوته هو ابنه، لأنه وُلد حسب الجسد من ذريته (رومية 1: 3 و4).

ج - إلمامه بالكثير من العقائد والاصطلاحات الإسلامية:

(1) جاء في فصل 35: 9 أن الشيطان غضب عندما علم أن الله سيخلق آدم. فقال لملائكته: انظروا. سيريد الله يوماً ما أن نسجد لهذا التراب .والقول بامتناع الشيطان عن السجود لآدم ورد في الحجر 15: 30 وفي غيرها من السور. وجاء في فصلي 28 و29 أن إبرهيم كسر أصنام أبيه، وعلق الفأس على أكبرها قائلاً إنه هو الذي كسرها، وأنه عرف الله من مشاهدة النجوم. وهذا ما جاء في الأنعام 6: 76 والأنبياء 21: 63. وجاء في فصل 7: 10 أن يسوع تكلم وهو طفل، كما جاء في آل عمران 3: 48.

وهذه الأحداث لا أساس لها في الكتاب المقدس على الإطلاق.

(2) وجاء في فصل 38: 9 أنه لا يقدم أحدٌ صلاةً مقبولة إن لم يغتسل، كما هو معروف في الإسلام. فقد جاء في (تحفة المريد على جوهرة التوحيد ص 109) أن الوضوء يكفر ما قبله من الذنوب. وجاء في (صحيح مسلم - كتاب الطهارة. باب فضل الوضوء والصلاة عقبه) أنه إذا توضأ العبد المسلم (أو المؤمن) خرجت كل خطية نظر إليها بعينه، مع الماء.

أما في المسيحية فالوضوء (أو الاغتسال اللازم قبل الصلاة) هو تطهير القلب من الأهواء والشهوات والأفكار الدنيوية الباطلة، بوضعه تحت تأثير كلمة الله، لأنها هي التي تنقيه من كل شر يوجد فيه (يوحنا 15: 3).

(3) وجاء في فصل 156: 1 و133: 2 و131: 1 و61: 3 و89: 20 أن المسيح كان يدعو للصلاة في الظهر والمساء والليل والعشاء والفجر، كما يفعل المسلمون تماماً. مع أن الصلاة في المسيحية ليست فرضاً يؤدَّى بعبارات خاصة في أوقات معينة، بل هي مناجاة حرّة مع الله في أي وقت من الأوقات، ومن الواجب أن يعيش المسيحيون في جّوِها كل حين حسب قول الوحي: ·مصلِّين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح (أفسس 6: 18) و·واظبوا على الصلاة ساهرين فيها بالشكر (كولوسي 4: 2) لأن صلتهم الروحية بالله يجب أن لا تنقطع في أي وقت، و·صلوا بلا انقطاع (1تسالونيكي 5: 17) لأن فيها يكمن سرّ تمتّعهم بالقداسة التي هي الشرط الأساسي لتوافقهم الروحي مع الله (عبرانيين 12: 14).

(4) وجاء في فصل 10: 3 و4 فقدم له الملاك جبريل كتاباً كأنه مرآة براقة، فنزل إلى قلب يسوع . وهذا هو الاصطلاح الوارد في الشعراء 26: 194 عن نبي الإسلام. مع أن المسيح لم يكن في حاجة إلى نزول كتاب أو وحي من الله على قلبه، لأنه هو نفسه كتاب الله و·وحي الله لأنه كلمة الله متجسدة وظاهرة (يوحنا 1: 1-5).

 

الفصل الرابع

الإعلان عن صلب يهوذا عوضاً عن يسوع

 

قال كاتب الإنجيل المنسوب إلى برنابا في فصول 112: 13-17 و216-220 و221: 24 إن يسوع لم يُصلب، لأن الله ألقى صورته على يهوذا الذي كان يريد تسليمه لليهود، فصلبوه عوضاً عن يسوع. أما يسوع فقد رفعه الله إلى السماء. وهذا ما يقوله بعض المسلمين، بينما يقول غيرهم إن اليهود صلبوا يهوذا عوضاً عن المسيح لعدم تحقّقهم من هيئة كلٍ منهما، ويقول آخرون إن المسيح هو الذي صُلب، أو مات (لفترة اختلفوا في تحديد مداها)، ولذلك رأينا من الواجب أن ندرس فيما يلي هذه الآراء.

1 - آراء القائلين بإلقاء صورة المسيح على آخر، فصُلب بدله:

أ - لو فرضنا أن الله أراد أن ينقذ المسيح من أيدي اليهود، لأنقذه بوسيلةٍ تجعلهم يعرفون عظمته وسلطانه المطلق عليهم وعلى غيرهم. فكان (مثلاً) يرفعه حياً أمام عيونهم، أو يأخذه قسراً من بين أيديهم، أو يصيبهم بالعمى أو الشلل حتى لا يتمكنوا من القبض عليه .. ولكن إنقاذ الله للمسيح بإلقاء صورته على غيره لا يُشعر اليهود بشيء من عظمة الله أو سلطانه، بل بالعكس يجعلهم يعتقدون أنهم تمكنوا بحيلتهم وقوتهم من القبض على المسيح وصلبه. وبما أن الله لا يمكن أن يعمل عملاً يؤدّي إلى عكس الغرض منه، لذلك لا يمكن أن يكون قد رفع المسيح سراً إلى السماء، أو ألقى صورته على آخر ليُصلب عوضاً عنه.

ب - لو ألقى الله صورة المسيح على إنسان ما ليُصلب عوضاً عنه لكان هذا غشاً وخداعاً لا يلجأ إليهما إلا الضعيف المحتال الذي لا يستطيع القيام بأعماله جهراً. فلا يمكن أن يكون الله قد قام بهذا العمل على الإطلاق، لأنه بالإضافة إلى عظمته وقدرته اللتين لا حدَّ لهما، هو نور (1يوحنا 1: 5) والنور لا يعرف خداعاً أو مكراً.

2 - آراء القائلين بصلب يهوذا عوضاً عن المسيح لعدم التحقُّق من هيئة كلٍ منهما:

أ - كان المسيح معروفاً جيد المعرفة لكهنة اليهود الذين حاكموه وحكموا عليه، فلم يكن يعيش في كهف أو مغارة، بل وسط الناس، يسير معهم في الشوارع والحقول، ويذهب معهم إلى الهيكل والمجامع، وينادي بتعاليم ويقوم بمعجزات جذبت أنظارهم جميعاً. ثم إن الكهنة كانوا يلتفّون حوله من وقتٍ لآخر ليجادلوه في أمور الدين والدنيا، فكان يُجاوبهم (متى 23: 17-20) كما كان يوبخهم على ريائهم وشرورهم (متى 15: 17-20 و16: 1-4 ولوقا 11: 43 و44). فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن شَعره كان مسترسلاً على كتفيه لأنه (بوصفه ابن الإِنسان) كان نذيراً للّه من بطن أمه (العدد 6: 17-20) اتضح لنا أنه لا يمكن أن يكون قد اختلط الأمر عليهم فصلبوا شخصاً عوضاً عنه، حتى لو كان هذا الشخص له وجهٌ يشبه وجه المسيح. لأن الناس وإن تشابهوا أحياناً في وجوههم، فإنهم يختلفون في قامتهم وبِنيتهم، وطريقة حديثهم، وغير ذلك من الأمور.

ب - التقى يهوذا بكهنة اليهود مرات متعددة، وكان يمكث معهم في كل مرة فترة طويلة، يتحدث معهم عن حقده على المسيح، ويساومهم على المبلغ الذي كان يريد أن يتقاضاه منهم لقاء تسليمه إليهم (متى 26: 15). وعندما قام بتنفيذ خطته هذه، أخذ معه إلى المسيح جنوداً يرافقهم بعض الكهنة والشيوخ. (وليس من المعقول أن هؤلاء جميعاً كانوا مصابين بالعمى، بل لا بد أنه كان بينهم أشخاص لهم عيون تبصر!) ثم سار بهم مسافة طويلة حتى خارج المدينة، حيث يقع البستان الذي اعتاد المسيح الذهاب إليه. الأمر الذي يدل على أن بعض هؤلاء الأشخاص، إن لم يكن كلهم، لا بد عرفوا على الأقل شيئاً عن قامة يهوذا وملامحه العامة، وطريقة حديثه ومشيته، وغير ذلك من الخصائص البارزة له، لا سيما وقد كانت معهم مصابيح ومشاعل، أضواؤها لا تلعب بها الرياح، ونورها قوي وهاج. والأولى كانت تُستعمل في إضاءة الميادين والموانئ، والثانية كانت تضيء ساحات السباق والمعسكرات. فإذا أضفنا إلى ذلك أن القمر وقتئذ كان بدراً، لأن عيد الفصح الذي قُبض فيه على المسيح يقع دائماً في يوم 14 من الشهر القمري (الخروج 12: 6) فيُستطاع التمييز بين شخص وآخر بسهولة، اتضح لنا أنه لا مجال للظن بأن اليهود قبضوا على يهوذا باعتبار أنه المسيح، حتى لو فرضنا جدلاً أنهم لم يكونوا على بيِّنة من هيئة المسيح وهيئة يهوذا من قبل، كما يقول أصحاب هذا الرأي.

ج - لم يُحاكم الشخص الذي قبض اليهود عليه أمام كهنتهم مرةً واحدةً في الليل، أو نُفذِّ فيه الصلب وقتئذ حتى كان يجوز الظن بأنه لم تكن لديهم فرصة كافية للتحقُّق من شخصيته، بل حوكم أمامهم ثلاث مرات، من بينها مرة في الصباح. وعدا ذلك حوكم في سبعة مواقف أمام بيلاطس في أورشليم (يوحنا 18: 28-19: 16) كما حوكم أمام هيرودس الملك في الجليل (لوقا 23: 8). والمحاكمتان الأخيرتان كانتا بحضور شيوخ اليهود، كما كانتا بعد المحاكمات التي قاموا بها بأنفسهم، وكانتا فيما بين الساعة السادسة والتاسعة صباحاً حسب التوقيت المعروف عندنا. ولذلك فهذا الشخص عُرض في ضوء النهار على كثيرٍ من الناس مرات متعددة وفي أماكن مختلفة، كما سار بينهم مسافات طويلة، فكان من الميسور لكهنة اليهود أن يتحقّقوا من شخصيته، إن كانوا في شك من جهتها من قبل.

د - أثناء القبض على المسيح ضرب بطرسُ ملخسَ، عبدَ رئيس الكهنة، بسيفه فقطع أذنه . فشفى المسيح الأذن المقطوعة، وأمر بطرس أن يردّ سيفه إلى غمده لأن الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون (متى 26: 52 ولوقا 22: 51). ولا يمكن لشبيه المسيح أن يجري مثل هذه المعجزة في مثل هذا الموقف.

ه - عندما كان الشخص المذكور معلّقاً على الصليب، طلب الغفران لصالبيه قائلا: يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لوقا 23: 34). وقال للص الذي ندم على خطاياه: اليوم تكون معي في الفردوس (لوقا 23: 43). وبعد ذلك قال للعذراء مريم عن يوحنا الرسول: يا امرأة، هوذا ابنك . ثم قال ليوحنا: هوذا أمك ليعتني بها ويرعاها (يوحنا 19: 26 و27). وعباراتٌ مثل هذه لا يمكن أن تكون قد صدرت من شخص غير المسيح، كما لا يمكن أن يكون أتباعه قد أسندوها إليه ليثبتوا أنه هو الذي صُلب، لأنه لم يكن هناك وقتئذ شخص يشك في صلبه.

و - كانت العذراء مريم نفسها وبعض النساء قريباتها، ونساء أخريات كان المسيح قد شفاهنّ، مع يوحنا الرسول (أقرب التلاميذ إلى المسيح) بجوار الصليب، حتى أُنزل الشخص الذي كان معلّقاً عليه ودُفن في القبر. كما أن يوسف الرامي ونيقوديموس (اللذين كانا على صلة بالمسيح) هما اللذان كفَّنا هذا الشخص بأغلى العطور والأطياب، ووضعاه بعد ذلك بكل احترام في قبرٍ جديد محاط ببستان. وطبعاً لو لم يكونا على يقين تام من أنه المسيح بعينه، لكانوا قد تركوه لليهود والرومان ليتولّوا دفنه، كما كانوا يفعلون مع المحكوم عليهم بالقتل.

ز - أخيراً نقول إن الشخص الذي صُلب ومات قام من الأموات في اليوم الثالث، ورآه كثيرون وتحققوا من شخصيته بأدلة كثيرة. ولو كان هناك أي مجال للشك في خبر قيامته، لكان الرومان وكهنة اليهود قد بذلوا كل ما في وسعهم للقضاء عليه، لأنه كان يهدّد مراكزهم بالانهيار. بل ولَمَا قامت للمسيحية أية قائمة، إذ لا يمكن أن يقوم دين من الأديان على شخصٍ أعلن أنه سيقوم بعد موته، ولكنه لم يقُم. وبما أنه لو كان الشخص الذي صُلب هو يهوذا أو غيره من الناس، لكان قد ظل في قبره. إذاً فالشخص الذي صلبه اليهود كان هو المسيح بعينه، لأنه هو وحده رئيس الحياة (أعمال 3: 15) الذي لا يمكن أن يسود عليه الموت (أعمال 2: 26 ورومية 6: 9). أما الموت الذي وافاه فكان بإرادته وحده ليكون كفارة عن البشر. وطالما أنه كفّر عنهم، لم يكن من الممكن أن يظل في قبره مثل الناس.

3 - آراء المسلمين القائلين بصلب المسيح أو موته لفترة ما، وأسبابها:

(أ) آراء القائلين بصلب المسيح:

(1) قال الربيع بن أنس: إن الله توفى المسيح حين رفعه إلى السماء . وقال وهب: المسيح تُوفي ثلاث ساعات . وقال ابن إسحق: المسيح تُوفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه (تفسير الإمام الرازي ج 2 ص457-458).

(2) وقال مالك: من المحتمل أن يكون المسيح قد مات حقيقةً وأنه سيحيا في آخر الزمان ويقتل الدجال (شرح الآبي والسنوسي ج 1 ص295).

(3) وقال إدريس: الله أمات المسيح ثلاثة أيام، ثم بعثه ورفعه (تفسير ابن كثير لآل عمران 3: 55).

(4) وقال أيضاً بصلب المسيح وموته: ابن حزم، وأبو علي الجباتي المعتزلي، وأتباع قاديان المنتشرون في إيران والهند وباكستان (نظرة عابرة على مزاعم من ينكر نزول عيسى ص 8 و30 و32). أما مرزا غلام أحمد رئيس طائفة الأحمدية (التي ينتمي إليها الداعية الإسلامي أحمد ديدات من جنوب أفريقيا) فقال: إن المسيح صُلب، لكن أتباعه أنزلوه عن الصليب قبل أن يموت .

(5) وقال إخوان الصفا في القرن الرابع للهجرة عن المسيح: وخرج في الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى أُخذ وحُمل إلى ملك إسرائيل، فأمر بصلبه. فصُلب وسُمِّرت يداه على خشبة الصليب، وبقي مصلوباً من ضحوة النهار إلى العصر. وطلب الماء، فسُقي الخل. وبعد ذلك طُعن بالحربة ودُفن مكان الخشبة، ووُكل بالقبر أربعون نفراً، وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه. ثم اجتمع هؤلاء بعد ثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أن يتراءى لهم فيه (أي بعد قيامته من الأموات) فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم. وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يُقتل (رسائل إخوان الصفا ج 4 ص30). والسبب في هذا الخبر هو (طبعاً) أن من يُقتل يموت ولا يقوم، أما المسيح فقام بعد موته.

(6) وقال الشيخ أحمد بن يعقوب في القرن الثالث للهجرة في كتابه (تاريخ اليعقوبي ج 1 ص64) نقلاً عن إنجيل المسيحيين إنه لما طلب اليهود من بيلاطس أن يصلب المسيح، قال لهم: خذوه أنتم واصلبوه، وأما أنا فلا أجد عليه علة . فقالوا قد وجب عليه القتل لأنه قال إنه ابن الله . فأخرجه بيلاطس وقال لهم: خذوه أنتم واصلبوه . فأخذوا المسيح وأخرجوه وحمّلوه الخشبة التي صلبوه عليها.

(7) وقال الإمام محسن فاني في كتابه الدابستاني في القرن التاسع للهجرة: إنهعندما قبض اليهود على عيسى بصقوا على وجهه المبارك ولطموه. ثم أن بيلاطس، حاكم اليهود، جَلَده حتى أن جسمه من رأسه إلى قدمه صار واحداً... ولما رأى بيلاطس إصرار اليهود على صلب عيسى وقتله، قال: إني بريء من دم هذا الرجل، وأغسل يديَّ من دمه . فأجاب اليهود: دمه علينا وعلى أولادنا . ثم وضعوا الصليب على كتف عيسى، وساقوه للصلب (عن كتاب المسيح كما يراه المسلمون لصموئيل زويمر ص82).

(8) وقال شوقي (أمير الشعراء) مخاطباً المسيح في قصيدته الأندلس الجديدة :

عيسى! سبيلك رحمةٌ ومحبةٌ

في العالمين، وعصمةٌ وسلامُ

ما كنتَ سفَّاك الدماءِ، ولا امرأً

هان الضِّعافُ عليه والأيتامُ

يا حاملَ الآلامِ عن هذا الورى

كثُرت عليهِ باسمِك الآلامُ

خلطوا صليبَك والخناجرَ والمُدَى

كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ

(9) وقال الأستاذ علي محمود طه مخاطباً المسيح:

نسيَ القومُ وصاياك وضلّوا وأساءوا

 وكما باعوك يا منقذُ، بِيعَ الأبرياءُ

 يا قوياً لم يهنْ يوماً عليه الضعفاءُ

 وضعيفاً، واسمُه يُصرَعُ منه الأقوياءُ

 وأنا المسلم لا يُجحَدُ عندي الأنبياءُ

 أنت في القرآنِ حبٌّ وجمالٌ ونقاءُ

 عَجَبٌ فِديتك المُثلى وفي القولِ عزاءُ

 ألهذا العالمِ الشرّيرِ؟ قد ضاع الفداءُ!

 (جريدة الأهرام القاهرية - 25 ديسمبر 1942).

 (10) وقال الشاعر والفنان المصري محمد نجيب سرور في ديوانه لزوم ما يلزم يتخيل حديثاً دار بين المسيح وتلاميذه، جعل عنوانه العشاء الأخير :

 - غداً أكون على الصليب، أنا العريس!!

 - نفديك بالدم يا معلم 00 بالنفوس 00

 - لا تكذبوا، فلسوف يُسْلمني الذي منكم يشاركني الغُموس!!

أأنا أخونُكَ؟

- أنت قلت!

 - وأنا؟

 - ستنكرُني ثُلاثاً قبلما الديكُ يصيحْ

 - إنّا لنُقسِم يا مسيحْ

 - لا تُقسِموا 00 فغداً أكونُ على الصليبْ

 وَغَداً لناظِرِهِ قريبْ!!

 ب - الأسباب التي بنى عليها الأشخاص المذكورون آراءهم:

 إذا استثنينا الشيخ أحمد بن يعقوب، والأشخاص السابق ذكرهم، في بندي (1 و4) بوصفهم مخدوعين أو متأثرين بالعقيدة المسيحية من جهة صلب المسيح (كما يقول البعض) فإن الباقين، كلهم أو بعضهم، يكونون قد قالوا بصلب المسيح أو موته لعدم موافقتهم على الرأيين الخاصين بصلب أحد الناس عوضاً عن المسيح، للأسباب التي ذكرناها أو لأسباب غيرها.

4 - أسباب اعتقاد المسيحيين بصلب المسيح:

أما المسيحيون فيبنون اعتقادهم بصلب المسيح على الأدلة الآتية:

 أ - الأدلة الكتابية:

 أعلن الكتاب المقدس، الذي أثبتنا صدقه في الجزء الأول من هذا الكتاب، صلب المسيح بكل جلاء ووضوح. فقد سجّلت البشائر حادثة صلبه بالتفصيل، كما أشارت إليها الرسائل أكثر من مائتي مرة عند الحديث عن محبة الله للخطاة، وغير ذلك من الموضوعات. فضلاً عن ذلك فإن أنبياء العهد القديم تنبأوا عن صلب المسيح نبوّات متعدّدة في عصور متفاوتة. وتدل القرائن على صدق ما ذكروه جميعاً.

 ب - الأدلة التاريخية:

 (1) أشار تلمود اليهود وكتبهم التاريخية القديمة والحديثة، وكذلك الكتب التي ألفها مؤرخو اليونان والرومان في القرنين الأول والثاني، إلى محاكمة المسيح وصلبه.

 (2) هناك مؤلفات كثيرة لكتَّاب مسيحيين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى مثل أكليمندس وأغناطيوس وبوليكاربوس وترتوليان وبابياس ويوستينوس ومثوديوس، تعلن أن المسيح رضي بآلام الصلب ليكون كفارة عن البشر أجمعين. وهذه الكتب محفوظة إلى الآن في المتاحف ودور الكتب الأوربية.

(3) هناك كتب دينية كُتبت بعد ظهور الإسلام بقرن من الزمان تعلن أن المسيح مات مصلوباً، أقربها كتاب صلاة يرجع إلى القرن الثامن، عثر عليه أساتذة من جامعة شيكاغو في ديسمبر (ك1) 1965 بمنطقة قصر الوز في بلاد النوبة (السودان). وقد جاء فيه أن المسيح خاطب الصليب قائلاً: أيها الصليب المقدس! سوف أصعد إليك. سوف يشنقونني فوقك. وسوف تكون شاهدي . (عن جريدة الأهرام القاهرية 26 ديسمبر (ك1) 1965).

(4) فضلاً عن ذلك، فإن التاريخ يسجل لنا أنه في سنة 325م عُقد في نيقية عاصمة بيثينية في آسيا الصغرى مجمع بأمر قسطنطين الأكبر، حضره 318 أسقفاً من جميع أنحاء العالم، وكثير من القسوس والعلماء أيضاً، لوضع قانون للإيمان المسيحي بمناسبة انتشار بدع الغنوطسيين وغيرهم، فتمّ وضعه في هذه السنة. ويقول مطلعه: بالحقيقة نؤمن بالهٍ واحد . وجاء فيه يسوع المسيح تأنس وصُلب عنا في عهد بيلاطس البنطي وتألم وقُبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب المقدسة . ولا يزال هذا القانون معروفاً لدى جميع المسيحيين على اختلاف طوائفهم.

ج - الأدلة الأثرية:

(1) اكتشف علماء فرنسيون صورة الحكم الذي أصدره بيلاطس البنطي بصلب المسيح، أثناء مرافقتهم الجيش الفرنسي في زحفه إلى إيطاليا سنة 1280م.

(2) كما اكتشف العلماء الألمان الرسالة التي أرسلها بيلاطس إلى طيباريوس قيصر، مبيّناً فيها الأسباب التي دعت إلى صلب المسيح، في روما سنة 1390م.

(3) هناك آثار متعددة من صور بالزيت وحفر على قطع من الخشب والحجر الرخام، يرجع تاريخها إلى القرنين الأول والثاني، تدل على أن اليهود صلبوا المسيح. وقد نقل الصور الفوتوغرافية لها كثير من العلماء. اقرأ مثلاً كتاب الاكتشافات الحديثة وصدق وقائع العهد الجديد، للسير وليم رمزي .

(4) القبر الذي دُفن المسيح فيه، موجود إلى الآن في أورشليم خالياً من جسده، ويزوره كل عام ملايين المسيحيين منذ القرون الأولى، مما يدل على أن المسيح مات ودُفن، وأنه قام بعد ذلك من الأموات، كما سجل الكتاب المقدس.

د - الأدلة العقلية:

(1) كان الصليب مكروهاً من جميع الناس قبل ظهور المسيحية، لأنه كان آلة الإعدام التي يُقتل عليها أشر المجرمين. لكن المسيحيين اعتادوا منذ القرون الأولى للمسيحية أن ينقشوا رسمه على أيديهم ومعابدهم، وعلى منازلهم ومقابرهم أيضاً، كما اعتاد ملوكهم أن يزيّنوا به تيجانهم وعروشهم، وما زالت بعض الدول تزيِّن به أعلامها، مما يدل على أن الصليب حمل منذ ذلك العهد فكرةً مجيدةً وثقة أكيدة بأن المسيح الذي اعتادوا أن ينقشوا رسم صليبه في كل مكان، هو فاديهم ومخلصهم الكريم.

(2) لم يكن الذين نادوا بصلب المسيح أعداء له (حتى كان يجوز الظن أنهم أرادوا التشهير به) بل هم تلاميذه الذين أحبوه وتركوا كل شيء وتبعوه. وإذا كان التلاميذ المخْلصون يكرمون معلّمهم، ويحاولون أن يُبعِدوا عنه كل ما يهين سمعته أو يحقّر من شأنه، فلا بد أن ما قاله تلاميذ المسيح عن صلبه قد حدث فعلاً أمام عيونهم.

(3) لو أن هؤلاء التلاميذ نالوا من وراء المناداة بصلب المسيح مالاً أو جاهاً، لكان من الجائز أيضاً الطعن في تاريخية الصليب بدعوى السعي وراء هذا أو ذاك، لكنهم بالعكس، لم يُقابَلوا إلا الهزء والسخرية والتهكم والازدراء. وبما أنه ليس من المعقول أن تختلق جماعة من الناس (لا سيما إذا كانت متباينة في السن والثقافة والطباع) أمراً لا حقيقة له، يتحمّلون في سبيله الآلام والاضطهادات، ومع ذلك يواظبون على المناداة به، فلا بد أن كل ما قاله تلاميذ المسيح عنه قد حدث فعلاً أمام عيونهم كما ذكرنا.

 

الفصل الخامس

عدم كتابة إنجيل برنابا بالوحي الإِلهي

 

أولاً - في إنجيل برنابا تجاديف:

أ - جاء فيه في فصل 35: 22 و23 و41: 21 و22 و51: 25 و26 أن الله قال لملائكة الشيطان: توبوا واعترفوا بأنني أنا الله خالقكم . أجابوا: إننا نتوب عن السجود لك، لأنك غير عادل. ولكن الشيطان عادل وبريء، وهو ربنا . وأن الشيطان ذهب مرة إلى الله ضاحكاً (أو بالحري ساخراً) يقول إنه سيزعج الله حتى يعلم أنه أخطأ بطرده (أي طرد الشيطان) من الفردوس. مع أن ملائكة الشيطان لا يمكن أن يتحدثوا مع الله بهذا الأسلوب الوقح. وأن الشيطان (إن كان من الجائز إسناد الضحك إليه) لا يجسر أن يضحك أمام الله أو يسخر منه، لأن الشيطان ورسله ليسوا أعظم من الله أو أنداداً له، بل هم مخلوقون بواسطته. والمخلوق الناكر الجميل، وإن كان في جهله يجدّف أحياناً على خالقه، لكن عندما يواجهه، لا يستطيع أن يرفع رأسه أو ينبس ببنت شفة أمامه.

أما الكتاب المقدس فيقول إن الشياطين يؤمنون ويقشعرون من جلال الله (يعقوب 2: 19) وإن رئيسهم هبط ساقطاً مثل البرق أمامه (لوقا 10: 18) وإنه كان يرتعب من المسيح رعباً لا مزيد عليه (مرقس 5: 7) وإن الله سيسحقه تحت أقدام المؤمنين الحقيقيين (رومية 16: 20).

ب - وجاء في فصل 159: 22 الكذب الذي أمر الله الأنبياء الكَذَبة أن يتفوّهوا به وفي 161: 10 أن الله اعتبر الكذب في سبيل الحمد (أو المدح) فضيلة. مع أن الله منزه عن الكذب (تيطس 1: 2) وقد نهى عن الكذب نهياً باتاً، فقال: لا تكذبوا بعضكم على بعض (كولوسي 3: 9) كما قال: اطرحوا عنكم الكذب (أفسس 4: 25).

ج - وجاء في فصل 51: 4-20 حديث ومجادلة بين مسيح برنابا المزعوم والشيطان لعمل مصالحة بينهما. مع أن هذا لا يتفق مع عِزَة الله، كما أن المسيح دخل منذ البدء في حرب مع الشيطان.

ثانياً - فيه أكاذيب:

وهذه نوعان (الأول) أكاذيب عامة (الثاني) أكاذيب ناتجة عن عدم الإلمام التام بالتوراة. كما يتضح مما يلي:

أ - الأكاذيب العامة:

(1) جاء في فصل 97: 3 أن كهنة اليهود قالوا إنهم سيكتبون إلى مجلس الشيوخ الروماني المقدس لإصدار أمر ملكي بأن لا يقول أحد عن يسوع إنه الله أو ابن الله. وجاء في 83: 12 أن يسوع حفظ مع تلاميذه الأربعين يوماً (أو بالحري صوم الأربعين) مع أن من له إلمام بالتاريخ، يعلم أن ما قيل عن مجلس الشيوخ الروماني هو محض افتراء، لأن هذا المجلس لم يكن يعبأ بالشئون الدينية اليهودية، كما أن المسيح وحده هو الذي صام أربعين يوماً. أما صوم الأربعين (بأل التعريف) المعروف عند كثيرين من المسيحيين، فلم يتقرر رسمياً إلا في القرن الرابع للميلاد، مما يدل على عدم معرفة كاتب إنجيل برنابا بالحقائق التاريخية.

(2) وجاء في فصل 145: 43 أنه يكفي للإِنسان كل ليلة ساعتان للنوم. ويتكرر المعنى في 101: 5 و109: 4 عن وجوب قلّة النوم. وجاء في 167: 2 أن الأرض مستقرة على سطح الماء. مع أن (أ) الإِنسان يحتاج من 6-8 ساعات للنوم كل ليلة (ب) وأن الأرض كوكب يسير في الفضاء، وليس مستقراً على شيء. وقد أشار الوحي إلى هذه الحقيقة فقال عن الله أنه يعلق الأرض على لا شيء (أيوب 26: 7)، أو بلغتنا العصرية يعلقها بواسطة الجاذبية.

(3) وجاء في فصل 217: 45 أن المسيح طبع بسحره صورة وجهه على وجه يهوذا. وجاء في 208: 10 أن الفريسيين بسبب رغبتهم في قتل يسوع أعماهم الحنق. فضرب بعضهم بعضاً في الهيكل، حتى مات منهم هناك ألف رجل. مع أن (أ) المسيح كان أبعد ما يكون عن السحر. وقد أعلن كاتب إنجيل برنابا أنه له المجد قدوس الله (ب) كما أنه لا يعقل أن يضرب الفريسيون بعضهم بعضاً في ذات الهيكل، ودون أن يدروا ماذا يفعلون. ولو فرضنا أنهم أُصيبوا بالجنون وقتئذ، لكان حراس الهيكل، وهم كثيرون، قد تداخلوا في الأمر وطردوهم منه في الحال حرصاً على سير العبادة فيه بكل وقار.

ب - الأكاذيب الناتجة عن عدم الإلمام التام بالتوراة.

ويبدو أن كاتب إنجيل برنابا ، مع يهوديته، لم يكن من علماء شريعتها الذين لهم إلمام تام بالتوراة، بل كان أحد رجال السياسة أو المال والأعمال، كما يظهر من الأخطاء الآتية:

(1) جاء في فصل 115: 7 أن الذين نجوا مع نوح من الطوفان كانوا 83 شخصاً. وجاء في 150: 24 أن داود اعتلى العرش عندما كان ابن 15 سنة. وجاء في 181: 11 أن الله قال على لسان داود أن الصدِّيق يسقط سبع مرات في اليوم. مع أن (أ) الذين نجوا من الطوفان بمن فيهم نوح كانوا ثمانية أشخاص فحسب (تكوين 7: 7). (ب) وأن داود اعتلى العرش عندما كان 30 سنة (2صموئيل 5: 4 و5). (ج) وأن القول المنسوب إلى داود، جاء على لسان سليمان الحكيم، وصوابه الصدِّيق يسقط سبع مرات ويقوم (أمثال 24: 16).

(2) وجاء في فصل 138: 4 أن إيليا خادم الله لم ير خبزاً مدة ثلاث سنوات. وجاء في 160: 1 أن دانيال النبي سجل أن أحد ملوك إسرائيل تحالف مرة مع أحد ملوك يهوذا لمحاربة بني بليعال (أي عَبَدة الوثن). وجاء في 165: 1 أن الله قال على لسان يوئيل النبي: لعمري يقول إلهكم لا أريد موت الخاطئ، بل أود أن يتحول إلى التوبة . مع أن (أ) دبَّر الله لإيليا خبزاًٍ ولحماً (1ملوك 17: 1-7). (ب) وأن الحادثة المسنَدة إلى دانيال النبي، كان قد سجّلها ياهو بن حناني (2أخبار 20: 34)، وموجودة بالتفصيل في (1ملوك 22: 3-31). (ج) وأن القول الأخير جاء على لسان حزقيال النبي: هل مسرةً أُسرُّ بموت الشرير؟ ألا برجوعه عن طريقه فيحيا؟ (حزقيال 18: 23).

ثالثاً - فيه خرافات:

أ - جاء في فصل 35: 6 و7 و26 و27 أن الله خلق كتلةً من التراب ليصنع منها آدم، ثم تركها 25 ألف سنة دون أن يفعل بها شيئاً. فبصق الشيطان عليها، وحينئذ أسرع جبريل برفع هذا البصاق مع شيء من التراب الذي تحته، فكان للإِنسان بذلك سُرّة في بطنه. وجاء في 39: 8-12 و123: 3 أن الشيطان لما رأى الخيل في الجنّة تأكل العشب أوعز إليها أن تذهب إلى كتلة التراب (السابق ذكرها) فهاجت الخيل وأخذت تعدو بشدة عليها. فأعطى الله روحاً لذلك الجزء النجس الباقي من التراب الذي وقع عليه بصاق الشيطان، فأصبح كلباً. فأخذ هذا الكلب ينبح حتى أزعج الخيل وطردها. وبعد ذلك خلق الله آدم وامرأته من التراب والهواء والماء والنهار. وجاء في 35: 8 أنه لما علم الشيطان الذي كان بمثابة كاهن ورئيس ملائكة أن الله سيأخذ من الكتلة المذكورة 144 ألف نبي، قال لأتباعه إن الله سيطلب منهم أن يسجدوا لها.

وإزاء هذه العبارات نقول: (1) إن ترك كتلة التراب التي يقال إن الله أراد أن يخلق منها آدم 25 ألف سنة دون أن يعمل بها شيئاً، يتعارض مع قدرته تعالى، لأنه هو الذي يقول للشيء كن فيكون . وهو لا يحتاج في أداء عمل من أعماله إلى وقتٍ ما. (2) إن الشيطان روح، والروح لا يبصق. (3) تتكون السرّة من قطع الحبل السري بعد الولادة، ومِن ثمّ فآدم لم تكن له سرة! (4) وإذا فرضنا أن الخيل أخذت تعدو على كتلة التراب التي يقال إن الله أراد أن يخلق آدم منها، لم يكن ثمّة داعٍ أن يروعها تعالى بواسطة كلب يخلقه، إذ كان من الميسور له أن يطردها أو يقضي عليها أيضاً بكلمة واحدة. (5) وإذا فرضنا أن الكلب حيوان نجس، لما طرد الخيل من الجنة، بل لساعدها على تنفيذ إرادة الإِنسان، لأن النجاسة هي في تنفيذ إرادته. (6) القول إن الإِنسان مخلوق من التراب والماء والهواء والنار، هو قول المنجّمين الذين قالوا إن مزاج الإِنسان إما ترابي أو مائي أو ناري أو هوائي، وذلك تبعاً ليوم ولادته واسم أمه... وقولهم هذا لا نصيب له من الصواب. (7) أخيراً نقول إن الكهنوت لا مجال له إلا إذا كان هناك بشر. فالقول إن الشيطان كان قبل خلقهم بمثابة كاهن هو قول هراء. كما أن الادعاء أن الشيطان علم مسبّقاً أن الله سيخلق من كتلة التراب أنبياء، ثم سيأمر الشيطان وأتباعه بالسجود لها، تُسند علم الغيب إلى الشيطان، مع أن الله وحده هو علام الغيوب.

أما ما سجله الكتاب المقدس عن خلق آدم فهو: جَبَلَ الرب الإله آدم تراباً من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياةٍ فصار آدم نفساً حية (تكوين 2: 7). فليقارن القراء بين ما سجله الكتاب المقدس، وبين ما سجله الإنجيل المنسوب إلى برنابا.

ب - وجاء في فصل 40: 9-11 و16 أن الشيطان طلب من الحية أن تفتح فمها ليدخل في بطنها، كما طلب منها أن تضعه بعد ذلك على مقربة من حواء. ولما فعلت ذلك، قال لحواء: يجب أن تعرفي أن الله شرير وحسود . وجاء في 40: 28 أن آدم عندما أكل من الشجرة، أراد أن يوقف نزول الطعام إلى جوفه، فوضع يده في حلقه، فظهرت العلامة الخاصة فيه. وجاء في 39: 36 أن ما نهى الله آدم عن الأكل منه هو التفاح والحنطة.

مع أن (1) الشيطان روح، ولذلك لا يدخل في بطن إنسان أو حيوان، وكل ما يعمله أنه يغري الناس على القيام بأعمال خاصة بواسطة تصويرها أمام أذهانهم بصورٍ جذابة، دون أن تكون له قدرة على دفعهم إليها. كما أنه ليس في حاجة إلى أن ينقله أحد من مكان إلى آخر، لأنه يستطيع القيام بهذا العمل بنفسه بكل سرعة. فضلاً عن ذلك فهو ليس بالكائن الجاهل حتى يقول لحواء عن الله إنه شرير وحسود، وإلا انكشفت نواياه السيئة في الحال، ونفرت حواء من سماع صوته.

(2) العلامة التي يُقال بوجودها في رقبة الرجل وحده وتسمى عند العامة تفاحة آدم مشتركة بين الرجل والمرأة. كل ما في الأمر أن طبقةً من الدهن تغطيها عند المرأة. ولو فرضنا جدلاً أن العلامة المذكورة تكّونت في آدم، عندما أراد أن يوقف نزول الطعام إلى جوفه (كما يُقال) لما ورثها البشر عنه، لأن البشر لا يرثون عن والديهم الأعراض أو العلل الجسمية التي تحل بهم. كما أن الطعام الذي نأكله لا يمرّ بالحلق أو الحلقوم، كما ذهب المدعو برنابا، بل يمر في المريء ومنه إلى المعدة. لأنه لو مر بالحلقوم لذهب إلى القصبة الهوائية، وسبَّب الموت خنقاً.

(3) والادعاء أن الله نهى آدم عن التفاح والحنطة يثير العجب، لأن هذين طعامان رئيسيان. كما أنه لو كان الله قد نهاه عنهما، فلماذا سمح لنا بالأكل منهما ومن غيرهما ما شئنا!!

أما ما ذكره الكتاب المقدس عن هذه الأمور فهو أن الشيطان، ممثّلاً في الحية، قال لحواء: الله عالم أنه يوم تأكلان (هي وآدم) من ثمر الشجرة (المنهي عنها) تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفَيْن الخير والشر. فاغترّت حواء بقوله وأخذت من ثمر الشجرة وأكلت، وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل (تكوين 3: 1-7). فليقارن القراء بين ما سجله الكتاب المقدس، وما سجله الإنجيل المنسوب إلى برنابا.

ج - وجاء في فصل 23: 3-11 أن آدم أراد بعد عصيانه أن يقطع جسده (بمعنى عضوه الجنسي)، فأرشده الملاك إلى قطع الغلفة منه فحسب. وفي 41: 20 و21 أن الله أمر ميخائيل أن يقطع قوائم الحية التي دخل فيها الشيطان حتى إذا أرادت السير تزحف على بطنها هي ونسلها. وجاء في 27: 5 أن الله مسخ بعض المصريين حيوانات لأنهم استهزأوا بآخرين. مع أن (1) فكرة قطع العضو الجنسي لا تخطر ببال الرجل إلا إذا كان مصاباً بالجنون، أو كان يعتبر الزواج أمراً نجساً. ولم يكن آدم واحداً من هذين الشخصين. كما أن الختان (كما يتضح من التاريخ) لم يكن له وجود قبل إبرهيم الخليل، الأمر الذي يدل على أنه حتى إذا قيل إن المراد هو الختان، فإن هذا القول، لا يكون صحيحاً.

(2) ولو فرضنا أن ميخائيل قطع قوائم الحية، فإن هذا القطع لم يكن يؤدي إلى ولادة نسلها دون قوائم. لأن النسل لا يرث ما يطرأ على جسم والده من تغيير بسبب حادثة ما، كما ذكرنا.

(3) مسخ الله بعض الناس إلى حيوانات، بسبب شرورهم وآثامهم لا يتفق مع ناموسه الثابت المعروف في كل الكائنات. لكنه (كما يتضح من الكتاب المقدس) يعاقبهم بالضيقات والآلام المتنّوعة حتى يستفيقوا من غفلتهم ويعودوا إلى طاعته. فضلاً عن ذلك فإن المسخ ليس له أساس في الكتاب المقدس، بل هو من القصص التي كان يبثّها السحرة قديماً في أذهان الناس، لإرعابهم وإزعاجهم. وهذه القصص كما نعلم لا نصيب لها من الصواب.

د - وجاء في فصل 57: 14 أن كل قملة كانت على إنسان حباً في الله تتحول إلى لؤلؤة. وجاء في 74: 4 أن سليمان الحكيم كان قد أعدّ وليمة لكل المخلوقات، فانقضّت سمكة على كل ما في الوليمة من طعام وأكلته.

وإزاء العبارة الأولى نقول: حقاً إن الله يكافئنا عن جهادنا في سبيل الحق بأكثر مما نظن أو نفتكر، ولكن حاشاه أن يطلب منا أن نكون قذرين، ليحوّل كل قملة نسمح بوجودها في ملابسنا حُباً في ذاته إلى لؤلؤة. لأنه يريد أن يكون كل منا نظيفاً لا قذراً. ومع كل فإن المدعو برنابا، قد كشف لنا بقوله هذا عن آرائه ومنهاجه في الحياة. فهو إما اعتبر قتل القمل جريمة يعاقب المولى قاتلها، أو أنه كان يتعمّد عدم تنظيف جسده وملابسه ليُظهر للناس أنه لتفانيه في العبادة لا يبالي حتى بالنظافة، التي هي من أهم ضروريات الحياة!! وهكذا تنكّر للقول المأثور النظافة من الإيمان .

أما من جهة العبارة الثانية فإنها لا تحتاج إلى ردّ لإظهار ما فيها من بهتان. وما سجلناها إلا ليرى القارئ عقلية كاتب إنجيل برنابا التي كانت تدعوه لاختلاق أحداث ما أنزل الله بها من سلطان.

ه - وجهلاً بمعاني الكلمات وأصلها جاء في فصل 144: 10 أن كلمة فردوس كنعانية تعني يطلب الله . وبحسب 144: 13 نفس المعنى هولكلمة فريسي! ويمدح الفريسي الحقيقي في فصل 151: 1 و2 و10-17 دون أن يدرك المعنى وأصل الكلمة. والواقع أن كلمة فردوس فارسية وتعني حديقة. أما كلمة فريسي فأرامية وتعني المعتزل، والفريسيون جماعة بالغت في التدين ، وأشار يوسيفوس لأول جماعة ظهرت بهذا الاسم تحت قيادة يوحنا هيركانوس الأول (135-104 ق م).

رابعاً - فيه مبالغات:

أ - جاء في 34: 16 أن آدم وحواء بكيا لأجل خطيتهما مئة عام. وجاء في فصل 33: 22 أن الذين قُتلوا من بني إسرائيل لعبادة العجل كانوا 120 ألف شخصاً. وجاء في 145: 1-3 أنه كان في أيام إيليا 12 جبلاً يسكنها 17 ألف فريسي. وأن إيليا ذبح عشرة آلاف رجل كانوا يعبدون الأوثان (148: 7). وجاء في 13: 10 أن الله أوصى مليون ملاكاً ليحرسوا ثياب المسيح. وجاء في 152: 4 أن عدد آلهة الرومان كانوا 28 ألف إلهاً. مع أن (1) الله كان قد أنبأ آدم وحواء بمجيء مخلص لهما يخلصهما من نتائج خطيتهما فور شعورهما بها (تكوين 3: 15) فلم يكن هناك داع لأن يبكيا هذه السنوات الطويلة (2) وأن الذين قتلوا بسبب عبادة العجل كانوا ثلاثة آلاف فقط (الخروج 32: 28). (3) وأن بلاد إسرائيل ليس بها العدد المذكور من الجبال. وأنه لو كان المراد بالفريسيين الأشخاص الذين لم يسجدوا للأوثان في أيام إيليا، فقد كانوا سبعة آلاف فقط (1ملوك 19: 18). وأن الذين ذبحهم إيليا من كهنة الأوثان كانوا 450 فقط (1ملوك 18: 22). (4) وأن المسيح لم يكن يقتني إلا ثوباً أو ثوبين على الأكثر لأنه ارتضى حياة الفقر، فلم يكن في حاجة إلى ملاك واحد ليحرس ثيابه، إذا استلزم الأمر (4) وأن عدد آلهة الرومان، كما يتضح من أساطيرهم، لم يكونوا أكثر من مئة إله.

ب - وجاء في فصل 35: 8 أن عدد الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى العالم 144 ألف نبي. وفي 21: 6 أن المجنون الذي شفاه المسيح كان به 6666 شيطاناً. وفي 136: 17 و137: 1 أن الناس الذين لهم إيمان بدون أعمال سيمكثون في الجحيم 70 ألف سنة فقط. وفي 51: 22 و23 و57: 2 و3 أن ميخائيل سيضرب الشيطان بسيف الله مئة ألف ضربة، كل ضربة منها توازي عشرة أمثال الجحيم. وفي 53: 15-19 أنه قبل يوم الدينونة يتحول القمر إلى كتلة من الدم، حتى أن الدم يتساقط منه على الأرض كما يتساقط الندى، وتقع حرب هائلة بين الأجرام السماوية، وتبكي النباتات وقتئذٍ بدل الدمع دماً. وجاء في 55: 14 أن العين الواحدة ستذرف في جهنم ماء أكثر من مياه الأردن.

مع أن (1) عدد الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى العالم (كما يتضح من الكتاب المقدس) لا يتجاوز مائة نبي. (2) وأن حصر عدد الشياطين التي كانت في المجنون، لم يراع فيه سوى تكرار رقم 6 إلى مرتبة الآلاف (مرقس 5: 9) وهو حصر وتكرار لا يقومان على أساس. (3) وأن الذين لهم إيمان بدون أعمال يكون إيمانهم ميتاً، فلا يمكنهم التمتع بالله على الإطلاق، لأن التمتع به مقصور على المؤمنين الحقيقيين الذين حصلوا منه على طبيعة روحية يستطيعون بها التوافق معه في صفاته الأدبية السامية (1بطرس 1: 3-7 و2بطرس 1: 3-5). ولذلك سيظل المؤمنون بالاسم مع الأشرار بعيدين عن الله إلى الأبد. (4) وأن الشيطان روح لا جسم له، لذلك لا يمكن ضربه كما يقال. فالقول إن الملاك سيضربه بما يوازي مليون جحيم هو رميةٌ دون رامٍ. (5) والقول إن الدم يتساقط من القمر على الأرض كالندى هو قول هراء لأن القمر جماد لا يشعر ولا يحس، كما أنه لا يجري فيه دم ما. فضلاً عن ذلك فإن الناس (وليس النباتات) هم الذين سيبكون بدل الدمع دماً، لأنهم هم الذين سيرتعبون من حضرة الله بسبب خطاياهم. ولو فرضنا جدلاً أنه في الأبدية ستكون للناس عيون مادية تذرف دموعاً مادية فإن جهنم (بناءً على رأي كاتب إنجيل برنابا ) ستتحول إلى بحر من الدموع!! أما ما سجله الكتاب المقدس عن يوم الدينونة، فهو أن السموات (أو بالحري الأجرام السماوية) تزول فيه بضجيج، وأن العناصر تنحل فيه محترقة، وأن الأرض تحترق هي والمصنوعات التي فيها (2بطرس 3: 10). وهو وصف يتوافق مع قول العلماء في الوقت الحاضر أن الأجرام معرّضة للتصادم، وأن ذرات الكون معرّضة للتفكك والانحلال. كما أن ما سجله الكتاب المقدس عن موقف الأشرار في هذا اليوم هو: والعظماء والأغنياء والأمراء والأقوياء وكل عبد وكل حر، أخفوا أنفسهم في المغاير وفي صخور الجبال، وهم يقولون للجبال والصخور: اسقطي علينا وأخفينا عن وجه الجالس على العرش (رؤيا 6: 15 و16). فليقارن القارئ بين ما سجله الكتاب المقدس، وما سجله الكتاب المسمى إنجيل برنابا .

خامساً - فيه متناقضات:

أ - جاء في فصل 26: 3 و4 و47: 10 و74: 18 و77: 6 و88: 18 أن المسيح كان يبادر كل من يسأله عن أمرٍ من الأمور التي يجهلها بالقول: يا مجنون أو يا غبي . مع أن المسيح كان وديعاً يرحب بكل إنسان يتقدم إليه بسؤال عن أمر يجهله (متى 19: 16 ويوحنا 14: 5) ولم يوبخ إلا الأشرار من رجال الدين بالقول: يا مرائين ، لأن أعمالهم كانت تتعارض مع أقوالهم. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المحتمل أن الشخص الذي كتب الإنجيل المنسوب إلى برنابا، لم يكن شخصاً رزيناً سليم النفس، بل كان شخصاً ثائراً ومعقّداً، لأن من يظن أن المسيح الوديع الهادئ كان يخاطب كل من يسأله عن أمر بالقول يا مجنون أو يا غبي ، يكون هو ذلك الشخص بعينه.

ب - وجاء في فصل 93: 16 و18 و94: 5 و6 أن هيرودس الملك وبيلاطس الوالي قدّما للمسيح صنوف التجلّة والاحترام، وأن رئيس الكهنة سجد عند قدمي يسوع. مع أن رئيس الكهنة كان يبغض المسيح كل البغض، وهو الذي أشار على اليهود من أول الأمر بقتله. وأن بيلاطس وهيرودس كانا لا يؤمنان بلاهوت المسيح حتى يقدما له التجلة والاحترام. ولو كان هذا صحيحاً، لما فكر أحد في صلب المسيح، ولما كان هناك أيضاً مجال للقول بصلب يهوذا عوضاً عنه، كما قال.

ج - وجاء في فصل 205: 14 أن شيوخ اليهود رفضوا المسيح لأنه أراد أن يكون ملكاً عليهم. مع أنهم هم الذين أرادوا أن يجعلوه ملكاً عليهم ليشبعهم خيراً ويدفع الرومان عن بلادهم، ولكنه انصرف عنهم (يوحنا 6: 15) لأن المُلك الذي يريده هو الملك الروحي على القلوب، لأنه لم يأت للمُلك على العالم، بل لتقديم نفسه كفارة عن الخطاة، حتى لا يهلك كل من يؤمن به إيماناً حقيقياً، بل تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16). أما السبب الحقيقي في رفض اليهود للمسيح فهو توبيخه لهم على شرورهم وآثامهم.

د - وجاء في فصل 198: 12 أن المسيح قال: عساني أن أنال من الله قصاصاً في هذا العالم، لأني لم أخدمه بإخلاص كما يجب عليَّ أن أفعل . مع أن المسيح كان كاملاً كل الكمال، كما يؤمن المسيحيون والمسلمون معاً. فضلاً عن ذلك فقد شهد كاتب إنجيل برنابا في 21: 3 و96: 6 و97: 2 و156: 31 وغيرها أن المسيح هو قدوس الله . و·قدوس الله لا عيب فيه ولا يستحق إلا كل إكرام وتبجيل. وهكذا يناقض هذا الكاتب نفسه.

ه - وجاء في فصل 47: 8 و215: 2 وغيرهما أن المسيح انسحب خائفاً، خاصة عندما جاءوا للقبض عليه ليصلبوه. مع أنه كان شجاعاً كل الشجاعة، فلم يرهب الملوك أو رؤساء الدين أو الجنود الذين أتوا للقبض عليه (متى 26: 46-49 ولوقا 13: 32 ويوحنا 18: 6-8). أما سبب انسحابه في بعض الأحيان، فيرجع إلى عدم إصغاء اليهود إلى تعليمه، ورغبته في إسداء بعض الخدمات إلى الناس الذين كانوا في حاجة إليها.

و - وجاء في فصل 131: 6 أن يوحنا، أحد تلاميذ المسيح، كان صديقاً لهيرودس الملك، وأنه تناول الطعام معه مرة. مع أن يوحنا، كيهوديِّ المنبت، كان يعتبر الاختلاط بواحدٍ من الأمم الأخرى نجاسة، يجب أن يبتعد عنها (يوحنا 4: 9). أما ما سجّله الكتاب المقدس عن يوحنا هذا، فإنه كان يعرف قيافا رئيس كهنة اليهود وقتئذ (يوحنا 18: 15). وهذا أمر محتمل حدوثه، لأن يوحنا (كما يتضح من مرقس 1: 20 ويوحنا 18: 15) كان من أسرةٍ على شيء من الثراء.

ز - وجاء في 217: 79 أن يهوذا الإسخريوطي عندما كان معلقاً على الصليب، قال للّه: لماذا تركتني؟ فإن المجرم قد نجا، أما أنا فأموت ظلماً . ولو كان يهوذا هو المعلق على الصليب، لما نطق بهذه العبارة. لأنه هو الذي سعى لصلب المسيح على الرغم من كمال المسيح المطلق. لقد كان يهوذا مذنباً لا يحق له أن يتساءل لماذا تركه الله.

ح - وجاء في 217: 7 و8 أن الأتقياء بعد دخولهم إلى الفردوس، سوف يذهبون إلى الجحيم لمشاهدة الأشرار وهم يتعذبون. مع أن الذين يدخلون الفردوس يكونون بكلياتهم وجزئياتهم تحت تأثير محبة الله وجلاله، فلا تهوى نفوسهم أن ترى شيئاً سواه. ولو فرضنا جدلاً أنهم سيذهبون إلى الجحيم لمشاهدة الذين فيه، فإن عيونهم ستقع حتماً على بعض أقربائهم هناك فيتألمون لآلامهم ويتوجعون لأوجاعهم، فلا يهنأ لهم بال في الفردوس فيما بعد، وهذا ما لا يرضاه الله لهم.

ط - وجاء في فصل 101: 21 أن إبليس نادم كل الندم لأنه خسر الجنة. وجاء في 51: 32 أن الشيطان رفض أن يقول للّه: أخطأت فارحمني - فكيف يتفق القول الأول مع الثاني؟!

ي - وجاء في فصل 75: 10 أن المسيح قال: الكسل مرحاض يتجمع فيه كل منكر نجس . وفي 77: 15 أن المسيح قال: الجمل لا يرغب أن يشرب من الماء الصافي، لأنه لا يريد أن ينظر وجهه القبيح - وهذه الأقوال لا تصدر إلا من شخص ضيق الفكر، يتحدث مع جماعة لا تعرف للحقائق الروحية معنى. فالمرحاض ليس نجساً، ووجه الجمل ليس قبيحاً، لأن النجاسة والقبح (كما أعلن المسيح) هما فقط في أعمال الإثم والدنس.ولو فرضنا جدلاً أن الجمل قبيح الوجه، فإنه لا يدرك أنه كذلك، فلا يمكن أن يمتنع عن مشاهدة وجهه في الماء أو غير الماء. هذا إن كان الجمل يعرف أن صورته هي التي تنعكس على هذا أو ذاك!

ك - وجاء في فصل 92: 18 أن اليهود عندما عرفوا يسوع أخذوا يصرخون: مرحباً بك يا إلهنا - ولو أنهم أقروا بأنه إلههم، لما فكروا في صلبه على الإطلاق.

ل - وجاء في 7: 10 أن يسوع عندما كان طفلاً، حذر المجوس الذين أتوا لزيارته من العودة إلى هيرودس الملك. وجاء في 8: 3و4 و9: 1و2 أن ملاك الرب ظهر ليوسف خطيب العذراء مريم، وقال له: انهض وخذ يسوع واذهب إلى مصر، وبعد موت هيرودس قال له: عُد إلى اليهودية . ولو كان يسوع قام في طفولته بإرشاد المجوس، لما كان هناك داعٍ لأن يرسل الله ملاكاً لإرشاد يوسف، لأن يسوع قام بهذه المهمة!

سادساً - افتخار كاتب إنجيل برنابا بنفسه:

جاء في فصل 19: 6 أن يسوع أظهر العطف على برنابا عندما عامله بعض اليهود معاملة سيئة، فقال له يسوع: لا تأسف يا برنابا . وفي 42: 20 أنه كان أحد أربعة رسل شاهدوا مجد يسوع الباهر على الجبل. وفي 19: 5 أنه وحده هو الذي كان يكتب عن يسوع سراً بدموع. وفي 72: 5 أنه اقترب إلى يسوع بدموع وهمس في أذنه سائلاً: من هو الذي يسلمك؟ . وفي 100: 6 و112: 2 أن يسوع طلب منه أن يمكث معه طويلاً حتى يجد راحة لنفسه. وفي 109: 7 أنه قال له: إن هذا لأعظم شقاء يكابده الإِنسان يا برنابا . كما قال له وهو يبكي: يا برنابا، يجب أن أكاشفك بأسرار عظيمة ، فقال له برنابا: اسمح لي بالبكاء يا معلم، ولغيري أيضاً لأننا خطاة. وأنت يا من هو طاهر ونبي الله لا يحسن بك أن تُكثر من البكاء (112: 5-7). وفي 55: 17 و220: 13 أن يسوع قال له: سَلْ ما شئت يا برنابا، أجبْكَ .

ولكن الذين استخدمهم الله لتدوين الكتاب المقدس، كانوا يحاولون دائماً إخفاء أنفسهم، ولم يذكروا أسماءهم أو شيئاً من أعمالهم الهامة. وإن اقتضى الأمر ذكر هذه أو تلك، لم يكن ذلك للدعاية أو التظاهر بل لتسجيل حقائق يجب تسجيلها. بينما برنابا يُطري نفسه كثيراً، كما يحاول في كل صفحة من كتابه أن يجذب أنظار الناس إليه بشتى الوسائل. الأمر الذي يدل على أنه لم يكن واحداً من تلاميذ المسيح، بل كان شخصاً مرائياً ومدّعياً.

سابعاً - برنابا يثير شعور الناس دون مبرر:

جاء في فصل 42: 1 و2 أن تلاميذ المسيح بكوا وكان يسوع باكياً. وفي 24: 1 أن يسوع بكى وقال: الويل للذين هم خَدَمة أجسادهم . وفي 58: 1 أنه بينما كان يتكلم بكى التلاميذ بحرارة. وفي 112: 6 أن يسوع بكى كثيراً عندما كان يتحدث مرة مع من قال إنه برنابا.

ولكن إذا رجعنا إلى الموضوعات التي يقول كاتب إنجيل برنابا إنها أبكت يسوع وتلاميذه لا نرى أنها تستلزم هذا البكاء، الأمر الذي يدل على أن الكاتب المذكور لم يكن يسرد حقائق، بل يحاول أن يُخرج رواية مؤثرة، فخانه التوفيق وافتضح أمره كثيراً، كما أننا إذا وضعنا أمامنا أن البكاء الكثير في سبيل التقرب من الله، هو من مظاهر الرهبنة التي كانت منتشرة في أوروبا في العصور الوسطى، اتضح لنا أن كاتب إنجيل برنابا كان من أبناء هذه العصور.

ثامناً - الحديث الموجَّه إلى يسوع في إنجيل برنابا :

جاء في فصل 17: 19 أن فيلبس قال ليسوع: كُتب في إشعياء أن الله هو أبونا، فكيف يكون له بنون؟ وفي 22: 15 أن التلاميذ قالوا له: قل لنا يا معلم! لأي سببٍ يجب على الإنسان الختان؟ . وفي 26: 8 كيف يجب على الإنسان أن يحب الله محبة خالصة؟ . وفي115: 11 يا سيد ما معنى الشهوة؟ . وفي فصل 35: 3-5 أنهم قالوا يا معلم قل لنا كيف سقط الشيطان بكبريائه؟ لأننا كنا نعلم أنه سقط بسبب العصيان، ولأنه كان دائماً يفتن الإنسان ليفعل شراً؟ . وفي 73: 4 كيف يقف المجرب القديم (الشيطان) بالمرصاد للإِنسان؟ وفي 39: 1 يا معلم، ينقصنا أن نعرف كيف أخطأ الإِنسان بسبب الكبرياء . وفي 43: 5 حدثتنا بأشياء كثيرة عن مسيا (قاصدين به نبي الإسلام)، فتكرم بالتصريح لنا بكل شيء . وفي 51: 2 و3 كيف كلمت الشيطان، وأنت تقول عنه مع ذلك إنه غير تائب؟ كيف يأتي الله ليدين في يوم الدينونة؟ . وجاء في 43: 31 و44: 1-3 أن يسوع قال: صدقوني لأني أقول لكم الحق أن العهد صُنع بإسماعيل لا بإسحاق حينئذٍ قال التلاميذ: يا معلم، هكذا كُتب في كتاب موسى أن العهد صُنع بإسحق . أجاب يسوع متأوهاً: هذا هو المكتوب، ولكن موسى لم يكتبه ولا يشوع، بل أحبارنا .

وفي ضوء ما تقدم نقول: إن الإنجيل المنسوب إلى برنابا يصوّر المسيح كشخصٍ صامت، وأن تلاميذه هم الذين كانوا يستدرجونه للحديث معهم عن الموضوعات التي يريدونها. مع أن المسيح هو الذي كان يتحدث معهم عن الأمور التي يريدها. وإن جال بخاطرهم سؤال، لم يكن هذا سؤالاً استدراجياً يدعو المسيح للتحدّث معهم، بل كان سؤالاً استفهامياً ينمّ عن عدم معرفتهم بأمرٍ من الأمور، وكان المسيح يجيبهم عنه بما يكفي لتعليمهم. وإن اقتضى الأمر كان يسألهم ليمتحن مقدار فهمهم، أو ليهيئهم لاستقبال التعليم الذي يريد تبليغه إليهم. من هذا يتضح لنا أن كاتب الإنجيل المذكور كانت لديه معلومات أراد أن يعرضها، فوضع أسئلة عنها على ألسنة من اختارهم من تلاميذ المسيح وغيرهم، ووضع في فم من دعاه يسوع، الإجابة التي أراد أن يجعله يقولها، كما يفعل مؤلفو الروايات تماماً.

تاسعاً - الأسلوب الذي ينسبه إنجيل برنابا ليسوع:

جاء في فصل 115: 12 أن يسوع قال: الشهوة هي عشق غير مكبوح الجماح. إذا لم يرشده العقل تجاوز حدود البصيرة والعواطف . وفي 119: 11-16 أنه قال: الصلاة هي شفيع النفس. الصلاة هي دواء النفس. الصلاة هي صيانة القلب. الصلاة هي سلاح الإيمان. الصلاة هي لجام الحس. الصلاة هي ملح الجسد .

هذه عينة من الأساليب المنسوبة إلى يسوع في الكتاب الذي يدعى إنجيل برنابا ، وكل من يتأملها يرى أنها أقرب إلى الأساليب الإنشائية التي يتعلّمها طلبة المدارس منها إلى أقوال الوحي الإلهي. لأن الله تعالى عن أن يسعى لتنسيق أو تحسين العبارات، بل يرسل الحقائق والوصايا كما هي، حتى تجد طريقها إلى قلوب الناس، وليس إلى الذوق الأدبي لدى بعضهم. لأن التعليم هو الذي يفيدهم جميعاً ويحفزهم للسلوك في سبيله، أما تحسين العبارات فلا يؤثر على أحد من هذه الناحية.

عاشراً - ادعاؤه بتحريف التوراة والإنجيل وإبطالهما:

كان من البديهي، وقد سلك كاتب إنجيل برنابا مسلكه الشائن من التزوير والتزييف، أن يلجأ إلى الدعوى بحدوث تحريف في التوراة والإنجيل وإبطالهما، ليؤيد آراءه الخاصة. ولذلك نراه في صفاقة يسجل في فصل 159: 12 أن المسيح قال: وكم قد أفسدوا بتقليدهم كتاب موسى وكتاب داود نبي الله وخليله . وفي 72: 11 أنه قال لتلاميذه: احذروا أن تُغَشوا، لأنه سيأتي أنبياء كذبة كثيرون، يأخذون كلامي وينجسون إنجيلي . وفي 124: 5-10 أنه قال أن إنجيله سيبطل (عمله) عندما يأتي المسيح (قاصداً به نبي الإسلام) إلى العالم، ويقول في العدد العاشر: متى جاء رسول الله يجيء ليطهر كل ما أفسد الفجار من كتابي .

حادي عشر - خلطه بين موضوعات الإنجيل:

يخلط كتاب برنابا بين الموضوعات الواردة في الإنجيل، ويضيف ما ارتآه من أمور إليها، ليثبت دعواه، فقال في فصل 72: 10 إن يسوع قال: أما من خصوصي، فإني قد أتيت لأهيئ الطريق لرسول الله (أي لمحمد)، الذي سيأتي بخلاصٍ للعالم . وأنه قال أيضاً إنه ليس أهلاً أن يحل سيور حذاء محمد (فصل 97: 1). وقال في 42: 15 و72: 13 و198: 15 و206: 2 إن المسيا (أو المسيح) هو محمد. وقال في 43: 31 و191: 5 إن عهد الله مع إبراهيم (من جهة النبوة والكتاب) محصور في إسماعيل وذريته. وقال إن الله خلق العالم لأجل محمد في 43: 9 و82: 17 و97: 15 و122: 26.

ومن هذه الأقوال يتضح لنا ما يأتي:

أ - نفي مؤلف كتاب برنابا وجود يوحنا المعمدان (المعروف في الإسلام باسم يحيى) لأن يوحنا هو قائل العبارتين الأولى والثانية عن المسيح (ملاخي 3: 1 ومتى 3: 1-12 ولوقا 3: 2-6).

ب - وأنه جعل نبي الإسلام هو المسيا (أو بالحري المسيح) مع أن القرآن يشهد في آيات كثيرة أن المسيح هو عيسى ابن مريم (النساء 4: 171).

ج - وأنه نفى النبوة إطلاقاً عن إسحق وذريته، وبذلك ينقض ما جاء في القرآن عن إسحق ويحيى والمسيح ومحمد جميعاً. فضلاً عن ذلك، فقد نقض الحقيقة اللغوية الثابتة الخاصة بمدلول اسم (يسوع) والتي يقرّها علماء المسلمين والمسيحيين. فقد جاء في الجزء الملحق بكتاب (الإتحافات السنية بالأحاديث القدسية ص281): عيسى بالعبرية: يسوع أي المخلص، إشارة إلى أنه سبب لتخليص كثير من آثامهم وضلالهم . والغرض الوحيد من الخلط الذي قام به كاتب إنجيل برنابا هو طبعاً، رغبته في تجريد المسيح من مقامه الفريد وفدائه المجيد. لكن الحق يبقى حقاً إلى الأبد مهما اعتدى عليه الناس أو قاوموه.

د - وأنه قال أن يسوع أعلن عن مجيء نبي الإسلام بعده. مع أن المسيح أعلن في الكتاب المقدس أن الذي يأتي بعده هو الروح القدس. فقد قال: وأنا أطلب من الآب فيعطيكم معزّياً آخر ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم (يوحنا 14: 16 و17).

والكلمة المترجمة المعزّي ترد في الأصل اليوناني باراكليتوس ومعناها المعزي أو المرشد أو المؤيِّد . كما أن أوصاف هذا المعزي لا تنطبق على إنسان ما، للأسباب الآتية: (1) أنه روح لا جسم له، ولذلك لا يمكن للعالم أن يراه. (2) أنه كان ماكثاً مع تلاميذ المسيح في أثناء وجود المسيح معهم، وأنه سيكون فيهم (أو بالحري في نفوسهم) بعد ذلك. (3) أنه سيمكث معهم إلى الأبد، أو بالحري لن يموت على الإطلاق. (4) أن المسيح طلب من تلاميذه أن ينتظروا مجيء هذا المعزي إليهم، وفعلاً انتظروه بالصلاة، فحلّ عليهم بعد صعود المسيح عنهم بعشرة أيام (أعمال 1: 4و5 و2: 1-5).

فهذا الروح هو الروح القدس أو روح الله، الذي يحل في المؤمنين الحقيقيين ليعلمهم ويرشدهم ويمدّهم بالقوى الروحية التي يحتاجون إليها، حتى يستطيعوا التوافق مع الله في صفاته السامية، والقيام بكل ما يأمرهم به في العالم الحاضر (يوحنا 15: 26 و16: 7). وقد أشار دجلان في كتاب (إنسان العيون 3: 339) إلى هذه الحقيقة، بعد أن استعمل كلمة ربي بدلاً من كلمة الآب ، وأضاف إلى أقوال المسيح كلمة النبوة . فقال: وفي الإنجيل عن عيسى عليه السلام أنه قال، إني أطلب من ربي فارقليط يكون معكم إلى الأبد. فارقليط روح القدس الذي يرسله ربي باسمي، أي بالنبوة يعلمكم جميع الأشياء ويذكركم ما قلته (عن كتاب: المسيح في الكتب الإسلامية للدكتور ميشال حايك ص 459)

ثاني عشر - تمويهه على القراء:

جاء في صدر إنجيل برنابا أنه الإنجيل الصحيح ليسوع المسمى المسيح - وهذه العبارة لم تكن طبعاً لتخطر ببال كاتبها، لولا ْأنه كانت في أيامه إشاعة بأن الإنجيل (المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا) قد أصابه التحريف. وهذه الإشاعة (كما نعلم) لم تظهر في الوجود إلا بعد ظهور الإسلام بسنوات كثيرة. وبذلك أعلن كاتب هذا الإنجيل، دون أن يدري، أنه عاش بعد ظهور الإسلام، وليس قبل ظهوره.

كما أن قوله يسوع المسمى المسيح ، وليس يسوع المسيح كما يتضح من الكتاب المقدس، دليل على تنكره لهذه الحقيقة، ليضع محلها أن محمداً هو المسيح، مخالفاً بذلك المسلمين أنفسهم.

ثالث عشر - عقدة الذنب عند برنابا :

إن المذنب، مهما حاول إخفاء جريمته، يؤنّبه ضميره، فيحاول إسكاته بعبارات يلتمس فيها تبرئة نفسه أو إدانة غيره، فيثبت دون أن يدري أنه هو المذنب. وهذا ما حدث مع كاتب الإنجيل الذي نحن بصدده. فاسمعه يقول في فصل 19: 5 و6 لمن دعاه يسوع: يا سيد! أيخدعني الشيطان؟ وهل أكون منبوذاً؟ فيجيبه بالقول: لا تأسف يا برنابا، لأن الذين اختارهم الله قبل خلق العالم لا يهلكون . وعلى الرغم من ذلك فإن المدعو برنابا يشعر بذنبه، ويحاول تبرئة نفسه، فقد قال في 50: 27 و28 ما أرهب قضاء الله! يهلك القاضي، وينجو المقضي عليه مشيراً بالقاضي إلى الشعب المسيحي لأن هذا الشعب هو الذي كان يضطهد اليهود قبل فتح العرب للأندلس كما يتضح من الفصل التالي. ومشيراً بالمقضي عليه إلى نفسه، لأنه كان يعلم أن المسيحيين سوف يقضون عليه بالتزوير والتزييف.

 

الفصل السادس

شخصية كاتب إنجيل برنابا

وأدلة إسلامية على تزييف إنجيله

1 - ثقافة كاتب إنجيل برنابا وأهدافه:

اتضح لنا مما سلف أن هذا الشخص لم يكن مسيحياً بل يهودياً، وأنه عاش في القرن 15 في أسبانيا (أو الأندلس). وأنه كان يجيد بعض اللغات الأوروبية ويتصف بالطموح وسعة الخيال، فكانت له الفرصة المناسبة للاتصال بعلماء المسلمين، ومنهم في الأندلس عدد كبير أثناء حكم العرب لها (811-1472م). فاعتنق الإسلام على أيديهم، ودرس اللغة العربية والكثير من القرآن، كما درس شيئاً من الأحاديث النبوية والقدسية والعلوم الصوفية والفلسفة الإسلامية. ثم سوَّلت له نفسه أن يعمل إنجيلاً جديداً يلغي به حسب ظنه إنجيل المسيحيين، ليتركوه ويعتنقوا الإسلام مثله. فدرس إنجيلهم، ثم أضاف إليه وحذف منه، كما غيّر فيه وبدّل، حتى أخرج منه إنجيلاً يحقق أهدافه. ولتكون لهذا الإنجيل أهمية خاصة، نسبه بخبثٍ ودهاء إلى برنابا، أحد رفقاء الرسول بولس المشهورين. ثم لفق قصة فرامارينو مع البابا سكتوس الخامس التي ذكرناها في الفصل الأول من هذا الكتاب، ليُدخل في روع المسيحيين أن الإنجيل المذكور قديم حقاً. وكان الأجدر به، عوضاً عن أن يسلك هذا المسلك الشائن، أن يكتب عن المزايا التي رآها في الإسلام، وعن النقائص التي رآها في المسيحية (إن كانت بها نقائص) ثم يترك للناس حرية الاختيار، لأنه لا إكراه في الدين (البقرة 2: 256).

2 - الاسم الحقيقي لكاتب إنجيل برنابا :

يغلب على ظني أن هذا الشخص هو، بعد إسلامه مصطفى العرندي الذي عاش في أسبانيا، والذي ورد اسمه في النسخة الأسبانية للإنجيل المذكور، لأن عرندة كما يتضح من دائرة المعارف البريطانية من الأسماء المعروفة في أسبانيا. وسواء كان مصطفى العرندي هو الذي كتب هذا الإنجيل أم كتبه شخص غيره، فإنه كتابٌ حديث لا يمتُّ للمسيحية بصلة، فلا يُعّوَل عليه ككتابٍ صادق.

3 - سقوط الدعوى بوجود إنجيل برنابا الحالي، منذ القرون الأولى:

لا يجوز الأخذ بالدعوى أن إنجيل برنابا كان موجوداً في القرون الأولى، بزعم أن البابا جلاسيوس حرم قراءته سنة 492م وذلك للأسباب الآتية:

أ - أن برنابا الذي حرم البابا المذكور إنجيله (كما يتضح من دائرة المعارف البريطانية) كان من الغنوطسيين الذين كانوا يعتقدون بوجود إلهين، أحدهما للخير والآخر للشر. بينما إنجيل برنابا الحالي لا أثر فيه لهذا الاعتقاد.

ب - تدل محتويات هذا الإنجيل دلالة قاطعة على أنه كُتب في القرن 15 كما اتضح لنا من الفصول السابقة.

 ج - وجود إنجيل باسم برنابا في القرن الخامس، ليس برهاناً على أنه كان هو إنجيل برنابا الذي نحن بصدده، للأسباب التي ذكرناها، وأيضاً لأن تشابه أسماء أشخاص منسوبة إليهم كتب عن موضوعٍ ما، لا يدل على أن شخصاً واحداً كتبها. فقد يكتب زيد من الناس كتاباً عن الفلك مثلاً، ويكتب آخر يدعى زيداً أيضاً كتاباً عن هذا الموضوع بعينه، دون أن يترتب على ذلك أن يكون الكتابان واحداً في المعنى أو المبنى. ولعل أوضح دليل على ذلك أن مِن بين الأناجيل المزيفة القديمة واحداً منسوباً إلى شخص يُدعى متى، والحال أن أحد الأناجيل الحقيقية كتبه رسول من رسل المسيح اسمه متى . لكن شتان بين ما ورد في هذا الإنجيل وبين ما ورد في ذاك. ولذلك أطلق العلماء المسيحيون منذ القديم على الأول إسم أبسودو أي المزيف ، حتى يفرّق الناس بينه وبين الإنجيل الحقيقي الذي كتبه متى الرسول.

4 - شهادة بعض علماء المسلمين عن تزييف إنجيل برنابا :

وقد درس بعض علماء المسلمين هذا الإنجيل بدقة وإخلاص، فانتهوا إلى ما انتهينا إليه تماماً، كما يتضح مما يلي:

أ - كتب الأستاذ عباس محمود العقاد في صحيفة الأخبار القاهرية الصادرة في 26 أكتوبر (ت 1) 1959 موضوعاً عن إنجيل برنابا، يتكون من النقاط الخمس الآتية:

(1) إن الكثير من عبارات الإنجيل المذكور كُتبت بصيغة لم تكن معروفة، قبل شيوع اللغة العربية في الأندلس وما جاورها. (2) يستند وصف الجحيم في إنجيل برنابا إلى معلومات متأخرة لم تكن شائعة بين اليهود في عصر المسيح. (3) بعض العبارات الواردة به كانت قد تسرّبت إلى القارة الأوربية نقلاً عن مصادر عربية. (4) ليس من المألوف أن يكون السيد المسيح قد أعلن البشارة أمام الألوف باسم محمد رسول الله . (5) تتكرر في هذا الإنجيل بعض أخطاء لا يجهلها اليهودي المطلع على كتب قومه، ولا يردّدها المسيحي المؤمن بالأناجيل المعتمَدة في الكنيسة الغربية، ولا يتورّط فيها المسلم الذي يفهم ما في إنجيل برنابا من المناقضة بينه وبين نصوص القرآن، مثل القول عن محمد إنه المسيا أو المسيح.

ب - قال دكتور محمد شفيق غربال في الموسوعة العربية الميسّرة تحت كلمة برنابا ما يأتي: إنجيل مزيف، وضعه أوربي في القرن الخامس عشر، وفي وصفه للوسط السياسي والديني في القدس أيام المسيح أخطاء جسيمة. كما أنه يصرح على لسان عيسى أنه ليس المسيح، إنما جاء مبشِّراً بمحمد الذي سيكون المسيح.

ج - سجّلت كتب التاريخ الإسلامية القديمة مثل (مروج الذهب، والقول الإبريزي، والبداية والنهاية، والتاريخ الكامل، وتاريخ اليعقوبي، وتاريخ أبي الفداء) والكتب الحديثة أيضاً مثل (كتاب دائرة معارف الناشئين) أن إنجيل المسيحيين هو المكتوب بواسطة متى ومرقس ولوقا ويوحنا، كما ذكرنا. فضلاً عن ذلك فقد اقتبست بعض الكتب المذكورة الكثير من الآيات التي وردت في هذا الإنجيل، بينما لا يوجد بها أي اقتباس من الكتاب الذي يدعى إنجيل برنابا - وهذا دليل على عدم قِدمه أو بالحري على عدم قانونيته. وفي هذا كل الكفاية لمن يريد الوقوف على الحقيقة، والسلام.

 

جميع الحقوق محفوظة

عاودوا الزيارة بعد فترة وسوف تجدون مواضيع هامة جداَ

الصفحة الرئيسية

truth4islam@hotmail.com

 

 

 

 

Yahoo! GeoCities Member Banner Exchange Info 

1