.. الحنيفية

caravan.gif (1087 bytes)

2

قبل الحديث عنهم ، ينبغي لفت الانتباه إلى ما قد لاحظناه في أثناء بحثنا عن الفرق والديانات التي كانت قبل ظهور الإسلام ، في الجزيرة العربية . وأهم ما لاحظناه هو الخلط في الفهم بين الصابئة والأحناف ، والحديث عنهما غامض جداً ، وإن كان هناك بعض المكتوب ، فستجد أكثره عن الصابئة ، بل وتغليب فرقة على بافى الفرق ، حتى تخال وأنت تقرأ عن قوم فقط هم من عبدة الكواكب ، هذا لولا البحوث المطولة للأ ب أنستاس في مجلة المشرق اللبنانية ، ولكن عن الأحناف فإننا لا نجد عنهم سوى سير البعض القليلة والغالب عليها الشكل الأسطوري ، أو زحزحة بعضهم إلى الإسلام [ وهذا من الأسباب التي درسناها في أسباب الالتباس في تدوين العرب لتاريخهم ] .

لفظ "حنف " عرفتها اللغات التي كانت سائدة في تلك المنطقة آنذاك ( وقد ذهب بعض المستشرقين إلى أن اللفظة من أصل عبراني هو " تحنيوث" أو من " حنف " ومعناها " التحنث " في العربية ) وكما يقول الراغب الأصفهاني في كتابه (المفردات في غريب القرآن ، ص 133) :" الحنف هو الميل عن الضلال إلى الاستقامة ، وتحنف فلان أى تحرى طريق الاستقامة ، وسمت العرب كل من حج أو إختتن حنيفاً.تنبيهاً إلى أنه على دين إبراهيم ".

. ويذهب الألوسى في كتابه ( بلوغ الإرب في معرفة أحوال العرب .. ج 2 ، ص 225 ) إلى أن الصابئة هم قوم النبي إبراهيم وأهل دعوته ، مما دفع بعض العلماء إلى حسبان الحنفاء صنفاً من الصابئة ، وبالتحديد - الصنف المؤمن أو من بقى على الإيمان منهم . وكان منهم بالجزيرة العربية نفر غير قليل . إلا أننا لا نرى ذلك ، وقد سبق و بينا ذلك ، وهنا سنزيده إيضاحاً

. والطريقة الغالبة على الحنفاء هي التوحيد والزهد . والحنفاء لم يكونوا مشتتين لا يجمعهم رابطة ، ولم يكونوا جماعة دينية بالمعنى الحصرى ، بل كانت تربطهم بعض العادات وتميز دعوتهم . ومما كان يجمعهم أيضاً كفرهم بشرك قومهم ، وسخريتهم من أصنامهم وذبائحهم ، ثم دعوتهم إلى التوحيد التي تحملوا في سبيلها صنوفاً من الإهانات ، مما حمل أكثرهم وهم في الغالب من مكة وأطرافها ، على الفرار من بلدتهم إلى أطرافها المنعزلة الآمنة ليكونوا في أمان من إيذاء قومهم لهم (راجع في ذلك ، " المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لــ د. جواد على - ج 5 ص 399)

. كان يفصل بين الحكماء الموحدين - وهم ما سنتناولهم فيما بعد - والحنفاء ، أن الأولين كانوا عائشين مندمجين في مجتمعهم ، فيما الحنفاء المضطهدين كانوا منعزلين يميلون إلى الزهد ، والإقتداء برهبان النصارى ونساكهم

. كان الحنفاء من كل القبائل في كل أجزاء الجزيرة العربية ، ولكن إستقلوا خاصة في الحجاز ومكة . وقد عد الأخباريون في زمرة الحنفاء : قس بن ساعدة الإيادى ، وزيد بن عمرو إبن النفيل ، وأمية إبن أبى الصلت ، وأرباب بن رئاب ، وسويد بن عامر المصطلقى ، وأسعد أبو كرب الحميى ، ووكيع بن سلمة الإيادى ، وعمير بن جندب الجهنى ، وعدى بن زيد العيادى ، وأبو قيس صرمة بن أبى أنس ، وسيف بن ذى يزن اليمنى ، وورقة بن نوفل القرشى ، وعامر بن ظرب العدوانى ، وعبد الطابخة بن ثعلب بن وبرة بن قضاعة ، وعلاف بن شهاب التميمى ، والملتمس بن أمية الكنانى ، وزهير بن أبى سلمى ، وخالد بن سنان بن غيث العبيسى ، وعبد الله القضاعى ، وعبيد بن أبرص الأسدى ، وكعب بن لؤى بن غالب القرشى

! كان الحنفاء ، بسبب نزعتهم التوحيدية المستقلة يدخلون في النصرانية ثم من بعد في الإسلام ! وقد يعود بعضهم إلى توحيدهم المستقل الحنفى ، بدون حرج ، لوحدة التوحيد بين الحركات الثلاث ... هذا بالنسبة إلى مفهومهم

. ومن الحنفاء من تنصر ، وبقى على نصرا نيته ، فيجب إخراجه من زمرتهم مثل : عدى بن زيد ، وأرباب بن رئاب ، والقرشيين الثلاثة الذين إحتضنوا محمداً يوم مبعثه : ورقة بن نوفل ن وعبد الله بن جحش ، وعثمان بن الحويرث "

. ودعوة الحنفاء إلى التوحيد كانت أحياناً بالحكمة والموعظة الحسنة ، كما فعل أمية بن أبى الصلت ، من ثقيف في الطائف ، الذي نافس محمداً في دعوته إبان عهدها المكي

. وأحياناً كانت بالحديد الذي فيه بأس شديد " مثل سيف بن ذي يزن ، الذي أستنصر كسرى ، والنعمان إبن صيفى الراهب الذي أستنصر قيصراً

: ومما يلفت النظر أن قبيلة قريش ضمت عدداً من " الأحناف " ، و يؤكد بعض الإخباريين أن " الحنيفية " بدأت فيها مبكرة مع " قصى بن كلاب " الجد الأكبر لمحمد مؤسس دولة قريش في يثرب . ويقول الشهرستانى عنه :" وكان قصى بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله تعالى من الأصنام وهو القائل

أرباً واحدا أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الرجل البصير

! ويطلق عليه الدكتور سيد محمود القمنى - في كتابه " الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية " - لقب أستاذ الحنيفية وزعيمها !

. وإن كان لنا تحفظ على هذا الرأي ذو النظرة السياسية للتاريخ الإسلامي ، لأنها تقر حقائق مبنية على فروض أولية ، إلا أنها غير مرفوضة على كل حال

وعلى الجانب الأخر " الأستاذ يوسف الدرة حداد " ذو القراءة الدينية للتاريخ الإسلامي جاعلاً من التوراة والإنجيل أساس واعي للعرب في حياتهم ، حتى أنه في معرض كلامه عن الحنيفية يقول : " إنها - الحنيفية - تعريب للتوحيد الكتابي ( من التوراة والنبيين إلى الحكمة إلى الزبور إلى الإنجيل ) على ما كانت تقتضيه بيئة الحجاز البدائية.

. ونحن في بحثنا هذا ،نرى أنه يخرج عن نطاقه الكشف عن مكان نشأتها ، ونقطة انطلاقها ، فسواء انبثقت في اليمن باعتبارها ديانة توحيدية ( ثم إمتد دين الوحدانية المجردة ، كما أمتد التوحيد المتجسد إلى قلب الجزيرة العربية لتوصيل المسيرة ، مسيرة خلق الدولة الموحدة لعموم المنطقة العربية) ويميل إلى هذا الرأي " عز الدين كشار " في كتابه "اليمن دين ودنيا " ، مستدلاً على ذلك بكثرة " الحنفاء اليمنيين " من أمثال ( قس بن ساعدة الأيادي ، وأرباب بن رئاب ، وأسعد أبو يكرب الحميرى ، ووكيع بن زهرة الأيادي .. وسيف بن زي يزن ، وخالد بن سنان بن غيث العبسى ، وعبد الله القضاعى ، وعلاف بن شهاب التميمى ... وقيس بن عاصم بن تميم ... وعفيف بن معد ى كرب من كندة ....... وغيرهم من الأسماء التي يبدو أنها يمنية الأصل ، كذلك ما هو معروف من أهل الجنوب قد عرفوا التوحيد ولو بصورة أولية قبل عرب الشمال التي تذكر في هذا الشأن ذو سموى ، والمقة التي يرجع بعض الباحثين أن أسم مكة هو تحوير لها

. أو أن الحنيفية قد نشأت في اليمامة ، وهى إحدى المناطق المتحضرة والمتقدمة نسبياً في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وإنتشرت في غربي الجزيرة العربية . نقول سواء كان هذا أم ذلك فإن الثابت تاريخياً أنها كانت منتشرة في أنحاء عديدة من جزيرة العرب ، ولو أننا نؤيد الباحثين اليمانيين في أن بدايتها كانت في اليمن [ قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية / خليل عبد الكريم ]

. تعتبر الحنيفية حركة مستقلة عما عداها ، ويميل العلامة " شيخو " في كتابه ( النصرانية وآدابها في عرب الجاهلية 1: 119 ) إلى اعتبار الحنيفية شيعة نصرانية . ونحن لا نؤيده في ذلك رغم إيمان الحنفاء بالمسيح وأمه ، ولكن بسبب هذا الإيمان عينه ، وبسبب استقبال الحنفاء بيت المقدس في صلاتهم ، وبسبب اعتمادهم الكتاب والنبيين أكثر من الإنجيل ، يميل في هذا الشأن إلى حشرهم في زمرة اليهود - النصارى الذين يقبلون باستقلال النصرانية عن اليهودية كما كان يدعو الرسول بولس ، بل أرادوا دمج النصرانية باليهودية والموافقة بينهما . ويوم خراب أورشليم سنة سبعين وبعدها رحلوا إلى ديار العرب والحجاز، واستوطنوا هناك ونموا في دائرة ضيقة . وكانوا يعتمدون إنجيلاً منحولاً للرسول متى ، من جعل يسوع أبن يوسف ، وهذه تهمة ينور عليها القرآن وينقضها في كل مواقفه ، وبتسميته على الدوام يسوع " بابن مريم " يتحدى اعتقادهم الفاسد

: ومن يتلو القرآن يجد قرابة صميمة قوية بين الإسلام و الحنيفية . ففيما نسمع القرآن يقول

{ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين }

. [ النحل 16:123]

. ونسمعه يقول في موضع آخر على لسان نبيه :{ وأُمرت أن أكون من المسلمين }[ النمل 27: 91]، بل {أول المسلمين }[ الأنعام 6: 163] ، ثم ننتقل من مكة إلى المدينة، ومن حالة التردد والحيرة إلى حالة الركون والصراحة فنسمعه يعلن الوحدة التامة بين الحنيفية والإسلام ، فكلاهما ملة واحدة قائمة بنفسها تجاه اليهود والنصارى والمشركين :{ وما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } آل عمران 3: 67]

: وللأستاذ " يوسف الدرة حداد " باب قيم في هذا المجال بــكتابه ( القرآن والكتاب ) يبحث فيه علاقة محمد بالحنيفية ، ولفائدته ننقله هنا

. " .. ونشاهد تطور هذه العقيدة في خمس سور مكية ، وخمس سور مدنية ، تتعاقب ما بين هجرة محمد إلى الطائف وانتصار المسلمين في معركة بدر

: بدأ محمد فبل بعثته حنيفاً مستقلاً ، ويظهر في القرآن المكي حنيفاً كتابياً

.. إن أول إشارة إلى الحنيفية نجدها في سورة يونس ( 1. ) ترينا الوحدة القائمة بين الدعوات الكتابية والحنيفية والقرآنية : { قل : يا أيها الناس ، إن كنتم في شك من ديني فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله ، لكن أعبد الله الذي يتوقاكم . وأُمرت أن أكون من المؤمنين ، وأن أقم وجهك للدين حنيفاً ولا تكونن من المشركين }[ 1.: 104- 105 ].فالدعوة إلى الله دون سواه هي الحنيفية ، والحنيفية هي إيمان المؤمنين الذين أمر أن يكون منهم 1
. ومحمد لا يرى فرقاً بين الحنيفية والإسلام وتوحيد التوراة والإنجيل ، لأن الحنيف هو الذي لا يشرك بالله :{ أنى وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أن من المشركين }[ الأنعام 6:79]. فلقد كانت اليهودية في مزاميرها خاصة تدعو إلى الصراط المستقيم أي دين الله ، والنصرانية تدعو إلى الدين القيم أي دين الله والمسيح ، والحنيفية إلى ملة إبراهيم ، أي الإسلام والتسليم لله وحده لا شريك له ، وحدها محمد في قوله :{هداني ربى إلى صراط مستقيم ، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ الأنعام 6: 161 ] 2

. وهذا النص الآخر يجعل من الثلاثة الإسلام لله رب العالمين :{ قل : إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له ، وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين }[أنعام6: 162- 163]، أى من هذه الأمة ( الجلالان ) لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته ( البيضاوى ) فالإسلام في هذه السورة هو توحيد الحنيفية والكتاب ن لاتمييز بينهما على الإطلاق ز وإذا قارنا الآية 161 من الأنعام بالآية 9. من السورة عينها ، رأينا أن الصراط المستقيم والدين القيم وملة إبراهيم الحنيف هي هدى الكتاب وأنبيائه :{أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة - فإن يكفر بها هؤلاء ( مشركو مكة ) فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين -أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده}[ 89- 9. ] فإلى هدى أهل الكتاب أهتدي محمد ، وبه يؤمر أن يقتدى

. وفى سورة النحل ( 16 ) نجد إبراهيم أول حنيف ومحمد آخرهم :{ إن إبراهيم كان إماماً قانتاً لله ، حنيفاً ولم يكن من المشركين ، شاكراً لأنعمه ، اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم ....ثم أوحينا إليك أنأن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ نحل 16: 12. - 123 ]. ولكن هذه الحنيفية هي الإيمان بالكتاب ، فإذا شك المكيين في ذلك فليسألوا أهل الكتاب :{ ... فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر .وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [16: 43- 44 ] ، وإن إحالة السامعين على أهل الذكر ، العلماء بالتوراة والإنجيل ( الجلالان ) ، لتوحى بأن محمداً يتفق معهم بإيمان واحد في الذكر الكريم أي الكتاب ( البيضاوى ) وغاية القرآن أن يبين للعرب ما نزل للناس في الذكر الأول . ووحدة الاسم ( الذكر ) بين الكتاب والقرآن تدل أيضاً على وحدة الدعوة والإيمان بين الكتابيين ، المؤمنين الأولين والمسلمين :{قل : نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين}[ 16: 102 ]، فالقرآن إذن تثبيت للمؤمنين الأولين وهدى للمسلمين 3
. وفى سورة إبراهيم ( 14 ) يصرح إبراهيم في دعائه إلى الله أن من تبعه فإنه منه ، لذك يدعو محمد أهل مكة إلى حنيفية إبراهيم الكتابية ليكونوا جديرين بجدهم خليل الله في الدين والقومية :{ وإذ قال إبراهيم : رب اجعل هذا البلد أمناً واجنبنى وبنى أن نعبد الأصنام . رب إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه منى ومن عصاني فإنك غفور رحيم } [14: 35- 36 ].إنها شهادة متوترة في القرآن بأن أكثرية أهل مكة على الشرك ، ولكن هناك من لم يزل على التوحيد الإبراهيمي ، فمن كان على هذا التوحيد فإنه " من " إبراهيم 4
. وفى سورة الروم ( 3. ) يعلن محمد أن هذا التوحيد الذى يدعو إليه مع أهل الكتاب والذكر هو الدين القيم ، وهو الحنيفية التي فطر الناس عليها : { فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها - لا تبديل خلق الله - ذلك الدين القيم لكن أكثر الناس لا يعلمون } [ 3.: 3. ] 5

ففى جميع الآيات المكية يأتي ذكر الحنيفية مقروناً بالتوحيد الكتابي كأنه لا فرق بينهما .... ويختم محمد كرازته في مكة بإعلان الوحدة الدينية بين أتباعه والكتابيين :{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن - إلا الذين ظلموا منهم - وقولوا : أمنا بالذي إلينا وأنزل إليكم ، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون } [ عنكبوت 29 : 46 ي.

: كانت الهجرة النبوية إلى المدينة انقلابا في الداعي وفى الدعوة وطريقتها

. ففي الفترة التي سبقت الهجرة ، بعد رجوع محمد خائباً من الطائف ، أخذ يميل في توحيده إلى الاستقلال عن أهل الكتاب ، ويظهر ذلك في السور المكية الأخيرة (كالعنكبوت مثلاً).وهذا التوحيد هو الحنيفية التي أخذ محمد ، منذ سورة البقرة ، يحييها ويميزها عن اليهودية والنصرانية :{ وفالوا : كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا ! بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين } [ البقرة 2: 135 ] 1

: ثم جعل محمد يفكر في تأسيس الحنيفية ، ملة توحيدية كتابية عربية مستقلة كملتى الكتاب

. { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة 2: 143] . ويريد أن يجعل هذه الأمة الجديدة الموحدة (وسطاً)بين الكتابيين والأميين أى مشركى العرب الذين لا كتاب لهم ( الجلالان ) كما ستصرح به آية [ آل عمران 3: 2. ] { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين : أأسلمتم ؛ فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما تولوا فإنما عليك البلاغ }

. ولكن ، على ما تقوم هذه الأمة الوسط ؟ إنها تأخذ عقيدتها عن الكتابيين وتشترك مع أنبياء الكتاب في صحة التوحيد :{ قولوا : أمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق والأسباط وما أوتى موسى وعيسى ، وما اوتى النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون } [ البقرة 2: 136 ]. وتأخذ شرائعها عن القومية العربية : ففى سورة النساء ، يوضح القرآن أنه كان يهدى بسنن أهل الكتاب ثم عدل عنها إلى عادات قومه ليخفف عنهم :{ يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ..... يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً } [ النساء 4: 26- 27 ]

. هذا الاستقلال العربي في التوحيد والتشريع عن اليهود والنصارى لا ضير فيه لأن التوحيد من إبراهيم قبل الإنجيل والتوراة ، فلا سبيل إلى الحجاج :{ قل : أتحاجونا في الله ، وهو ربنا وربكم ، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون ، أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هوداً أو نصارى ؟ قل : أأنتم أعلم أم الله ؟ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله ! ومالله بغافل عما تعلمون } [ البقرة 2: 139- 14. ]

وشعار الاستقلال في قبلة الصلاة . فقد كانت القبلة المحمدية في مكة إلى بيت المقدس مثل أهل الكتاب ، ولما إستقل عنهم في المدينة عاد إلى قبلة قومه نحو الكعبة ، ولم تطهر بعد :{ قد نرى تقلب وجهك في السماء ، فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ؛ وحيث كنتم فولوا وجوهكم شطره }[ البقرة 2: 144 ]. وكانت وحدة التوحيد بين محمد وأهل الكتاب تظهر في مكة من خلال وحدة القبلة ، وإذاً الاستقلال ، في المدينة ، يظهر في اختلاف القبلة ، شعار الملة

. { وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، لئلا يكون للناس عليكم حجة }[ 2: 15. ] . فبدت هذه الظاهرة الجديدة " كبيرة " على بعض الكتابيين :{ سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ؟ ... وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله } [ 2: 142- 143]

. ويظهر لنا القرآن أن هذا التغبير والاستقلال والانقلاب كان لمصلحة محمد الشخصية :{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبه }[ 2: 143] ؛ ولمصلحة أمته :{ ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون } [ 2: 15.] . لأن هذا الاستقلال في " الأمة الوسط " يعطيهم كياناً دينياً مستقلاً :{ كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ، ويعلمكم الكتاب والحكمة ، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون } [ 2: 151 ] وهذا الاستقلال العربي في التوحيد لا يعنى انفصالا عن توحيد الكتاب ، فقد {آمن الرسول بما أُنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، لا نفرق بين أحد من رسله } [2: 185]؛ والقبلة والتشريعات الثانوية لا تضير وجه التوحيد بينهم [ 2: 177]

. وفى سورة البقرة حتى واقعة بدر ، أستقل محمد بالحنيفية العربية الإبراهيمية " أمة وسطاً" ، وبعد واقعة بدر وظهور سلطان المسلمين ، بدأ محمد يدعو إلى توحيد ملل التوحيد الكتابي تحت أسم التوحيد الجديد الذي أحتكره ، أي " الإسلام " . وكان في مكة يدعو إلى توحيد الآلهة فأمسى في المدينة يدعو إلى توحيد التوحيد الكتابي :{ قل : يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا: أشهدوا بأن مسلمون ( موحدون : الجلالان ) } [ آل عمران 3: 64] 2

. فالإسلام من إبراهيم ، لا مراء في ذلك وهو الدين الحنيف :{ يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم حججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ، ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانيا ولكن كان حنيفاً مسلماً ، وما كان من المشركين }[ آل عمران 3: 66 - 67]

. لاحظ ، لقد كان إبراهيم في مكة من المؤمنين ، فصار في البقرة حنيفاً ( 125 ) ، وأمسى في آل عمران مسلماً ( 67 )

. كانت ملة إبراهيم في مكة إسلام التوحيد الكتابي ، فصارت في المدينة ، بعد بدر طائفة مستقلة في ذاك التوحيد المنزل ، تنسب مباشرة إلى إبراهيم من فوق الإنجيل والتوراة . وصار عيسى وموسى وإبراهيم مسلمون

. لذلك فالمسلمون العرب أولى بإبراهيم من اليهود والنصارى لأن الإسلام هو الحنيفية الكتابية الإبراهيمية :{ إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه ( الحنفاء ) وهذا النبي ( محمد ) والذين آمنوا ( المسلمون ) والله ولى المؤمنين }[ آل عمران 3: 68 ]. وإسلام الحنيفية أفضل أمم التوحيد :{ قل: صدق الله ، فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين }[ 3: 95] والأمة التي على هذه الحنيفية هي خير الأمم :{ كنتم خير أمة أخرجت للناس }[ 3: 11.] . وهذا الإسلام الحنفي الذي لا يقبل الله ديناً غيره [ 3: 85]، هو هدى الكتاب مَن به الله على العرب المسلمين :{ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آبائه ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين }[ 3: 164]

. وفى سورة النساء (4) يصر على التوحيد الكتابي ويدعو إليه أهل الكتاب والمسلمين أنفسهم :{ يا أيها الذين أمنوا ، أمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً}[ 4:136]. لأن الأصل هو التوحيد لا الملة :{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سؤاً يجز به ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً ، ومن يعمل من الصالحات ، من ذكر أو أنثى - وهو المؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً}[ 4: 123 124 ]. ومع ذلك فأفضل ملل التوحيد ملة إبراهيم ، الحنيفية أي الإسلام :{ ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن ، وأتبع ملة إبراهيم حنيفاً ، واتخذ الله إبراهيم خليلاً} [ 4: 125] 3
. فطلبوا منه البينة ( 98 ) على أفضلية توحيد ه على سائر ملل التوحيد الكتابي :{ لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب منفكين حتى تأتيهم البينه ، رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة فيها كتب قيمة }[ البينة 98: 1- 3 ] ، فيجيب :لقد جاءتهم هذه البينة في القرآن فهو صحف مطهرة فيها كتب قيمة تدعو إلى الحنيفية ، دين القيمة :{ وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، حنفاء ويقيمون الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة }[ 98: 5]؛ وإذ كان اليهود يدعون التوحيد التوراتى بالصراط المستقيم في زبورهم ، والنصارى يدعون التوحيد الإنجيلى بالدين القويم يقول القرآن بأن التوحيد الذي أمروا به في كتبهم المنزلة هو إسلام الحنيفية ، دين القيمة الذي ينشده المخلصون من اليهود والنصارى والعرب الحنفاء 4
. ولكنه في سورة الحج ( 22 ) وهى مبيعضة [ أي أن بعض آياتها مكي ، وبعضها مدني ] ، يميل إلى الاعتدال فيفوض أمر الملة الفضلى إلى الله :{ أن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا .... إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ شهيد {[ 22: 17] لأن الأصل الذي لا غنى عنه في الدين هو الابتعاد عن الشرك والتحنف لله :{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور ، حنفاء غير مشركين به ، ومن يشرك بالله وما جعل عليكم في الدين من حرج ، ملة إبراهيم أبيكم . وهو سماكم المسلمين من قبل وفى هذا ليكون الرسول عليكم شهيداً وتكونوا شهداء على الناس }[ 22: 87] 5

: ويختم القرآن ، في العهد المدني على استقلال النبي في إسلام الحنيفية الكتابية ، نزل عرفة ، عام حجة الوداع ( الجلالان ) :{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}[ المائدة 5: 3] . واستقلال المسلمين في شريعة قرآنهم لا يمس استقلال اليهود في شريعة توراتهم [ 5: 47] ولا استقلال النصارى في شريعة إنجيلهم ( 5: 5. ) لأنه

{ أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ... لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ؛ ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات } [ 5: 48 ]. فقد كرس القرآن نهائياً استقلال الشرائع الثلاث التوحيدية ، ومساواتها في التوحيد مع أفضلية الحنيفية وهيمنة القرآن . وختم القرآن كما أفتتح في [ سورة البقرة 2: 62] بإعلان المساواة في عقيدة التوحيد بين أمم التوحيد المنزل كلها :{ إن الذين أمنوا والذين هادوا والنصارى ، من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }

. [ مائدة 5:69] . فالاستقلال بالشريعة ليس انفصالا في العقيدة لأن عقيدة التوحيد واحدة في الكتب المنزلة الثلاثة ، كما جمعها القرآن في آخر سورة نزلت منه خواتيمها :{ إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .... وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ، ومن أوفى بعهده من الله ، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم }[ التوبة 9: 111]

وهكذا فإسلام القرآن هو الحنيفية العربية اهتدت في محمد إلى هدى الكتاب [ الأنعام 6: 9. ] . وهذه الحنيفية القرآنية هي " تعريب " التوحيد الكتابي في " أمة وسط " [ البقرة 2: 143] وتشريع وسط [ نساء 4: 25- 27] . أ هـ

: وهذا يتفق و رأى الأستاذ / خليل عبد الكريم في كتابه " قريش من القبيلة .. ص 12. " الذي أورده كما ننقله هنا بنصه

" وهناك رأى أن محمد مؤسس دولة القرشيين في يثرب كان قبل تبليغه رسالة من ( الأحناف ) [ .. يمكن الاستنتاج من رواية السهيلي إذا صحت أن الرسول في حياته الأولى ونشاطه الديني كان حنيفياً وعلى صلة بــ مسيلمة الكذاب وغيره من الأحناف ] ، ولعل ما يؤيده ما جاء في دواوين السنة النبوية .... أنه عرض عليه عمر بن الخطاب أنه يقرأ أشياء في التوراة تتفق مع ما جاء به الرسول غضب وقال :" أمتوكو ن يا بن الخطاب والله لقد جئتكم بــــ " الحنيفية " السمحة ، ولو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا إتباعى ، ولما ورد في مصحف عبد بن مسعود " إن الدين عند الله الحنيفية ( بدلاً) من " إن الدين عند الله الإسلام " [ آل عمران 3: 19 ] ، وكذلك أيضاً لما ورد في سيرة محمد من ترفع عن الدنايا والإنصاف بالأخلاق الحميدة والنفور من عبادة الأصنام ، والاعتكاف في غار حراء لــ " التحنث " في شهر رمضان . وحراء هو ذات الغار الذي كان يلجأ إليه " المتحنف " المجمع على تحنفه " زيد بن عمرو بن النفيل العدوى .... وأيضاً جده المباشر عبد المطلب زعيم الحنيفية .وكذا يذكر أبن هشام [ج1:ص235]كان رسول الله صلعم يجاور( يعتكف) في حراء من كل سنة شهراً ، وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية .

أسئلة للمناقشة

* باستخدام المعجم المفهرس باب الصاد ، مادة صبأ

- كم مرة جاءت كلمة " الصابئين " في القرآن ، كاتباً الشواهد ؟

... ...................................................

... ...................................................

! - ما هي ملاحظتك على " الصابئون " {المائدة 5: 69} من حيث اللغة ، قارنها مع قرينتيها

... .......................................................

... .......................................................

* ما هي أوجه الشبه بين الصابئة ن والحنيفية ن من حيث الموقف من مشركي العرب في الجاهلية ؟

... ......................................................

... ......................................................

* أكتب بعضاً من أوجه الاختلاف بين الصابئة والحنيفية ؟

... .....................................................

... .....................................................

... .....................................................

* أكتب بعضاً من أوجه الشبه بين الصابئة والإسلام ، راجع فقرة ( ديانة الصابئة )

... ....................................................

... ....................................................

: * أكتب تعليقاتك الشخصية على ما درست في الشعائر الدينية عند الصابئة

... - الطهارة .............................................

- الصلاة ( يمكنك الاستعانة بكتيب تعليم الصلاة الإسلامية )

... ..........................................................

... - الصيام ..............................................

... - الموت ...............................................

* ترى لماذا خلط الباحثين بين الحنيفية والصابئة ؟

... ......................................................

... ......................................................

. * ما هي علاقة الحنيفية بالإسلام ، لخص ذلك في نقاط موجزة

... ......................................................

... ......................................................

... ......................................................

* أقرا من سيرة أبن هشام [ج 1 ك ص 221- 232 ] وأكتب تعليقك في نقاط مختصرة ؟