مواجهة الاعتراضات

caravan.gif (1087 bytes)

. جاء معظم ما ورد في الكتاب المقدس في قالب تاريخي . ومن يرى فيه مجرد تاريخ يفوته مغزاه الحقيقي. إنه تاريخ من وجهة نظر واحدة، تاريخ هادف. فروايات الكتاب المقدس ما دونت لمجرد أنها حدثت، بل لأنها تعلن شيئاً عن الله ونشاطه في العالم. من أجل ذلك يدعى أحياناً "تاريخ الخلاص"

تاريخ مميز

. إن هذا الاعتبار يغير زاوية الرواية. فالعالم المتخصص بالتاريخ العام قد يتعجب أن تغطي حياة إبراهيم، ذلك البدوي العبراني القديم، أكثر من ثلاثة عشر فصلاً، بينما الطاغية المتجبر عمري يذكر عنه الكتاب المقدس أقل من اثنتي عشرة آية. وإننا لا نجد أي حفريات أثرية تأتي علي ذكر إبراهيم، غير أن قصته تتلاءم تماماً مع ما هو معروف عن زمانه. لكن عمري طالت شهرته مدي أوسع وأبعد لأجيال بعده. إن إبراهيم، كما جاء عنه في الكتاب المقدس، هو مؤسس إسرائيل، ومختار الله، ورجل الإيمان، وقابل المواعيد الإلهية، وشخصية في غاية الأهمية بالنسبة إلي اليهود والمسيحيين. أما عمري مؤسس مدينة السامرة فكان شريراً، لذلك يغفله الكتاب. فبقدر ما كان إعلان الله عن ذاته يتكشف وعمله الخلاصي يتقدم، كان الناس والأحداث ينالون نسباً متفاوتة من الذكر في التاريخ

تناقضات

. من السهل ملاحظة بعض المعضلات التاريخية في الكتاب المقدس، لكن البحث المتأني حل تباعاً الكثير منها. إن سبب التناقضات الظاهرية بين أجزاء الكتاب المختلفة يرجع أحياناً إلى ندرة التفاصيل، فيجب ألا ننقض بتسرع علي تلك التناقضات وكأنها غنائم

. على سبيل الإيضاح، يوجد في أعمال الرسل ورسالة غلاطية إشارات إلى الزيارات التي قام بها بولس في أورشليم. لكن من الصعوبة بمكان ملاءمة هذه الزيارات في بيان متواز. على أية حال، ما كان القصد في سفر أعمال الرسل تقديم تقرير كامل عن نشاطات بولس، ولربما زار أورشليم في مناسبات أخرى لم يرد ذكرها

. أيضاً هناك أحياناً تناقضات بين رواية وردت في الكتاب المقدس ورواية للقصة ذاتها في سجل آخر قديم. ومما يثير الاستغراب إن الذين يشككون في مصداقية الكتاب المقدس يبدون أحياناً مؤمنين أشد الإيمان بمصداقية السجلات الأخرى القديمة! لذا علينا أولاً التأكد من أن السجلات الأخرى موثوق بها، وثانياً، أن نتذكر ندرة الأدلة الكاملة التي لدينا من الماضي البعيد. يوضح ذلك الجدل القائم حول سفر دانيال. إذ لا يمكن أن يطرح داريوس جانباً كما لو أنه شخصية "غير تاريخية". نعم، هناك معضلات، لكن هناك أيضاَ حلول ممكنة لها

مصاعب حيال الأرقام

. تبرز صعوبة في مناسبات مختلفة متعلقة بالأرقام الواردة في الكتاب المقدس. فهنا نجد المخطوطات نفسها تتنوع في الأرقام التي توردها.وهنا يجب ألا ننسى أن حروف الأبجدية العبرانية (بعد السبي علي الأقل) والحروف اليونانية كانت رموزاً رقمية. ومن السهل التسبب في أخطاء رقمية للتشابه القائم بين بعض الأحرف. وأيضاَ ثمة مناهج مختلفة للحساب كانوا يعتمدونها، فقد تعتمد الشمس لتحديد السنة أو تعتمد مدة حكم الملوك. كذلك الحساب الضمني، فمثلاً كانوا يحسبون من ظهر الأحد إلى ظهر الأحد التالي ثمانية أيام عوضاً عن سبعة، لأن الأيام الثمانية متضمنة، مع أن اليوم الأول والآخر غير كاملين. هنا أيضاً ثمة معضلات. لكن بعض التقدم في حلها أمر ممكن

الأساطير

. ثمة اعتراض يسمع تكراراً في عصرنا، يقول: من جهة الشكل الأدبي لا يجدي البحث في مسألة كون التاريخ في الكتاب المقدس صحيحاً أو لا. لأن المهم ليس حقيقة الحدث بل معناه. وهذه النظرة هي الطرف النقيض للقول إن الكتاب المقدس "مجرد" تاريخ بل "أساطير" – وهذه العبارة تستعمل بمعان متعددة وعرف عنها صعوبة تحديدها بدقة

ولكن ترى ما هو المقصود من الكلمة " أسطورة " ؟ ، تظهر لنا الأساطير القديمة بمظهر قصص تعرض أمامنا آلهة أو إلاهات أو أبطالاً قدماء . قد نرتبك عند القراءة الأولى ، ولكننا لا نلبث أن نستسلم للقراءة ، لشعورنا بأن المواضيع التي تتناولها هي المسائل الكبرى التي نحملها في أنفسنا : من أين أتى العالم ؟ لماذا الألم والموت ؟ لماذا يتجاذب الجنسان ؟ ما هي صلة الإنسان بالإله ؟

. ولكن ، بدلاً من أن تعالج هذه المسائل في كتب علمية عويصة كما نفعل في أيامنا ، كانت الأساطير تؤدي هذه الخدمة " بأشرطة مرسومة "

. إليكم مثلاً عصرياً ، هو انتخاب ملكة جمال العالم . ففي عصر لم يعد للملكية وجود تقريباً ، ننتخب ملكة تحيط بها وصيفاتها . وهذه الملكة تتوج وتنال هدايا رائعة … كل ذلك يسهم في وضع هذا الانتخاب في عالم آخر ، عالم الأحلام ، عالم غير حقيقي . ولكن ذلك يعبر عن رغبة كل امرأة في أن تكون جميلة وغنية وفي أن توفق ، وعن رغبة كل رجل في أن ينظر بإعجاب إلى جمال المرأة . ولكن هناك خطر ، فقد يفقد الإنسان حريته أمام هذه الأسطورة ولا يعود هو هو . فنرى ، على سبيل المثال ، فتيات يقلدن تسريحة ملكة جمال العالم ، أو يحاولن أن يكون لهن ما لملكة جمال العالم من قياسات ، مع أن ذلك لا يناسب نوع جمالهن

. فإن أردنا أن نبسط الأمور إلى أبعد حد ، نستطيع أن نقول : الغاية من الأسطورة ، أن نتناول مسألة كبرى من التي نحملها في أنفسنا ، وأن نرسل صورتها ، في شكل قصة إلى عالم غير حقيقي ، في زمن يسبق الزمن ، زمن الآلهة ، حيث لم يكن للإنسان من وجود . هذه القصة عن الآلهة هي قصتنا ، ولكن بعد نقلها من وضع إلى وضع جديد ، فتصبح نموذجاً يجب على الإنسان أن يقلده

. يتساءل الإنسان ، على سبيل المثال ، ما يعني التجاذب بين الجنسين ، أو كيف يحصل على الخصوبة ؟ فيتصور عالماً ، خارجاً عن الزمن ، كان الآلهة والإلهات يحبون فيه بعضهم بعضاً ويتزاوجون ويولدون . وإن كانوا خصبين ، تكون أرضنا ومواشينا خصبة أيضاً ، بما أن هؤلاء الآلهة سوى نقل خيالي لوجودنا . فلا بد من إكراههم على الإخصاب . فالرتب تهدف إلى إكراههم على التزاوج . والاقتران بالبغايا المقدسة في بابل أو في المشارف الكنعانية لم يكن نوعاً من القصوف ، بل كان رتبة دينية تبعث على خصوبة الأرض

. فكل هذه القصص الأسطورية هي في غاية الجدية ، إنها تفكير البشرية الأول . فلا عجب أن يكون الكتاب المقدس قد تبنى هذا المنهج للتعبير عن تفكيره الخاص ، ولكنه قد حوله تحويلاً عميقاً . فالكتاب المقدس ، باستلهامه من هذه الأساطير الكبرى ، ولا سيما في روايات خلق العالم ، يعيد التفكير فيها وفقاً لإيمانه بإله واحد يتدخل في تاريخنا ويريد أن يكون الإنسان حراً

. السؤال الأول الذي يجب معالجته هو: ماذا كان قصد الذين دونوا الوحي؟ هل رغبوا أن يفهم كلامهم كتاريخ أم كأسطورة؟ من الواضح أن قصص العجائب في الكتاب المقدس دونت بالدقة التاريخية نفسها التي دونت بها بقية الأحداث

. السؤال الثاني استطراداً هو: هل نقبل هذه القصص كتاريخ أم كأسطورة؟ في الحالة الثانية علينا أن ننزع القالب الأسطوري الذي وضعت فيه القصة. بكلمة أخرى علينا أن نفترض أن المعجزة لم تحدث فعلاً كمعجزة، لكن ثمة حقيقة روحية مدخرة في قصة المعجزة تحت قالب رمزي

. إن أساس هذه المقولة هو اعتبار بعضهم أن الكتاب المقدس وضع في عصر لا علمي، فيه اعتقد البشر أن الكون مؤلف من "ثلاث طبقات"، وله إله يتدخل في كل شاردة وواردة باستمرار، أما اليوم في عصرنا العلمي المدرك، فنعرف أن فكرتهم عن العالم خطأ كلي. إذاً يفترض أن تتلاءم المعجزات مع نظرة العالم القديم اللاعلمية، لا مع النظرة العلمية لعصرنا. فيدعى اليوم أن العالم يعمل وفق نظم الطبيعة، لذا لا نحتاج إلي أن نزج الله في أمور الكون لنفهم أحداثه. لكن هذه النظرة العلمية تجاوزها الزمن. فالعلم، أو بالأحرى العلماء، ما عادوا ينظرون إلى نظم الطبيعة بتلك النظرة الصلبة. لأن النظم ما هي سوى وصف للظواهر التي تحدث عادة. فإذا كانت النظم لا تفسر كل ما يحدث فيجب أن تعدل. فإذا كان بعض العلماء يرفض المعجزات، فإن العلم كعلم لا يلغيها

. كنا نعالج موضوع التاريخ. والسؤال حول حقيقة وقوع المعجزات يقع في نطاق التاريخ لا العلم. والتاريخ يعني بما حدث، وبعد ذلك يحاول تعليله. أما العلم فيجمع المعلومات المتعلقة بالحدث، ويحاول أن ينظم تلك المعلومات

مسألة المعجزات

. إن المعجزة الكبرى في الكتاب المقدس هي قيامة يسوع من بين الأموات. بعضهم يقول إن الكون ثابت في نظمه بحيث لا يمكن أن يحدث قيامة من الموت. وقد يسندون دعواهم إلي "العلم". لكن من خلال نظرة تعليل تاريخية للقيامة، فإن السؤال عن النور الذي يلقيه حدث القيامة علي طبيعة الكون هو أكثر علمية من دعواهم. لكن بكلمة أخرى، العلم لا يدحض القيامة: القيامة حقيقة يجب أن يأخذها العلم بعين الاعتبار. وما قلناه عن القيامة يمكن أن يقال عن المعجزات كافة

: طبعاً ثمة اعتراضات هنا يجب الرد عليها، إذا كانت المعجزات دائمة الحدوث فلا يكون نظام في الكون، وبلا ثبات في نظم الطبيعة نضيع. أكثر من ذلك، إذا تدخل الله دائماً في الطبيعة لينقذنا من المصاعب والأخطار، لا نتعلم إطلاقاً، ولا نصبح شخصيات مسؤولة. على كل حال لا يقدم الكتاب المقدس لنا معجزة في كل صفحة. أنه يتناول أحداثاً تمتد ألفين من السنين، غير أن معظم المعجزات تتجمع في سير بعض الشخصيات والأحداث

. موسى ونشوء أمة إسرائيل

. إيليا وأليشع وسلسلة من الأنبياء الذين دعوا الأمة للرجوع إلي الله وعهده

. يسوع إعلان الله النهائي، والخلاص الذي أعلنه، ثم رسل يسوع وتأسيس الكنيسة المسيحية

. هكذا نرى أن المعجزات في معظمها حدثت في هذه الفترات الثلاث المنفصلة ويجب أن نراها في إطار المشهد بكامله

أوصاف تكاملية

. في العلوم الحديثة لا يمكن دائماً إيجاد نظرية واحدة تعلل أو تصف كل وجه من أوجه حدث ما. فمن الضروري ،أحياناً ، وجود نظريتين أو أكثر، لا كبدائل، بل كوحدة متكاملة. فالنور مثلاُ يوصف بعبارات مثل موجات وذرات. فأي واحدة من هاتين العبارتين غير كافية، فكلاهما ضروري. فالوصف أحياناً يحتاج إلي عدد من مختلف مستويات التفسير

. فعندما يبحث عالم في "معجزة"، قد يجد لها تفسيراً "طبيعياً" أو لا يجد. هذه هي وظيفة العلم. إن وصف عبور البحر الأحمر في الكتاب المقدس يأتي علي ذكر ريح شديدة. هذا هو التفسير الطبيعي. لكن الرواية ذاتها تنسب هذا الحدث إلى الله. هنا مستويان من الوصف كلاهما حقيقي. أحدهما يصف الكيفية والآخر السبب. نسبة الحدث إلي الله تقدم السبب الأسمى لحدوثه وتعطيه معنى. والتفسير الذي يقدمه العلم للحدث (حيث يمكن ذلك) يوضح "كيف" فعل الله ذلك

. لا يفصل الكتاب المقدس بين المعجزات والأحداث الأخرى بالحدة نفسها التي نميل نحن إليها في تفكيرنا. لأن الأحداث العادية وغير العادية جميعاً تنسب إلى الله. الله هو الفاعل في كل الطبيعة، وليس فقط في المعجزات إذ ليست هذه سوى وسيلته غير العادية للعمل

الحقيقة الدينية والحقيقة التاريخية

. على المستوى الفلسفي هناك اعتراض آخر لا يقبل اعتبار المعجزات صحيحة تاريخياً، مفترضاً أن المقولة الدينية يجب ألا تدمج بالمقولة التاريخية. يريد المعترضون القول إن العبارة :"أقام الله يسوع من الموت"، هي صحيحة "دينياً" ولها معنى روحي، لكن علي المستوى التاريخي، فيسوع مات ولا يزال في القبر. لأن القول بأن يسوع قام بالجسد وعاد إلى الحياة "يخلط بين المقولتين". لكن ما هما هاتان المقولتان، ومن أين أتتا؟ إنهما موجودتان فقط في فكر مخترعهما، إذ لا يمكن إثباتهما أو دحضهما. بل ثمة ما هو أخطر من ذلك. لأن قبول هاتين المقولتين يستتبعه القول إن يسوع لم يقم من الموت، بالمعنى العادي للكلمة. وعليه ترفض حقيقة القيامة بغض النظر عن البراهين التاريخية القوية التي تؤيدها، ويجري البحث عن تعليل آخر

. هذا الاعتراض الفلسفي مماثل للاعتراض العلمي المزعوم القائل بأن المعجزات مستحيلة الحدوث في العالم والكون. وفي كليهما الاعتراض مفترض كونه صحيحاً من دون ثبات، وقبل أخذ البراهين المؤيدة للمعجزات في الحسبان. بل أنه تلقائياً يهمل أياً من "البراهين"

إن هذا النموذج جيد للقول: يعرف الجواب قبل سماع السؤال! أما نحن فنسأل المعترضين سؤالاً واحداً ليس إلا: أي نوع من البراهين تطلبون لتقتنعوا بأن المعجزات حدثت فعلاً؟

قصة الخليقة

تبرز معضلة مماثلة في بداية الكتاب المقدس عند الكلام عن الخليقة. بعضهم يهمل هذه الروايات معتبراً إياها أساطير خرافية بالمعنى الذي يطلق عادة علي قصص العجائز. وبعضهم يعتبرها أساطير، بمعنى أنها تتضمن في طياتها حقيقة معينة، مع أنها حرفياً وتاريخياً ليست قصصاً حقيقية. إذا كانت الحال كذلك، فبأي معنى تكون هذه القصص حقيقية؟ وما هو المغزى الأساسي في هذه الروايات؟

. باسم العلم يطلقون الاعتراضات علي روايات الخليقة. لذلك يمكن أن يدهشنا اكتشاف كم هو قليل في اعتراضاتهم ذلك الذي يمس العلم مساَ وثيقاً. فالكتاب المقدس يعلن بجرأة أن الله هو خالق الكل – الكون والإنسان وسائر الأشياء. لكنه لا يخبرنا كيف فعل ذلك. وقول الكتاب إن الله صنع الإنسان من تراب الأرض، يعلن لنا شيئاً عن طبيعة الإنسان المخلوق، بالمقارنة مع الله الخالق. فنحن مجرد تراب، ونحيا فقط لأن الله أعطانا الحياة. لذا ، وبمعزل عن الله لا معنى لحياتنا. لكن كيف صنع الله الإنسان من التراب؟ هذا سؤال علمي. وهنا نلتفت إلى العلم، لا إلى الكتاب المقدس، من أجل جواب أو اقتراح جواب. لن نكتفي بنظرية لا توفي نظرة الكتاب المقدس إلي طبيعة الإنسان حقها، وفي الوقت ذاته علينا أن نتأكد من كوننا فهمنا حقاً نظرة الكتاب المقدس، لا أن نكون قرأنا في سطوره مجرد أفكارنا

صحة العهد القديم

يرفض بعض الناس العهد القديم، جزئياً أو كلياً، بدعوى أنه كتاب غير مسيحي، أو دون المستوى المسيحي. وهذا ليس بجديد. أولاً نظرة المسيحي إلى العهد القديم يجب أن تكون مماثلة لنظرة يسوع إليه، فهو قد قبل سلطته وصحته. السؤال هو: هل قدم المسيح والمسيحية فكرة جديدة عن الله أكثر صحة بحيث أبطلت الصورة التي يقدمها العهد القديم عنه؟

. من بعض الأوجه لم يعد العهد القديم ساري المفعول اليوم. فالذبائح لم تعد ضرورية، لأن المسيح قدم نفسه ذبيحة نهائية، مرة وإلى الأبد. وأبطلت سائر الشرائع اليهودية الخاصة بالاحتفالات الطقسية كذلك. لكن هذا لا يعني وجوب إشاحة النظر نهائياً عن شعائر العهد القديم، إذ إنها تعلن حقيقة دائمة تتناول طبيعة الله وعلاقة الإنسان به. إن التعليم يبقى ذاته، لكن تفوق الناحية العملية أكمل بفضل المسيح. الله قدوس ويبقى

. إن أجزاء العهد القديم التي تسبب أشد النفور هي التي تصور الله إلهاً غضوباً ودياناً. يعترضون بالقول إن هذه الصورة هي صورة بدائية عن الله تبتعد كلياً من إعلان العهد الجديد عن أن الله محبة. لكن ليس من تناقض في الأساس بين العهدين. ففي القديم الكثير عن محبة الله وغفرانه، وفي الجديد الكثير عن غضبه العادل ودينونته. بالأحرى أشد الكلمات قسوة خرجت من شفتي يسوع نفسه. فالذين يرفضون صورة العهد القديم عن الله مجبرون علي رفض أجزاء من الجديد أيضاَ. إن أي حديث عن دينونة الله وعدالته وسخطه علي الشر لا يقبل بسرور وبخاصة في هذا العصر المتساهل. بيد أن هذا لا يقلل من حقيقة الأمر

بشر أحرار أم مجرد آلات؟

. وهناك اعتراض أخير على النظرة المسيحية تجاه الكتاب المقدس يقول إنها تتجنب وتتجاهل الفكر البشري، وتجعل الناس مجرد آلات. لقد كتب المدونون ما قاله الله بطريقة آلية، فلا حاجة للقراء بأن يفكروا، لأن كل بنود الحق معروضة علي لوح. غير أن هذا الاعتراض يكشف عن إساءة فهم جذرية. فمع أن الكتاب المقدس يدعي لنفسه أن الله نطق مباشرة بالأنبياء، وهيمن عليهم بحيث قالوا ما يريدهم أن يقولوه، فإنه واضح أيضاً أن الأنبياء استخدموا قواهم العقلية في تدوينه. أن شخصياتهم المختلفة تبرز في أساليب الكتابة المختلفة وفي معالجتهم المختلفة لموضوعات كتاباتهم. (راجع المقالة: ميزة الكتاب المقدس)

. يتبع ذلك واجب المسيحي في أن ينعم فكره لينال كلمة الله. فعليه أن يقرأ بجد مقارناً الحقائق الواردة بعضها ببعض مستخدماً كل المساعدات الممكنة. فضلاً عن حاجته لطلب إرشاد الروح القدس، الذي بوحي منه كتبت الأسفار المقدسة، فيعينه علي فهم معانيها. إن واجب التكريس لله فكراً وكياناً أمر يشترك فيه الذين يقرءون الكتاب مع الذين كتبوه. من سمات الكتاب المميزة أنه يحتوي ما يكفي ليشغل أذكى العقول مدى العمر وفي الوقت ذاته يمكن لأبسط البشر قراءته وفهمه. ومن يقرأ الكتاب المقدس بقلب راغب في الطاعة، يجد الله بذاته