مدخل عام

caravan.gif (1087 bytes)

إذا أراد شخص ما أن يبني بيتاً ، فإنه من اللازم عليه أن يبحث في الأساسات ، ثم عليه تجهيز مواد البناء اللازمة لها . لذا من الغريب أن يقبل شخص ما ديانة ما ، فقط ، لأنه ولد عليها بحجة أن أتباع هذه الديانة - من وجهة نظره - كثر . وقد تناولنا في " هل تقبل التحدي ؟ " الخطوات التمهيدية في التعريف بالبيت الديني ، وهو ما نود أن نشيد معالمه – كما اختبرنا ، وعرفنا بيقين – هنا . ولإيماننا بضرورة المعرفة ، فنحن نضع بين يديك كل ما نعرف ، أملين أن يقودك ، كل هذا ، إلى معرفة الحق . آمين

: الدين

ما هو الدين ؟


. يلوح للباحث لأن الإجابة على هذا السؤال بسيطة ، ولكنه إذا أراد أن يعرف الدين تعريفاً عاماً يشمل كل الأديان والمتكاملة ، يشكل عليه الأمر . والصعوبة الناشئة من تعريف الدين ، تعريفاً جامعاً ، هي أن لكل دين نواحي خاصة به سواء في الشعور ، أو الاعتقاد ، أو في التعبد

. فالأقوام البدائية تفهم الدين على وجه لا تفهمه الأقوام المتقدمة في الحضارة ، وإذا أردنا أن يكون التعريف منطبقاً على جميع الأديان ، تزداد الصعوبة ، وذلك لأننا عندما نذكر كلمة الدين ، تمر بذاكرتنا جميع الأديان البائدة منها والحاضرة ، الأديان السماوية والمعتقدات الدينية الأخرى عند جميع الطوائف والشعوب على اختلاف معتقداتها ، ونزعاتها ، ومكانتها في سلم الحضارة . ومادام كل من هذه الطوائف والشعوب يختلف مفهوم الدين عندها ، لذلك يتعذر تعريفه بحيث ينطبق على مفاهيم جميع الأديان

فبعض الأقوام يريدون بالدين ، الأنظمة ، والسيطرة ، والتقاليد الموروثة ، ويقصد به آخرون العبادة والطقوس ، ويطلقه البعض على الإلهام والشعور ، وفوق هذا الاختلاف يدمج بعضهم الأساطير ، بمفهوم الدين ، لأنهم وجدوا الأساطير المختلفة شيئاً من فكرة الدين . وفي الحقيقة ، تختلف الأساطير عن الدين ، فمن الجائز أن فكرة الدين وجدت عند البشر قبل اختلاق الأساطير ، وقد تكون وقائع تاريخية حرفها البشر وزاد عليها وعظمها ، وتكون رموزاً أخلاقية وعبراً ، أما الدين ، فهو الشعور الخفي الذي يجعل يؤمن بشيء فيعظمه ويرهبه …

: تعريف الدين

. إن كلمة " ديانة " في اللغة العربية مشتقة من الفعل " دان " أي تعبد ، يقال دان بالمسيحية أي تعبد لها ، وقد تأتي أيضاً من الفعل " دان " أي اقترض ، لأن الإنسان مدين لله بوجوده وحياته .وهي تأتي بمعنى " الحساب " أو "المحاكمة " ، أو " الجزاء " (1) ومن هنا يأتي مفهوم " العبودية لله "

. ولكننا نود لأن نسعى لما هو أبعد من هذا التعريف . لذا فنحن نسعى إلى تحليل لفظة " دين " في اللغة اللاتينية RLIGIO فهي - بفضل غنى معناها - تكشف عن مضمونها ،وعن علاقتها بالفرد ، الشامل بكليته ، في جميع أبعاده ، ولاسيما قواه النفسية الثلاث : العقل ، والوجدان والإرادة "

. فبحسب الأديب سيشرون ، إن أصل Religion ، والمشتقة من Re-ligere ، أي أعاد القراءة ، " قرأ ثانية " . لأن الرجل المتدين يذاكر ما وعاه صدره ويكرر تلاوة الواجبات المفروضة عليه من الله .وهي هنا تشيد بالعقل الذي يسعى إلى اكتشاف معنى الوجود ويقرأ واقع الحياة قراءة إيمانية .والله هنا هو موضوع الدين ، والإيمان ، فهو المطلق ، هو القيمة والهدف والمعنى والعمق والاتجاه بالنسبة إلى الإنسان . ولا يستطيع الإنسان الذي يختبر الله إلا أن يرجع إلى الأمور المطلقة في حياته ، بل إنها تحثه دائماً على الخوض في عمق أعماق حياته

. وبحسب القديس أوغسطينوس ، إن أصل كلمة Re-eligere ، أي " أعاد الانتخاب " ، " اختار ثانية " . فالدين في نظره " هو أن يختار الإنسان الله من جديد ، بعدما أضاعه بهفوته ، أو بالخطيئة الأصلية " . فالدين ، فعلاً هو اختيار المؤمن بالله اختياراً حراً ، واختياراً ثانياً لحياته وسلوكه وتصرفاته ومعاملاته . ومن خلال هذه العلاقة يسعى الإنسان نحو الله منبع سعادته وهدف عمله ونشاطه ومجهوده ومصدر حريته . فهو هنا يركز على الإرادة الحرة


. وأخيراً يقول الأديب " لاكتاس (Lactanc) ، إن أصل كلمة Religion هو Re-ligare ومعناها " ربط " ، " شيد علاقة " . لأن الدين هو الرابط الذي يجمع بين الله والإنسان .وبقول آخر : هو العلاقة التي تربط الإنسان بالله ربطاً مبنياً على المحبة ، إذ أن الله محبة ، والإنسان مخلوق على صورته كمثاله . فالعلاقة هنا هي وجدانية

. ومهما يكن أصل الكلمة ، لابد لنا من تعريف الديانة ، وهذا التعريف يختلف في اعتبار الديانة " في ذاتها " عنه في اعتبار الديانة " في الإنسان " الذي يمارسها . فحينما يقال إن الديانة تفرض علينا كذا وكذا من الواجبات ، يكون المقصود من ذلك ، اعتبار الديانة " في ذاتها " أو كما يسميها الفلاسفة " الاعتبار العام " Objectivment ، وحينما يقال إن هذا الإنسان متدين يكون المراد اعتبار الديانة في " الفاعل " الذي يمارسها أو كما يقولون " الاعتبار الخاص " Subjectivement

: ويمكن تحديد الديانة " في ذاتها " بأنها مجموع الواجبات التي تترتب على علاقة الإنسان بالله ، وبين الاثنين أربع علاقات ، كل منها ينتج واجباً خاصاً

. أن الله خلق الإنسان فهو إذن السيد والمولى ، وبينه وبين الإنسان علاقة السيد بالخادم . ويترتب على ذلك أن يعترف الإنسان بسيادة الله عليه ، ويسمى هذا الواجب " واجب العبادة "

. إن الله يحفظ الإنسان ويعينه في أعماله ، فكل ما للإنسان من خير فهو مدين به لله ، وتكون بين الله والإنسان إذن علاقة المحسن بالمحسن إليه ، ويترتب على ذلك واجب ثان ، ألا وهو أن يحب الإنسان الله ، وأن يشكره ، ويسمى هذا الواجب " واجب الشكر "

إن الله يدبر الإنسان لأنه هو مصدر حياتنا ، وبه نوجد ونتحرك ، فبين الله والإنسان إذن علاقة الغني بالفقير ، ويترتب على ذلك أن يطلب الإنسان من الله ما هو بحاجة إليه من الخيرات ، ويسمى هذا الواجب " واجب الصلاة"

. وأخيراً ، إن الإنسان يخطئ إلى الله غالباً ، ولا يجوز أن يدع الله الإنسان حراً في أن يخطئ إليه من غير عقاب ولا حساب فبين الله والإنسان بسبب ذلك علاقة القاضي بالمذنب ، ويترتب على ذلك أن يستعطف الإنسان عدالة الله ، وأن يلتمس رحمته ويسمى هذا الواجب " واجب الاستغفار "

. هذه هي الواجبات الأربعة المترتبة على العلاقات بين الله والإنسان ، وهذه الواجبات موجودة بذاتها ، أي أنها غير متوقفة على قبول الإنسان لها ، ومنها تتألف الديانة

. أما الديانة ، في كل منا فيمكن تعريفها " بأنها قبول الإنسان للواجبات المفروضة عليه لله قبولاً فعلياً

: الشروط الواجبة في الإنسان المتدين

: لكي يكون الإنسان متديناً تديناً حقيقياً يتعين عليه في الواقع أن يتمم شروطاً نذكر منها اثنين فقط ، ليس على سبيل الحصر

. الأول : عليه أن يقبل الديانة كواجب يؤديه لله ، ولا يكفي أن يؤدى هذا الأمر أو ذاك مما تأمر به الديانة تأدية مادية ، بل عليه أن يؤديه لأن الديانة تأمره بذلك . فإذا قدم صدقة لفقير ، مثلاً ، فلا يصح أن يفعل ذلك بعامل الشفقة على القريب ، أو بعامل حب الإنسانية فقط ، بل لأن الله تعالى أمر بالتصدق ، وإلا كان عمله بشرياً بحتاً ولم يصبغ " بالطيب الإلهي " الذي يصبغ العمل بصبغته الدينية

. الثاني : إذا كانت ممارسة الواجبات الدينية من غير قبولها لا تصح ، فقبول الواجبات من غير ممارستها لا يصح كذلك . فمعرفة المرء لواجباته شئ حسن ، والاعتراف بها شئ أحسن . ولكي ينبغي الخروج من دائرة النظريات إلى دائرة العمل والتنفيذ ، أي ينبغي أن يكون قبول الواجبات لله عملياً

: مضمون الديانة

: لو قابلنا جميع الديانات ، بعضها ببعض ، لنستخلص منها الجوهر المشترك بينها ، لرأينا أن الديانة تتألف من ثلاث عناصر رئيسية ، تقابل قوى ثلاثاً هي : الفهم والإرادة والعاطفة ، أو بعبارة أخرى ، قوى المعرفة والإرادة والحب ، وتلك العناصر الرئيسية هي

. المعتقد أو المذهب ، وهو مجموعة من الحقائق يجب معرفتها والتصديق بها . فوجود الله ، وأنه أسمى من الإنسان ، وأنه له حقاً عليه في هذه الحياة الحاضرة وفي حياة مستقبلة . وأنه في هذه الدنيا واهب الخيرات ، وسيكون بعد ذلك دياناً لنا ، فيكافئنا على أعمالنا الصالحة ، أو يعاقبنا على أعمالنا الشريرة ، كل هذه الأمور هي بعض الحقائق التي لا بد لكل إنسان من الاعتقاد بها لكي يحسب متديناً وهو بمعرفته إياها يكرم الله " بفهمه "

. العنصر الأدبي ، وهو مجموعة من الواجبات تتحتم معرفتها والعمل بها . فتمجيد الإنسان لله ، ومعاملة الناس بالعدل ، واحترامه نفساً وروحاً وجسداً ، وتجمله بالتقوى . هي نذر يسير من الواجبات التي لابد لكل إنسان من السير عليها لكي يصير متديناً ، وهو بمراعاته إياها يكرم الله " بإرادته "

. العبادة ، وهي مجموعة من الطقوس تتحتم معرفتها وإتمامها . فالإنسان ، أياً كانت ديانته يتقرب إلى الله بها كما يتقرب إلى كائن محبوب ، بواسطة طقوس ورموز معينة ، يتممها وسطاء . وبممارسة الإنسان لهذه الطقوس يكرم الله " بعاطفته "

: بعض الحجج على بطلان الديانة

! الله ، ليس بحاجة لعبادتنا له ، أليس في ذاته الكفاية ..؟

أمام هذه الحجة ، نقف متعجبين ! لماذا ؟

. لأن الله الغني ، المنعم علينا بخيراته ، تجعلنا مديونين له ، وغنى المدين لا يعفي من واجب التقدير والشكر .وإلا كان معنى هذا بأن الله " لا مبالٍ " سواء بالنسبة إلى إنعامه على البشر ، وهو مالا يصح قبوله على ذات الله ، وإلا وجب أن يكون مبالياً ، أيضاً ، حيال الخير والشر ، وهذا بالطبع ، سيؤول إلى انهيار الأسس الأدبية والأخلاقية بالنسبة إلى الفرد والمجتمع ، مما يؤدي إلى حالة من عدم السلام

. ولأن الله ، كأب لكل البشر ( أي مصدر البشرية كخالق ) لا يمكنه أن يكون لا مبالياً حيال احترام البنون تجاهه ، وإلا انهار مفهوم الأبوة في ذات الله

! تقول ، أن الله لا مبالٍ ، وهذا القول غريب .. لأننا نجده يعامل ، المتدين وغير المتدين ، بالسواء ، وهو ما يدل على أنه لا مبال

لو سلمنا جدلاً بصحة هذا الزعم ، إلا أننا لا يمكن أن نقبله على أنه حقيقة كلية ، مما يؤدي إلا سقوط هذه الحجة ..لماذا ؟

. لأننا نؤمن بالقيامة من الأموات ، ويوم الحساب ، وهو ما يفسر لنا معنى الحياة الحاضرة وغايتها ، وهو ما يفسر أيضاً محبة الله المعلنة للبشرية ، بصبره على الشرير حتى ما يجد الفرصة ليتوب ، راجعاً إلى الله ، فينال عفوه وغفرانه . فليس قصد الله من خلقته للبشرية إهلاكها ، بل أن تخلص وتتوب . وصبره هنا يجب أن يفسر إيجابياً ، وليس سلبياً كما تقول الحجة

! أنا اصدق فعلاً ، بأن الديانة حق ، إلا أنني لا أجد الوقت الكافي لتأدية فرائضها

أمام هذه الحجة ، يجب ألا نهزأ بصاحبها .. ولكن يجب أن نساعده على أن نكشف فيه عدم أمانته .. لماذا ؟

! لأن الله إذا ما فرض على الإنسان فرضاً ما ، فهو قطعاً يوفر له الإمكانية ، والقدرة على إتمام هذه الفروض ، وإلا لزم بأن يكون ظالماً .. وحاشا لله أن يكون ظالماً

. لأن الله له غاية سامية ، من هذه الفروض التي يفرضها على الإنسان . والإنسان لن يدرك هذه الغاية إن لم يؤدي هذه الفروض

! عدم تأدية هذه الفرائض ، يعنى التمرد على الله ، وهو ما يقود الإنسان إلى نوقف المحاسبة على تقصيراته


الدين حاجة ملحة للإنسان

: حاجة العقل إلى معرفة الحقيقة

! من أنا ؟ وما هو سبب وجودي ، وإلى أين أنا ذاهب ؟ ثلاثة أسئلة ، من أسئلة كثيرة تؤرق عقل الإنسان ، طبيعياً

!. فمن منا لم يسأل نفسه هذه الأسئلة ، وما شابهها ؟ .وطبعاً لا جواب .

. والحال هذه ، أن الديانة ، وحدها هي التي تقدم إجابات أكيدة ، وسديدة ، عن هذه الأسئلة الأولية ، الملحة التي لا يتمكن الإنسان ، مهما فعل ، من حذفها أو تجاهلها

! وما نجده في العلوم الطبيعية ، وهي التي تقوم على دراسة الظواهر وعلاقاتها مع بعضها البعض ، ولا تهتم كثيراً بأسبابها ، لا نرى فيها إلا تماوجاً بين التأكيد والنفي ، إذ هي ترفض اليوم ما قبلته بالأمس . تعلم بمادية الإنسان تارة ، تارة أخرى بروحانيته ، وتارة أخرى بخلوده ، وتارة أخرى بفنائه الكلي .وكل هذا يكشف عن عجز هذه العلوم عن تقديم إجابات يقينية ، أكيدة على أسئلة الإنسان القديمة / الجديدة ، أبداً

. فالدين الذي يعرض الأجوبة الأكيدة عن تلك الأسئلة يؤلف إذن حاجة العقل الأساسية ، وحاجة الإنسان بالتالي

: حاجة الإرادة إلى فعل الخير

. إن الإرادة الفطرية في الإنسان تنزع إلى الخير ، ولا تبتغي الشر ، إلا إذا اعتبرته ، من قبل ، خيراً . فالإرادة إذن في مسيرتها تجاه الخير ، هي دوماً بحاجة إلى قواعد تساعدها على التمييز بين الخير والشر ، وإلى عون يساعدها على فعل الخير وتجنب الشر .والحال أن الديانة وحدها ، هي التي تقدم للإنسان هذه القواعد وهذا العون

ورب سائل يسأل ، وأين أجد هذه القواعد التي تقودنا إلى التمييز بين الخير والشر ؟

ولهذا السائل نقول : من يمكنه أن يقول ، بوضوح وبسلطان ، إن هذا الأمر خير وذاك شر ؟ . أفما يفرض هذا التمييز كائناً أسمى من الإنسان ؟

. يجيب بعضهم قائلاً : الضمير . إلا أنهم لا يدركون أن الضمير في ، واقع الأمر ، يعلن فقط ولا سلطان له في أن يملي على الإنسان شيئاً ؛ إنه صوت ، لا سلطان له ، إلا عندما ينقل كلام الله الذي هذبه بقواعده وأسسه للتمييز

!. ويقول آخرون : إن قاعدة التمييز هي المصلحة الشخصية أو العامة … ولهؤلاء نقول : ألا يكون معنى هذا ، بأن اختلاس مال القريب خيراً ، إذا ما وجد فيه السارق مصلحته الشخصية .

! وإذا ما نشب نزاع بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع ، فمن يجبر الفرد على نكران الذات والتضحية بمصلحته الخاصة لصالح المصلحة العامة ؟ أليس الله بمبادئه وأسسه التي يعلنها من خلال الديانة ؟

! وفئة أخرى تقول : عاطفة الشرف هي التي تؤسس قاعدة التمييز ! … ويغيب على هؤلاء أن الشرف ، ما هو في الواقع إلا قاعدة غير ثابتة ، بل هي نسبية. هل تفهمه الطبقات الخيرة من البشر كما تفهمه الطبقات الشريرة ؟ وهل نجد له مفهوماً واحداً في جميع المستويات الإنسانية ؟ بالطبع لا ..

. فما يعتبره البعض أعمالاً صالحة في ذاتها ، كالانتحار ، والثأر ، هو في الواقع منافي للأخلاق ،لأنه يجيز الشر على أنه خير

ففي واقع الأمر ، يكفي عادة بتنظيم علاقات البشر بعضهم ببعض ، بينما يهمل الأعمال غير المرئية . فمن الضروري إذن أن يكون منظم أعمالنا كائناً يفوق الإنسان ، يرى ما في داخل الإنسان . ومن يكون هذا سوى الله ؟

وربما يسأل أحدهم : وأين نجد العون الذي يساعدنا على عمل الخير ؟ فإنه لا يكفي أن نعرف أو نرى ذاك الخير ، بل يجب أن نحققه في حياتنا . فمن يساعدنا على ذلك ، في حين أن ضعفنا الذاتي ، وأهواءنا تعوقنا على تحقيق هذا الرجاء ؟

. ولسائل هذا السؤال نسأل : هل يأتينا ذاك العون من الآخرين ؟ بالطبع لا ، إذ أننا متساوين في كوننا ضعفاء

. أيأتينا من القانون المدني ؟ ولكن هذا لا يتناول سوى الأعمال الخارجية ، ولا يمكنه أن ينفذ إلى أعماقنا ، حيث تتهيأ تلك الأعمال

. إذا ، وبلا أدنى مجال للشك ، هذا العون لا يمكنه أن ينحدر إلا من الذي وضع القاعدة الأدبية ، أي الله . ولكن هذا يتطلب بالضرورة علاقة بين الله والإنسان ، وهذه العلاقة هي ما نسميه " الدين " . فالدين إذن هو ضرورة للإنسان

: حاجة القلب إلى نيل السعادة

. هذه الحاجة الثالثة هي أشهر حاجات الإنسان ، فهناك كثيرون لا يدركون حق الإدراك حاجة العقل إلى الحقيقة ، وحاجة الإرادة إلى الخير ، ولكن الجميع بلا استثناء يصبون إلى السعادة ؛ ويتوقون إليها توقاً هو ملء القلب البشري

: كل منا يكمن في داخله شعوراً بالحاجة إلى شئ غير متناه ، وهذا يعني أن الذي ركبه فينا ؛ كائن غير متناه وهذا بدوره إثبات لوجود الله !. كما يكمن فينا أيضاً رغبة في سعادة غير متناهية ، لا في المدى بل في الأمد أيضاً ، وهذا يعني إثبات بخلود النفس ، لأن الله الذي هو حق لا يخدعنا بأن يركب فينا غريزة كاذبة ، وكأننا برهنا سلفاً على صحة المسألة التي نحن بصددها الآن ؛ وهي أن سعادة الإنسان الحقيقية لا توجد في غير الديانة – والواقع

. 1. إن سعادة هذه الحياة لا تعد سعادة صحيحة ، إلا إذا كانت مقدمة لسعادة دائمة في حياة مستقبلة . إذاً أن التصور وحده بأن الموت هو نهاية كل شئ يذرى أعظم مسرات الأرض وأفراحها

. 2. حين نفكر أننا سنعوض راحة وهناء من آلام هذه الحياة ، يخف عبئها عنا ن ونحتمل بصبر رقاد أعزائنا ؛ لأننا سنراهم ثانية في الأبدية . ثم إن الذين يكافحون المتربة على الأرض ، ويكابدون المتاعب والشقاء يجدون الأمل في حياة أخرى توضع فيها الأمور في مواضعها مشجعاً على احتمال متاعبهم

. 3. إن الاختبار يدلنا على أن المتدينين يشعرون بسلام ونعيم ؛ حتى في أثناء بلاياهم ومحنتهم ، وترى في وجوههم بُشراً يحسدهم عليه الملحدون

. قال شاتو بريان Chatau briand : " ما أسعد المؤمنين لأنهم يثقون بأن ابتسامهم دائم وبكاءهم إلى حين . وقال جو يو Guyot : " إن حياة النفس المتدينة تديناً صادقاً هي سلسلة أعياد متصلة الحلقات "

. فالديانة إذن هي أمنية الإنسان ، وحاجته ما دامت الضرورة تقضي عليه بأن يبحث عن الحقيقة وعن الخير وعن السعادة ، وهو لا يجدها تامة إلا في علاقاته بالله . ويكفينا دليلا على ذلك ؛ هو أن البشر في جميع الأزمنة والأمكنة مارسوا الديانة ، ويمارسونها ، حتى قيل " الإنسان حيوان ديني "

: إلا أن لزوم الديانة للإنسان من الحقائق التي أثارت كثيراً من الاعتراضات عليها ، وسبب ذلك واضح هو ميل المعترضين إلى التملص من واجب يرونه مضاداً لشهواتهم ، ولو كان ضرورياً جداً لحياتهم المستقبلة ، وإليك بعض الاعتراضات

. يقولون : " إن مشكلة منشأ الإنسان ومصيره ، لا يهتم بهما جميع الناس على حد سواء ، ويظهر أن الذين لا يهتمون بها إلا اهتماما قليلاً لا يشعرون بأنهم خسروا شيئا من جراء ذلك "

. لا ننكر أنه يوجد شواذ ، وفي الحقائق التي من هذا النوع ، لا يطلب الإجماع عليها إجماعاً عددياً ، وحسبنا الإجماع الأدبي ! وما بقي فهو الاستثناء ؛ والاستثناء لا يبطل القاعدة . فكيراً ما نرى أشخاصاً يجتازون الشوارع المزدحمة من غير مبالاة بالسيارات التي تكاد تصدمهم ، فهل من أجل هؤلاء تبطل الحاجة إلى الفطنة في اجتياز الشوارع

. يقولون : " يوجد في العالم أناس مستقيمون ، وهم بلا ديانة ، فكيف يقال أن الديانة لازمة لهم لكي يعيشوا مستقيمين "

. هنا أيضاً نقول أن أمثال هؤلاء الأشخاص قليلون ، فإذا وجدت مائة من المستقيمين ، وأردت أن تعرف كم منهم الذين ليست لهم عقيدة دينية ، ولا يؤمنون بالله ، رأيت عددهم لا يكاد يذكر ، فهم إذا شواذ . ومع ذلك فإن هؤلاء الشواذ لا بد أن يكونوا قد تربوا تربية دينية في صغرهم ، أو هم يعيشون في بيئة دينية ، فاستقامتهم مستمدة من هذه البيئة وهم لا يدرون . على أن المجتمع مشرب بالإيمان بدليل ما فيه من العبادات والقوانين ، فهذا المجتمع هو الذي يثبت فيهم المبادئ الحسنة التي يظهرون بها ، وإن كانوا ينكرون ذلك

. يقولون : " يوجد مؤمنون متدينون ، ومع ذلك ، فإنهم ذوو عيوب فاضحة ، فالديانة إذن لم ترفع قيمتهم الأدبية "

. نقول أولاً : لم يدع مدع أن غرض الديانة هو أن تجعل الإنسان كاملاً ؛ منزهاً عن كل نقص ؛ فليس الكمال من هذا العالم ، كما يقول المثل ، وإنما هي تعين الإنسان على أن يكون خيراً مما هو فيه ، وأن يؤدي الواجب عليه ! تعم إنه عرضة للزلل والتقصير ، لأنه حر الإرادة ، إلا أن إيمانه يساعده على ألا يسقط كثيراً ؛ وإذا سقط لا يهوى إلى حضيض بل ينهض سريعاً

. ثانياً : إذا فهمنا ذلك – ولا يمكن أن نفهمه إلا على هذا الوجه – وجب أن نسأل حينئذ عما للديانة من أثر حقيقي في سلوكنا . وللجواب عن هذا السؤال لا ننظر إلى المؤمن في ذاته ، بل ينبغي أن نقابله بسواه . فنقابل رجلاً ذا ديانة ؛ بآخر بلا ديانة ؛ فنجد الأول ذو عيوب حقاً ، غير أن ديانته تحمله على مكافحة هذه العيوب والاعتراف بها والندم عليها ؛ وطلب إصلاحها ، ومهما سقط في كفاحه فإنه يستطيع أن يصرع خصمه الذي هو أضعف منه مراراً . ثم نقابل المؤمنين المتدينين بغير المتدينين ـ ويجب أن نقابل المجاميع بعضها ببعض لتكون المقابلة عادلة ، إذ لو قابلنا المؤمنين الأقل صلاحاً بنخبة غير المؤمنين أو من يسمون " بالقديسين الدنيويين " تكون المقابلة ظالمة ولا يستخلص منها قط حكم معقول . وإنما ينبغي أن نقابل جمهور المؤمنين بجمهور غير المؤمنين ، أو " القديسين المؤمنين " بالقديسين الدنيويين ، وحينئذ نجد الكفة الراجحة في جانب الأولين ؛ سواء في السعي إلى التجمل بالفضائل أو في مصارعة الرذائل

! ثالثاً وأخيراً: حينما يقصر مؤمن ما ، ويرتكب ذنباً ، فإنه يفعل ذلك لا منقاداً بإيمانه ، بل مخالفاً له ، وإيمانه هو الذي يوبخه على ذلك ، فليس الخطأ في أنه مؤمن ، بل في أن إيمانه ليس قوياً ؛ ولو كان قوياً لما اقترف الذنب ، ولو أنك سألت مائة سجين : هل قيامهم بواجباتهم الدينية هو الذي ساقهم إلى السجن ، وهل لو ظلوا يمارسون الحياة المسيحية كما كانوا يمارسونها في طفولتهم ، أكانوا يصيرون إلى حالتهم هذه .. لأجابك الجميع بالنفي

العبادة.. الصلاة .. اللامبالاة

.. أولاً : العبادة

. ما دامت الديانة لازمة ، فمن البين أن تكون العبادة محتمة ، وما ذلك في الحقيقة إلا انتقال من الدائرة النظرية إلى الدائرة العملية في مسألة المسائل ؛ وهي الواجبات المفروضة علينا لله

: وللعبادة طرق ثلاث يمكننا بها أن نكرم الله

. الأولى : العبادة " الداخلية " وهي أن نرفع نفوسنا إلى الله في حين اشتغال أجسادنا بأمور العالم ، أو سكوتنا عن كل حركة

. الثانية : العبادة " الخارجية " وهي أن نشرك أجسادنا مع أرواحنا في إكرام الله ، فتلفظ شفاهنا صلوات مرتبة ونقف أو نسجد احتراماً وإجلالاً لحضور الله في كل مكان

. الثالثة : العبادة " الجمهورية " وهي أن نشترك بأجسادنا مع أعضاء عائلاتنا ومع مواطنينا ، وهذه الشركة الظاهرة هي شهادة بشركة جميع أرواحنا شركة خفية

: العبادة الداخلية

. يجب أن تكون عبادتنا داخلية قبل كل شئ ، فإننا لما أثبتنا لزوم الديانة بنينا هذا الإثبات على احتياجات نفوسنا وعلى صفاتها ، فهي التي تعرف الله وتعرف كل ما هو واجب علينا له تعالى ، ونفهم أننا باحتياج إليه ؛ علاوة على أنها مسئولية أمامه ؛ فيجب علينا إذن أن نعبده

. ومما يدل على أهمية هذا الالتزام ، أن العبادة لا تكون حقيقية من غير عبادة داخلية ، فعبادة تصدر من الشفتين ولا يشترك فيها القلب ليست بعبادة صحيحة بل هي نفاق وخبث . ولهذا أراد السيد المسيح من الساجدين لله " أن يسجدوا لله بالروح والحق" ورثي لحال أولئك الذين " يكرمون الله بشفاههم وقلوبهم مبتعدة بعيداً عنه "


: العبادة الخارجية

: إن العبادة الداخلية هي النتيجة الطبيعية للواجب الديني ، لأن الذي يسلم بلزوم الديانة يسلم في الوقت عينه بلزوم العبادة الداخلية ، وليس الأمر كذلك في العبادة الخارجية ، التي يرفض كثيرون التسليم بها ، ولكن مع ذلك ضرورية للأسباب الآتية

. أن النفس ملزمة بإكرام الله لأنها خليقته وتابعة له ؛ وكذلك الحال في شأن الجسد ؛ لأنه من صنع الله وخاضع له ، ولما كانت النفس تعلم أن الجسد الذي تحركه هو مخلوق من الله ، فمن واجبها أن تجعله ينحني أمامه وتلزمه بأن يؤدي الإكرام لخالقه

! وقد قلنا أن الإنسان يمثل أمام الله ككاهن ، ونائب عن جميع الخليقة المنظورة ، وعليه أن يؤدي للخالق هذا السجود الذي لا قبل للكائنات الدنيا به ، لتجردها من الفهم ! وأبسط الوسائل التي يمكننا بها أن نؤدي هذا الإكرام لله بالنيابة عن الأرض كلها هو أن نكرمه بأجسادنا ، فالجسد في الحقيقة هو المختصر ، أو الموجز ، أو الخلاصة لجميع الخليقة المنظورة ، إذ يشتمل على الكينونة كعالم الجماد والحياة كعالم النبات ، والإحساس كعالم الحيوان ، ولهذا كان القدماء يسمون الإنسان " ميكرو كوسيم " Microcosm أي " عالماً صغيراً "

. بسبب الاتحاد الوثيق العري بين النفس والجسد ، وهو الاتحاد الذي يجعلهما كائناً واحداً يستحيل من الوجهة الأدبية أن تؤدي النفس دائماً واجباتها لله ، وأن لا يشترك الجسد معها في ذلك أبداً ، ثم أن الولد الزكي المنبت يحب والديه ويفهم ما يجب عليه لهما ويشكرهما على عنايتهما به ، فهل يمكن أن يظل هذا الحب ، وهذا الشكر في قرارة النفس من دون أن يظهرا خارجاً ، ذلك أمر متعذر وحتى لو كان ذلك ممكناً لشعرنا بأنه شر ، فإن جسد الولد كنفسه مغمور بخيرات والديه فعليه أن يطلب من نفسه توفية ما عليه من دين الشكر والمحبة

. وكما تؤثر النفس في الجسد وتحمله على إعلان الاحساسات التي هي مشبعة بها ، كذلك يؤثر الجسد في النفس بأن يسهل عليها القهم وإتمام الواجب عليها لله . ففي الهندسة مثلاً ، ترسم الأشكال والأرقام على اللوحة فيسهل على العقل إدراك المسألة ، هكذا العلامات الخارجية في العبادة كالركوع والوقوف بخشوع وقراءة الصلوات كلها تساعد على تنبيه الروح ، أضف إلى هذا أن إعلان الاحساسات إعلاناً ظاهرياً يرسخ أصولها في النفس . وإذا كانت خدمة الوطن بحاجة إلى مظاهرات خارجية فكذلك رأس كل خدمة ، ونعني بها عبادة الله


: العبادة الجمهورية

: في وسعنا أن نكرم الله بعبادة خارجية من غير أن يبصرنا أحد ، كأن نركع في غرفة مقفلة ، ولكن لو عبدناه هكذا عبادة فردية بحتة ، أو بالأحرى سرية ، لا نكون قد أدينا العبادة الواجبة لله حق التأدية ، فعبادتنا لله يجب أن تكون علنية ، جمهورية ، ولو من حين إلى حين ، للأسباب الآتية

. إن الجماعات التي هي مخلوقة من الله ، كالأفراد ملزمة بأن تعبده عبادة خاصة ، وعبادة الجماعات يجب أن تكون هي أيضاً داخلية وخارجية ، فالمجتمع يؤدي إلى الله عبادة داخلية حينما يصلي أبناء الوطن في نفوسهم عن الوطن ، ولكن ينبغي كذلك على " جسم " المجتمع أن يكرم الله بصلاة خارجية ، ويتحقق هذا الواجب حين يجتمع أبناء الوطن في الساعات والأمكنة التي يعينها رؤساؤهم لإكرام الله معاً

. على أن الإنسان مفطور على الميل إلى تبليغ احساساته إلى بني نوعه ، وهذا الميل طبيعي وسائغ ، ففي العبادة يكون هذا التبليغ بالصلاة المشتركة

. لما كان المجتمع يحترم كلاً من الأفراد الذين يتركب منهم ، ففي مقابل ذلك يجب على الفرد أن يشترك بقدر طاقته في خير المجتمع ، وذلك بأن يضع أمام مواطنيه المثل الحسن ، والقدوة الفضلى بإتمام واجباته الدينية ، مادامت الديانة لازمة للخير الاجتماعي ، وكلنا يعرف قيمة وقوة " القدوة "


.. ثانياً : الصــــلاة

! الصلاة بمعناها العام هي رفع النفس إلى الله مهما يكن الغرض منها ، سواء أكانت سجوداً أو شكراً أو استغفاراً أو طلباً . ولكن إذا كان جميع الذين يؤمنون بالله يسلمون بواجب العبادة .بالحري الصلاة ، فليس الجميع يعترفون بجميع أغراض الصلاة ، إذ أنه يوجد بين العقلانيين Rationalistes (2)كثيرون يرفضون صلاة الطلب ويقبلون أن يعبد الله وأن يشكر ولكن لا يقبلون أن يلتمس منه . في حين أن الصلاة لا تطلق غالباً إلا على صلاة الطلب أو الالتماس ولا يراد بها عند الكثيرين إلا التضرع إليه تعالى بأن يهبنا النعم التي نحن بحاجة إليها . فنريد أن نتكلم عن الصلاة بهذا المعنى لكي نثبت شرعية الطلبات التي نقدمها إلى الله . وينقسم أعداء الصلاة إلى طبقتين فمنهم من يقول أن الصلاة غير جائزة لأنها إساءة إلى الله وإذلال للإنسان ، وفي جملة هؤلاء جان جاك روسو الذي تجرأ على أن يكتب قائلاً : " إن الصلاة دعاء قحة جدير بالعقاب لا بالاستجابة " ، وأما كانت Kant وجول سيمون Jules Simon فلم يبلغ بهما الأمر أن يستنكرا الصلاة بل اعترفا لها ببعض النفع ، كنفع كثير من الأوهام ، قائلين : أنه توجد أدوية غير شافية ولكنها مع ذلك تفيد لما تحدثه من الأثر في حالة المريض المعنوية ، والصلاة في نظرهما من هذا القبيل فيسلمان بجوازها ، غير أنهما يقولان أن هذا النفع المشكوك فيه لا يكفي لاعتبارها ترتيباً إلهياً ، أي أنهما وإن سلما بجوازها لا يسلمان بوجوبها

. وأمام هؤلاء الخصوم علينا واجبان : فللرد على الأولين علينا أن نثبت أن الصلاة مشروعة ، وأنه يجوز أن نصلي . وللرد على الآخرين علينا أن نبين أن الصلاة واجب على الإنسان وأنه ( يجب ) علينا أن نصلي . فمشروعية الصلاة والالتزام لها هما وجهتا النظر اللتان نريد بهما أن نعالج هذا الموضوع . وبالنظر لأهمية الصلاة ، لأنها روح الديانة ، سنعني بفحص الاعتراضات التي يوجهها أعداء الصلاة إلى رأينا ونفندها

.. مشروعية الصلاة

: في وسعنا أن نصلي ، ولنا حق في أن نصلي . وهذا هو ما نعارض به جان جاك روسو ، ومن الهين إثبات ذلك

. أولاً: ما الغرض الذي نرمي إليه حينما نصلي ؟ أليس الغرض هو أن ننال من الله عطية أو نعمة أو إجابة رغبة . فلكي يباح لنا أ نصلي بطريقة مشروعة يلزم أن نعرف أن " الله يقدر " على استجابتنا وأنه " يريد " ذلك . فالله " يقدر " حقاً على أن يستجيب لنا ، لأته كلي " القدرة " ثم أنه " يريد " حقاً أن يستجيب لنا لأنه " الكلي الصلاح " ويترتب على ذلك أن يبيح لأنفسنا أن ننتظر منه الاستماع لصلواتنا واستجابتها

. ثانياً : إن الدليل على أن صلاة الطلب طبيعية ومعقولة ، هو أنها جزء من العلاقات بين البشر ، فحينما نرغب في الحصول على عطية من رئيس ما نلتمسها منه ، ونرجو أن يجيبنا إلى التماسنا ، لما نعرفه فيه من لين العريكة والشفقة . فإذا كان يجوز لنا أن " نرجو " بشرياً ألا يجوز أن " نرجو " الله نفسه . وما هي قدرة البشري وشفقته إلى جانب ينابيع الصلاح والقدرة الإلهية

: الاعتراضات

: يؤمن العقليين بالله وبقدرته على كل شئ وبصلاحه غير المتناهي ، ولكنهم ينكرون فاعلية الصلاة ، فيقولون أن الله يقدر ( مادياً ) أن يستجيب لنا إذ ليس عنده شئ غير مستطاع ، غير أنه لا يقدر على ذلك من وجهة " أدبية " إذ تمنعه صفات جوهرية مثل عدم التغير والحكمة . وقبل أن نبين أن هذه الصفات الإلهية لا تتعارض مع صلواتنا تخطر لنا هذه الملاحظة العامة

: ذلك أن الله كلي الصلاح ، كما أنه غير متغير أبداً وكذلك هو كلي القدرة والحكمة ، فكيف مع هذه الصفات يكون عاجزاً عن تفريج كرب خلائقه ، وتخفيف شقائهم حينما يطلبون منه ذلك بالصلاة . وإذا قيل أنه لا يكون إلهاً حقيقياً إذا استجاب الصلاة ؛ لأنه يكون متغيراً ؛ فهل يكون إلهاً حقيقياً إذا لم يقدر على استجابتها . فاعتراضات المعترضين إذن مبنية على قصر النظر وإليك البيان

الاعتراض الأول

. يقولون : " إن طلب أي شئ كان من الله معناه ، طلب تغيير فكره ، فكيف يغيره إذا كان غير متغير ؟ " وفي هذا الصدد يقول جول سيمون : " بالصلاة يطلبون إلى الله أن يعدل آراءه ، وأن يتكيف برغبات مخلوقاته وأن يتخذ لنفسه آراء جديدة في استجابة أدعيتنا "

. نقول .. إن تصوير الأمور على هذا المنوال ، إنما هو تجاهل هذه الحقيقة ، وهي أن الله يعيش في الأزلية، وليس في حيز الزمن ؛ وأن ليس عنده " تلاحق " ومن ثم لا تغير في آراء الله وإرادته ، فلا يصح أن نعتقد أن صلواتنا تغير التعيين الإلهي كما يغير استعطاف الفقير من مقاصد الغني ، أو كما تغير بلاغة المحامي من رأي القاضي . ولكن ليس معنى ذلك أن الصلاة لا فاعلية لها . كلا ؛ وها نحن نريك كيف تعمل

. إن الله أراد من أزل الأزل أن يجري العالم على نواميس معينة . وإدراك منذ أزل الأزل ما يترتب على هذه النواميس من الآثار على مر الأجيال والقرون تبعاً للأحوال التي تنشأ في أوقاتها . كذلك هو نظم هذه الأحوال وأرادها منذ أزل الأزل باختياره منذ البدء ، مقدمات تؤدي شيئاً فشيئاً إلى الأحوال المذكورة

. وقد أراد الله كل ذلك بفعل واحد لا أكثر ، ولكنه كان يعلم أيضاً بالطلبات التي سترفع إليه ، وكان يعلم أن الأمور التي سيطلب منه تحقيقها ستحقق في الواقع بهذه الحالة أو بغيرها . وبالفعل الأزلي عينه رتب كل شئ لظهور هذه الأخوال ، فإن كان صحيحاً إذن أن صلواتنا لا تغير ( الآن ) شيئاً من المقاصد الإلهية ، فذلك لأن هذه المقاصد عينت منذ أزل الأزل لسابقة العلم بصلواتنا ، بل يمكن أن يقال على أصح تعبير أن صلواتنا حاضرة أمام الله ومشاهدة منه لأن الأزلية لا تقبل ماضياً ولا مستقبلاً ، كما قدمنا ، بل هي حاضرة فقط ، والله لا يتوقع الأمور بل يراها واقعة ، فهو منذ الأزل يرى صلواتنا ، ومنذ الأزل يستجيبها ، ومنذ الأزل يقرر أن تبتدئ حوادث العالم من هذا النقطة لا من تلك ، حتى على مر الزمن تؤدي إلى الحالة التي تظهر فيها استجابة الصلاة

. وهكذا نرى أن للصلاة فاعلية من دون مساس بما لله من صفة عدم التغير

الاعتراض الثاني

. يقولون : " إن الله سن نواميس للطبيعة وليس من مقتضى حكمته أن يلاشيها بناء على طلب المصلين "

. نقول..إن الصلاة ، لا يقصد بها أبداً ملا شاة ناموس من نواميس الطبيعة أو قلبه ، وإنما هي في معظم الحالات تطلب أن يكون تطبيق هذا الناموس تطبيقاً مفيداً لنا . مثال على ذلك : حينما ينهمر المطر يصلون من أجل الصحو ، ومن نواميس الطبيعة أن تشرق الشمس بعد انقشاع السحاب ، فكأننا نطلب تنفيذ هذا الناموس . كذلك حينما يطلب ولد من الله أن يشفي والدته وهي بين أيدي الأطباء ، فهو لا يطلب معجزة ، بل تنفيذ نواميس الطبيعة تنفيذاً صالحاً . وتلك النواميس قد جعلت الدواء إلى جانب الداء

! وقد نرى طفلاً يوشك أن يموت وهو مصاب بمرض تعذر على الطبيب تشخيصه ، فتصلي أمه ، ثم يعود الطبيب في المساء فيرى عرضاً جديداً لم يكن قد رآه أولاً ، فيصف الدواء وينجو الولد ، فهل في هذا قلب لنواميس الطبيعة ؟ كلا ؛ وهل لله يد في هذا ؟ ولماذا لا

! قد يقع أحياناً أن نطلب من الله أمراً يخالف نواميس الطبيعة أو بالحري " معجزة " ولكن المعجزة ليست مضادة لحكمة الله لأنها نادرة ولا تمنع الإنسان من الاعتراف بنواميس الطبيعة والاعتماد عليها ، ففيضان مياه أحد الأنهار لا يمنع من إقامة آلات الطحن عند موضع انحدار مياهه . وتحويل الماء خمراً ؛ مرة واحدة ، لم يمنع من غرس الكرم . وأخيراً نقول " إن منع الصلاة باسم صفة عدم التغير في الله ما هو إلا شعوذة عقلية "

: الالتزام بالصــلاة

. ليست الصلاة حقاً اختيارياً لنا فنصلي أو لا نصلي ، بل هي واجب والتزام لأن الله يريد منا أن نطلب منه ما نوده من البركات ، وهذه الحقيقة يراها المؤمن واضحة جلية لأنهل مؤكدة صراحة في الإنجيل في قول المسيح " بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً " وقوله " اطلبوا تجدوا " فهاتان الآيتان وما شابههما تثبت أننا لا نستطيع إدراك مقاصدنا إلا بمعونة الله ولا ننال هذه المعونة إلا بالصلاة

: قد يسأل سائل " أما كان في قدرة الله أن يعيننا من غير أن نطلب إليه المعونة " ولو ترك العقل لذاته لما استطاع أن يجيب هذا السؤال جواباً صحيحاً ودونك الإجابة عنه

: 1- نحن بحاجة إلى معونة الله لنبلغ مرادنا – أي أن نصل بواسطة عمل الخير إلى السعادة ، وفي وسعنا أن نقتنع بهذه الحقيقة حينما نذكر كيف نحمل على عمل الخير . فالفضيلة عبء ثقيل لا بد معه من المساعدة ، وهذا المساعد هو الله ، ولكن الله يعلق مساعدته لنا – إن لم يكن دائماً فغالباً – على طلبنا منه ذلك بالصلاة ، ولا شك في أنه لم يفرض علينا ذلك إلا لما فيه من الفوائد وإليك بعضها

. أن الصلاة تنقش في عقولنا نقشاً ثابتاً لا يمحى أن الله قادر على كل شئ ، وأننا محتاجون إليه ، وأنه كلي الصلاح

. أنها تحثنا على شكر الله على إحساناته

. وحينما نعطى المعونة يتجدد نشاطنا ونزداد همة في مقاومة الشر وتعظم ثقتنا في نجاح مجهوداتنا

. 2- ليس الغرض من الصلاة أن ننال مساعدة الله فقط ، بل أن ننال غفراناً لخطايانا ، ونحن لا نفهم أن المذنب ينال عفواً إن لم يطلبه

. 3- إن هذين البرهانين مؤيدان بما تفعله جميع الشعوب فقد رأينا أنها جميعاً تؤمن بالله وأنها جميعاً تمارس عبادته ولصلاة الطلب في هذه العبادة نصيب كبير

.. الاعتراضات

. يقولون : " إننا نطلب الالتزام بالصلاة من الإنسان حينما يستحيل عليه إتمام الواجب عليه ، ومتى استحال عليه القيام بهذا الواجب لا يصبح واجباً لأنه غير مكلف بالمستحيل "

. نقول : ماذا نقول عن تلميذ قصر في واجبه بحجة أنه لا يستطيع أن يكتب من غير قرطاس ولا مداد في حين أن القرطاس والمداد قريبان منه ، وهو لا يريد أن يخطو بضع خطوات لتناولهما ؟ حقاً إنه من المستحيل عليه أن يكتب من دون هاتين الأداتين ، ولكن السعي إليهما جزء من واجبه ، هكذا الأمر فيما يتعلق بالإنسان ، فعليه واجبات ، ولأجل أن ينهض بها يحتاج إلى مساعدة الله ، وهذه المساعدة في تناول يده إذا هو صلى ، فالصلاة شطر من الواجب عليه وإذا استعمل هذه الأداة الأولى للخلاص نال بلا عناء المساعدات الأخرى التي يضعها الله تحت تصرفه

يقولون : " إننا نبسط احتياجاتنا لله ولكن الواقع أنه يعرفها خيراً مما نعرفها نحن ، فلماذا نبسطها له ؟

: نقول : إن الوالدين يعلمان ، غالباً بما يحتاج إليه أولادهما ، ومع ذلك ينتظران دائماً منهم أن يبسطوها لهم ، وأن يتوسلوا إليهما بإعطائهم إياها . وهذا أمر يستعمل قصداً لكي يرسخ في أذهان الأولاد أنهم مدينون لوالديهم ، ويقتنعوا بحاجتهم إليهما ويألفوا دائماً ألا يطلبوا إلا ما هو مفيد لهم . وهذا ما يعلمنا الله به . فهو يعلم باحتياجاتنا ، بيد أنه مع ذلك يريد أن نبسطها أمامه ، وفي هذا خير لنا وإليك الأسباب

! 1- لأنه يلزمنا أن نفكر في احتياجاتنا وندرسها لكي نستطيع أن نشرحها ، وأن نقابل بعضها ببعض ، فنرتبها في صلواتنا مقدمين احتياجات النفس على احتياجات الجسد مثلاً .. وهكذا

. 2- لأن الطلب هو اعتراف بضعفنا الشخصي وفي هذا الاعتراف تواضع وتذلل ، ومعلوم أن تواضع الطالب يستدر عطف المعطي

. 3- إذا لم نصل ( قبل ) نيل الإحسان فقلما نصلي ( بعد ) نيله ، وإذا بطلت صلاة الطلب بطلت صلاة الشكر ، وهذا معناه الجحود والكفران



. يقولون : " لو رأينا للصلاة فاعلية على الدوام ، لاستطعنا أن نفهم معنى الالتزام ، ولكن الحقيقة هي أن الصلوات التي تستجاب قليلة "

: نقول : لا تستجاب الصلاة إذا كانت نقية ، فالذي يرفض الانصياع لمشيئة الله لا يجوز له أن يطلب من الله أن يجيبه إلى دعائه . ولذلك قال القديس أوغسطينوس " نحن لا نحسن الطلب " ، وهنا نقول أن الصلاة لا تخرج عن أغراض ثلاثة

. 1- حينما نطلب من الله نعماً روحية بقصد خلاص نفوسنا ، فهذه الصلاة تستجاب دائماً ، وإذا لم ننل كل ما نطلب من المساعدات فيكون ذلك لأننا لم نلحظ في الطلب ، ومع ذلك فكل صلاة تقدم لقصد روحي تنال قسطاً من صلاح الله ورأفته

. 2- الحصول على نعم زمنية ، وهذا هو لسوء الحظ الغرض من معظم صلواتنا ، وفي هذه الحالة إذا كان ما نطلبه خيراً فإن الله يستجيب صلاتنا ، وإن كان لا يستجيبها كما نهوى تماماً . لأن الصلاة ليست أداة لطلب المغانم الجسدية فقط ، ولأن الديانة روح وحياة . وكثيراً ما تستجاب الصلاة استجابة خفية لا تسترعي الأنظار فيظن مقدمها أنها لم تستجب ، فإذا طلب محتاج خبزاً فلا يرسله الله إليه ، على يد ملاك ، ولكنه يحرك قلب أحد المحسنين فيعطيه الخبز دون أن يشعر أحد بذلك

. 3- قد يتفق أن نلتمس من الله نقمة حينما نعتقد أننا نطلب نعمة زمنية ، فإذا كان ذلك منا عن جهل وشهوة غشيت بصائرنا وأرتنا حسناً ما ليس بالحسن ونافعاً ما ليس بالنافع . فالله تعالى " يصحح " طلبنا ويوجهه إلى الخير ، أما إذا كان ذلك عن علم وقصد نكون جديرين بأن لا نجاب إلى ما نطلب ، ونحن إذن نجرب الله


: الاستهتار الديني

.. ملاحظات تمهيدية

: إن النتيجة الأخيرة التي نستخرجها من الالتزام الديني هي استنكار الاستهتار والاستخفاف بالأمور الدينية . وغني عن البيان أنه إذا كانت الديانة لازمة وكانت فيما يختص بالله حقاً له ، وفي ما يختص بالإنسان واجباً عليه ، فليس لأحد أن يظل غير مكترث بها . وليس مرادنا أن نبين أن هذا الاستهتار منكر ، فهذه حقيقة تظهر من بين ثنايا كل ما وضعناه هنا – في هذه المقالة - ، ولكننا نريد أن نخاطب المستهترين ببضع كلمات قد تساعدهم على العدول عن استهتارهم . وللشر الذي نحن بصدده ثلاثة مظاهر ، وليس المستهترين سواء . وإذا كانت الأدوية تختلف وتتنوع بتنوع الأمراض ، فإننا نضع هنا تأملات مختلفة لأنواع المستهترين الثلاثة

. 1- يوجد أولاً الاستهتار المنظم ، وهو خطأ الذين لا يقنعون بابتعادهم فعلاً عن عبادة الله ، بل يزعمون أن هذا الاستهتار هو حق مطلق لهم

. 2- وهناك فريق ثان ، مع اعترافهم نظرياً بأن الله حقاً علينا في أن نعبده ، يتصرفون كما لو كان هذا الحق غير موجود ، ويسقطون في هوة الاستهتار الفعلي

. 3- وأما الفريق الثالث فيعرج بين هاتين الفرقتين ، فهو لا يذهب إلى حد القول أن الإنسان غير ملتزم بشيء أمام الله ويتجنب الاستهتار التام – غالباً – في ممارسة أعمال حياته ، ولكنه مع تسليمه بوجوب تمجيد الله يزعم أن لا أهمية للمنوال الذي يتم به هذا التمجيد ، وعنده أن لا ميزة لصيغة دينية على صيغة أخرى .وسنقول كلمة عن كل نوع من هذه الأنواع


: الاستهتار المنظم

: يدعى أحياناً هذا الاستهتار المطلق " المبدأ الاستهتاري " أي الاستهتار القائم على قياس أو ترتيب ، ويتألف هذا الفريق أولاً من الملاحدة ، وهؤلاء لا كلام لنا عليهم هنا فقد وفيناهم حقهم ، وإذا كانوا لا يعتقدون بوجوب الله فالمنطق الذي يتمشى مع خطأهم هذا يقضي عليهم بإهمال الديانة لأن غير الموجود لا حقوق له . ولكننا نتكلم عن جماعة من الناس يعتقدون بالله وهم مع ذلك يدعون أن لهم الحق في أن لا يقدموا له أي تمجيد كان ولا أي نوع من أنواع العبادة أو الطاعة ، فهؤلاء يخالفون المنطق ، واستهتارهم يعد في الواقع

. 1- ثورة ؛ فقد أبنا أن الله يهمه تدين الناس ، ويريدهم متدينين ، وليس لأي إنسان حق في أن يخالف هذه الإرادة وإذا خالفها كان عاصياً ثائراً

. 2- كفرانا ؛ وذلك لسبب ما يغدق الله من الخيرات والبركات على البشرية عامة ، وعلى كل إنسان خاصة

. 3- حماقة ؛ لأنهم يحكمون على أنفسهم وباختيارهم باستحقاق القصاصات التي لا يمكن أن يعفي الله منها الذين يتمردون عليه

. 4- ونضيف إلى ذلك نعتاً آخر ، هو الاستهتار يحسب بغضاً وكراهية ، عملاً بقول السيد المسيح " من ليس معي فهو على "


: الاستهتار الفعلي

: هذا الاستهتار ، هو كما قلنا استهتار الأشخاص الذين مع اقتناعهم بلزوم الديانة لا يمارسونها قط بحجج واهية ، مؤملين أن يرجعوا إليها " فيما بعد " أو " قبل موتهم " وهذا الاستهتار هو كذلك حماقة ، للأسباب التالية

. 1- لأنه لا ينطبق على المنطق ، فالمستهتر يعتقد بالواجب ويستخف به كأنما الاستخفاف بالواجب يمحوه

. 2- ولأنه نذالة ، فالمستهتر نذل أمام نفسه ، لأنه خلو من الشجاعة في تقديم الواجب على اللذة أو المصلحة الوقتية . ونذل أمام الآخرين ، حينما يخاف تهكم الآخرين عليه واستهزاءهم منه ، ويود أن ينال احترامهم البشري ، فهو يخاف حكم البشر أكثر مما يخاف الله

. 3- ثم أنه بلاهة بالغة ، فأن المستهتر الذي نتكلم عنه يعرف أن الله يغفر للتائب دائماً ، ولكنه لا يعرف أن الله يمهله للتوبة كثيراً أو قليلاً ، فإذا لم يمنحه الله المهلة عرض نفسه لقصاص لا محيص عنه


: الاستهتار النسبي

. بقي علينا أن نتكلم عن الذين مع اعتقادهم بوجوب تمجيد الله يستهترون بمنوال هذا التمجيد ، فهم يعتقدون أن الديانات العديدة الموجودة في الأرض سواء في المقام " وأنها جميعها حسنة " وبناء عليه يرون أن لا باعث يبعث المرء على تغيير ديانته ، وأن الرجل العاقل هو الذي يبقى أميناً لديانة وطنه وديانة آبائه

: هذا النوع من الاستهتار هو

. 1- سخافة ؛ إذ من السخافة في الواقع القول أن جميع الديانات حسنة ، لأن معنى هذا الزعم أن جميع الديانات حقيقية ، وهو زعم مخالف للعقل السليم .ثم أن الديانة لا تتألف فقط من عقائد بل من تعاليم وطقوس وشرائع أيضاً . فهل يمكن التسليم بأنها ديانة حسنة تلك التي تبيح الرق وتعدد الزوجات ن أو التي تجيز تقديم ضحايا بشرية ، أفليس من التجاسر على مجرد مقابلة تلك الديانات بالديانة المسيحية ن سخافة ، ولكن دونك ما هو أنكى من ذلك

. 2- ذلك أن هذا الاستهتار هو إهانة لله لأن المستهتر يفترض أن الله ينظر بعين واحدة إلى الحق والباطل ، وإلى الخير والشر

. 3- ثم أنه خطر على خلاص النفوس ، فإن الذي يرتكب هذه الإهانة يصير مذنباً إلى الله ويشجع المرتطمين في حمأة الخطأ على التقاعس عن محاولة خروجهم منها ، يحملهم على الاعتقاد بأن الطريقة التي يخدمون بها الله في هذه الدنيا لا شأن لها في مصيرهم




(1) راجع قاموس الفيروزابادي ، مادة " دين "

(2) العقليين : وهم الذين يتمسكون بما يسلم به العقل ويرفضون الإيمان؟