على سبيل التمهيد

caravan.gif (1087 bytes)

. من الطبيعي أن يطرأ السؤال على ، أي قارئ لأي من الكتب الدينية - ولا سيما الباحث في علوم الدين - عن كيفية تأليفه ووصوله إلينا كما هو اليوم بين أيدينا . لأنه يريد التأكيد بدون ريب من أنه ، فعلاً من الخالق عز وجل ، وأنه الطريق الأوحد الذي يوصله إلى الإله الحقيقي . فيطمئن بذلك عن صحته ، ويركن إلى محتواه ، ويعمد إلى تنفيذ ما جاء فيه من أوامر وإرشادات ...طالما أن هذا الكتاب الديني ، المقدس ، لا يبتغي إلا سعادته المنشودة ، واتحاده الوثيق بالله العظيم . وإذا كان المسلمون في جوابهم ، يشددون على الوحي الإلهي في تكوين كتابهم - القرآن - فالمسيحيون يتحدثون في آن واحد عن هذا الوحي الإلهي ، والإلهام الإلهي ، في تكوين الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد . فلا بد إذن من أن نبدأ بالحديث عن هذين التعبيرين في دراستنا ، والتي بدأناها بدراسة الدين ، نظراً لأهميتهما

في كتابه " شرح الأصول الخمسة " يقول " القاضي عبد الجبار بن أحمد "( 1 ) : ".. ووجه اتصاله بباب العدل ، هو أنه كلام في أنه تعالى إذا علم أن صلاحنا يتعلق بهذه الشرعيات ، فلا بد من أن يعرفنها لكي لا يكون مخلاً بما هو واجب عليه . ومن العدل أن لا يخل بما هو واجب عليه " .

! ومعنى كلامه أن كون الله عادلاً ، فهذا يلزمه بتبليغ شرائعه للبشر ، أي أن الوحي ضرورة لازمة في ذات الله . وهذا ينقلنا بالضرورة لموضوع هام ، ألا وهو " الوحي " . وقبل أن نبدأ بالكلام عن الوحي يلزمنا بالضرورة أن نجد تعريفاً " للنبي " ، الذي هو " مُبلغ الوحي ( كما سنرى ) ، أي الطرف المتلقي للوحي من الطرف الأول ، الذي هو الله

أولاً .. النبي .. اللفظة العربية :

. تكاد تتفق جميع المصادر اللغوية والكلامية على أن لفظ ( النبي ) فيه - من حيث الاشتقاق اللغوي - احتمالان

. الأول : أن يكون اللفظ مشتقاً من النبأ وهو الخبر ، فهو المنبئ ، وقد سمي به لإنبائه عن الله تعالى ، فهو حينئذ فعيل بمعنى فاعل مهموز اللام . فلفظة ( النبي ) في اللغة مهموز ، ويحتمل أن تكون همزته قد سقطت ( 2 ) أو أنها أبدلت ياء ، ومعروف أن الإبدال والإدغام لغة فاشية عند العرب ( 3 ) . وجمع لفظ ( النبي ) نُباء ، ويقول الجوهري إنه يجمع ( أنبياء ) لأن الهمز لما أبدل وألزم الإبدال جُمع جَمع ما أل لامه حرف العلة ( كعدو ) جمعه أعداء ( 4 )

. الثاني : فهو أن يكون أصل لفظ ( النبي ) غير الهمز ، فهو مأخوذ من ( النبوة أو النباوة ) وهي الارتفاع عن الأرض ( 5 ) ، يقال تنبى فلان إذا ارتفع وعلا ، وهو فعيل من النبوة بمعنى المفعول ، والجمع أنبياء ، وحينئذ يكون معناه الذي يُشرف على سائر الخلق ، والرفيع المنزلة عند الله . ولا يقع فيها تخصيص من جهة اللغة ، لأنها تستعمل في كل رفعة ، ولكنها صارت في الشريعة والتعارف مستعملة في رفعة مخصوصة ، حيث لم يجوز السمع حصولها إلا للرسول

. وقد ترك هذا التباين -المتعلق بالاشتقاق اللغوي - أثره على موقف كل فريق منهما من التعريف الاصطلاحي للنبوة. ذلك أنه يمكن - قياساً على التباين اللغوي بين الفريقين - التمييز بين تعريفين اصطلاحيين للنبوة

.. الأول : يرى فيها هبة واصطفاء ، وهو ما تبناه الأشاعرة .فهي بالتالي هبة من الله ، وليست معنى يعود إلى ذات النبي ولا إلى عرض من أعراضه ، استحقها بالرياضات . وهي بالتالي إنباء وإخبار

.. والثاني : يرى فيها رفعة وارتقاء ، وهو ما تبناه المعتزلة ( 6 ).وهي بالتالي ( صفة لفعل ) ، وليست بهبة واصطفاء ، إذ أنها " رفعة مخصوصة يستحقها الرسول إذا قبل الرسالة وتكفل بأدائها والصبر على عوارضها ، إذاً فهي جزاء على عمل ونتيجة لمجاهدة واصطفاء الله لأنبيائه ، واختصاصه إياهم بالنبوة

: ثانياً : النبي .. اللفظة العبرية

. يبدو أن لفظة ( Nabi) ( النبي ) قادرة في العبرية أيضاً على إحالتنا إلى ما يتعداها ، أو منحنا على الأقل ، فهماً أفضل لمسالة النبوة . ولعل أبرز ما يلفت الانتباه ، هو أن لفظة( Nabi) لم ترد في النصوص التي سبقت العهد القديم ، وهو ما يؤكد ، إذ لا نصادف هذه اللفظة في أرقى وأفضل نص وصل إلى عصرنا من العصور القديمة ، وهو مدونة حمورابي ، حيث تصادفنا لفظة Sibu وتعني الحكيم ، ولفظة Daionu وتعني القاضي ، فإنه يخلو تماماً من ذكر لفظة ( Nabi) . وهو بالتالي ما يقودنا إلى أن هذه اللفظة قد ابتكرت ، وارتبطت بطابع وظيفي Functional من حيث المبدأ ، بحي لم تكن تحمل أدنى إشارة إلى وجود أو عدم وجود أي ( هبات خاصة ) يتمتع بها النبي . وهذا المعنى الأقدم الذي التصق باللفظة والذي يكشف عن النبي بوصفه فاعلاً Active ( أي مبلغاً ورسولاً ) ، وليس بوصفه منفعلاً Passive ( أي مجرد متلق للرسالة Recipient of Vocation (7 ) . وبالرغم من أنه يتعذر تماماً – من الناحية الفعلية – الفصل بين ( البعد الإيجابي ) – أو النبي بوصفه كياناً فاعلاً - ، وبين ( البعد السلبي ) – أو النبي بوصفه كياناً منفعلاً - ، لأنهما متكاملان غير منفصلين ينبغي إدراكهما في وحدتهما الحية التي يحققها جدل السالب والموجب ، إلا أن النبوة اليهودية قد تبلورت – إلى حد كبير – حول المدلول الإيجابي للفظة ( Nabi) . بمعنى الدور الذي يؤديه النبي هو الأهم في تقرير كونه نبياً

. فقد استخدمت لفظة ( Nabi) لأول مرة – في العهد القديم – في عصر إبراهيم الذي استحق أن يلقب ( نبياً ) لدوره ، كشفيع وواسطة بين الله والإنسان ( 8 ) .وكذلك استحق موسى اللقب نفسه للدور الذي قام به في التوسط بين الرب والشعب أثناء حادثة سيناء ( التثنية 5 : 5 ) . وهكذا تبلورت لفظة ( Nabi) بدءاً من الدور الذي يؤديه النبي ، وهو يتمثل أساساً في التوسط بين الله والبشر ، أو التحدث باسم الله إلى البشر أو العكس .فاللفظة العبرية تعني – لغوياً – الناطق بلسان جماعة أو إله ،فهو -إذن- مجرد مبلغ ينوب عن أحدهما عند الآخر

! ولكن ذلك ما كانت تعنيه اللفظة في استخداماتها الأولى فقط ، فإن ثمة تطوراً قد أدى إلى إكساب اللفظة دلالة أوسع بعد ذلك ، حيث أصبحت تُطلق بعد عصر صموئيل على ذلك الشخص الذي كان يُطلق عليه قبل ذلك ( الرائي ) ( 9 ) .وهو أي الرائي – شخص قادر على التنبؤ . حتى أنه – سابقاً – في إسرائيل ، كان يقول الرجل عند ذهابه ليسأل الله ، هلم نذهب إلى الرائي ، لأن النبي اليوم يُدعى سابقاً الرائي ( صموئيل الأول 9 : 9 ) . فالنص يفيد أن الذي أصبح يُسمى اليوم نبياً كان بالأمس رائياً . وفي عصر داود ، والذي مسحه صموئيل ملكاً على إسرائيل ، بدأ التحول بها من نبوة ( إخبار ) إلى نبوة ( رؤيا) . ولقد تبلورت المفاهيم المسيانية Messianic بحسم أثناء عصر السبي اليهودي إلى بابل ، حيث تبلورت – من قسوة النفي – فلسفة في الأمل ، قامت أساساً على الرؤيا ، والتنبؤ بالمخلص الذي يقود شعبه عبر مسالك الخلاص . ومن هنا اتسمت نبوة عصر السبي بطابع تنبؤي خالص ، فحفلت الأسفار المقدسة بنبوءات كثيرة مستوحاة من أماني الشعب وآلامه تأسية له وسلواناً وتنفيساً عن أمه المكبوت . فقد كانت دعامة النبوءات على عمل الرب المستقبلي لكي يخلص شعبه من منفاه ويعود به إلى أرض صهيون . وليس أدل على الأثر الذي أحدثته فترة النفي في النبوة اليهودية من أن الجزء الثاني من سفر إشعياء – والذي كتب بعد السبي – يتميز عن الجزء الأول من ذات السفر – الذي كتب قبل السبي – بما يحتويه من تنبوءات عن قدوم المسيا ( المسيح ) والذي صار أملهم ، وحتى الآن

. وهكذا أيضاً ، وضعنا البحث اللغوي – المتعلق بلفظة ( Nabi) العبرية – في مواجهة نسق نظري متكامل يطور آلياته الداخلية بدءاً من مفهوم ( الدور أو الوظيفة ) ، الذي يبدو مهيمناً على كل تطور في طبيعة النبوة اليهودية

: اللفظة اليونانية 3

. كانت اللفظة اليونانية hrOj???? تطلق ، أولاً ، على الشعراء ، لكنها أصبحت موضعاً للإحتقار فيما بعد ، ثم استردت قيمتها مع فرجيل ، كما أنها تُطلق - على المتنبئ والمعلم أو السيد الذي له اليد الطولى في أي فن أو مهنة . واللفظة في اليونانية ، وكما تُرجمت في السبعينية كلمة " النبي " بالعبرية إلى كلمة hrOj???? وهي تعني " واحد يتكلم عن الله " ، وجذورها مأخوذة من كلمة j???? وتعني بحسب القاموس اليوناني " صوت من السماء "، أما hrO فهي تفيد " نيابة عن " (1. ) . وهكذا تعطينا الترجمة السبعينية المعني الدقيق المشروح جاهزاً في ترجمتها لكلمة نبي = بروفيتس hrOj???? = المتكلم نيابة عن الله . وهذا ما يتطابق وكلام الله لأرميا ( إر 1 : 7 ، 15 : 19 ) . والعهد الجديد استخدم أكثر من اصطلاح : أوحى apokalyto ، أعلن phaneroo ، أوضح photizo ، شرح exegeomai ، أظهر deiknuo-mi ، أو مجرد قال . فالرسل يعلنون kerysso ، ويعلمون didasko هذا الوحي الذي كون ما يسمى الكلمة ، أو الإنجيل ، أو الخبر السار .وهذا يقودنا إلى الملاحظة ، وهي ارتباط اللفظة اليونانية باللفظة العبرية - ليس لفظياً - من حيث المعنى والوظيفة المرتبطة بالنبي

. وهكذا ، يتبين لنا أن النموذج اللغوي ، بما أنه يمثل مدخلاً جيداً للكشف عن الأنساق الفكرية والحضارية القارة خلفه . وقد بينت لنا النماذج اللغوية التي تناولناها في وضعنا أمام أنساق نظرية متكاملة ، تتعدى النموذج اللغوي ذاته ، ولكنها لا تظهر أبداً بعيداً عنه . تبدى ذلك من النظر في اللفظة العربية ( النبي ) التي أظهرت ، مثلاً ، من خلال انتمائها لمجال دلالي خاص عن نسق شامل للعلاقة التي تكشف عنها النبوة بين الإلهي من جهة وبين الإنساني من جهة أخرى . كما أظهر التباين ، بين الأشاعرة والمعتزلة ، المتعلق بالاشتقاق اللغوي للفظة ذاتها ، عن تباين أعمق يتناول الأنساق النظرية المتكاملة لكلا الطرفين . وبالرغم من أن هذا التباين الأعمق ، على مستوى الفكر ، بين الفريقين لم يتيسر إدراكه جيداً إلا من خلال البحث اللغوي ، في حالتنا ، إلا أنه لم يكن من الممكن أبداً تفسير التباين المتعلق بالاشتقاق اللغوي بين الفريقين مع غياب إدراك واضح لهذا التباين الأعمق على مستوى الفكر بينهما . وفي حالة اللفظة العبرية Nabi أظهر البحث اللغوي حقائق هامة تتعلق بوضع النسق الحضاري اليهودي في التاريخ ، فقد كشف التطور الدلالي لللفظة ، الذي ارتبط بمؤثرات حضارية أثرت على تطور الفكر اليهودي

. والآن ، ، يمكنا أن نتقدم خطوة إلى موضوع " الوحي " ، وذلك بعد أن تعرفنا على التطور الدلالي للفظة النبي في اللغات الأساسية للأديان الثلاثة .. اليهودية ، المسيحية ،والإسلام

: وقد اخترنا لبحثنا هذا خطوات ثلاث وهى

. الوحي من منظور إسلامي 1
. الوحي من منظور مسيحي 2
. نظره مقارنة 3

. وهذا حتى ما يكون الخير أعم وأكثر فائدة

الوحي والإلهام في الإسلام 1

أ- مفهوم الوحي ..

يستند الكتاب والمفسرون المسلمون إلى الآيات القرآنية في حديثهم عن مفهوم وكيفية الوحي الإلهي.

.. تعريف الوحي لغة وشرعا

... لغة 1

. إن استعمال كلمة "الوحي" في اللغة، وردت بمعان مختلفة، إلا أن هذه المعاني تدور في الواقع حول معنى الخفاء والسرعة. فيقال : أوحي إليه أي أومأ إليه " ووحيت إليه وأوحيت " أي كلمته بما تخفيه عن غيره ( 11 )" ولكن بسرعة . ووردت في القرآن في صيغة الفعل والمصدر (في 7. آيه منها 64 مكية و6 مدنيه) ودلت على معان مختلفة

... فالوحي يدل على الإشارة السريعة( مريم:11) وعلى الإلهام الفطري للإنسان مثلما أوحى إلى أم موسى( القصص : 7،راجع المائدة :111،القصص : 3، طه : 38) وعلى الإلهام الغريزي للحيوان(النحل:68) والإيماء بالجوارح

. كما جاء الوحي بمعنى وسوسة الشيطان،وتزيينه خواطر الشر للإنسان( الأنعام : 121، 113) وما يلقيه الله إلى الملائكة من أمر ليفعلوه(الأنفال : 12 ، الأنعام : 112) ،واستعملت الكلمة أيضا لتدل على الكتاب أو الرسالة التي توجه لشخص ما لأخذ العلم بأمرها . ثم استعملت فيما بعد لتدل بنوع خاص على ما يرسل الله إلى أنبيائه ( 12 )

.. شرعا 2

. بعد هذا التعريف اللغوي،فقد عرف الوحي شرعا بقولهم أنه "إعلام الله ، رسولا من رسله أو نبيا من أنبيائه ، ما يشاء من كلام أو معنى بطريقة تفيد النبي أو الرسول العلم اليقين القاطع بما أعلمه الله به" ( 13 ) . أو هو " كلام الله تعالى المنزل على نبي من أنبيائه"( 14 ). نلاحظ أن هذا التعريف قد جاء بمعنى "الموحى"(أسم المفعول).ومن مجمل النصوص القرآنية فقد عرفه الأستاذ الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد بأنه" عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من الله بواسطة أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت"( 15 )

: وإذا دققنا في هذه التعاريف فإننا سنلاحظ بأن الوحي قد استجمع عدة عناصر هامة

. انه إعلام من الله يأتي

وإدراك النبي أو الرسول لما يلقى إليه ، دون أن يتدخل في مضمونه معنى ولفظا(إذا كان الوحي لفظا أيضا)

. ( يونس : 15)

. - واليقين القاطع بأن( الموحى ) هو الله

. وان ظاهرة الوحي ناموس إلهي يتلقى به جميع الرسل والأنبياء ما يلقى إليهم من إعلام(النساء:163)

: فهذه العناصر إذن حسب النصوص القرآنية ما يلي

. - الأنبياء والرسل هم من البشر اصطفاهم الله ذاته بالنبوة

. - الوحي هو وسيلة الإلهام الإلهي إن كان للملائكة أم للبشر

. - الرسل والأنبياء يشعرون بوضوح بظاهرة الوحي

- إن ما يلقى به قد يكون كلام ملفوظ ، أي سبق كتابته في لوح محفوظ ، وقد يكون معاني يمكن التصرف بأدائها

. بألفاظ من عند النبي وتبقى إرادة النبي بعيدة عن كل تداخل في مضمون أو لفظ ما يلقى إليه بالوحي (16)

: ب - موضوع الوحي وكيفيته

. ويبدو لنا من هذه التعاريف وتوضيحاتها أمران..موضوع الوحي (أو مضمونه)وكيفيه الوحي

: موضوع الوحي أو مضمونه 1

. يتضح لنا من الكتاب المسلمين أن موضوع أو مضمون الوحي هو كلام الله الموحى إلى محمد(أو الرسل والأنبياء قبله) لكي يبلغه إلى الناس،وان مجموع ما أوحى إليه يؤلف كتاب الله وهو "القرآن"ونفهم من ذلك أن القرآن هو كلمة الله ذاتها أو بمعنى آخر أن الوحي في الإسلام يكون القرآن الذي أصبح موضوع إيمان المسلم فلابد لنا ، إذن من التعرف إليه والإطلاع على مضمونه

: القرآن

إن كلمة "القرآن" لغة قد أعطيت معاني كثيرة، ولكن ما يهمنا هنا هو المعنى الذي استعمل أخيرا في الإسلام،وهو"التلاوة بصوت عال" وبالتعليم يعنى النص المقدس الذي يتلى، ويقال أيضا"عمل الجمع للآيات التي أوحيت إلى محمد.." ثم أصبحت تدل على مجموع"الكلام المعجز المنزل على محمد، المكتوب في المصاحف،والمنقول عنه بالتواتر المتعبد بتلاوته" ( 17 ).وقد أطلق عليه أسماء عديدة، فسمى بـ " الكتاب والذكر والتنزيل والمصحف .."

. وكان بدء التنزيل في ليلة القدر(القدر : 1) من شهر رمضان (الدخان: 3، البقرة: 185) وكان محمد على رأس الأربعين من عمره. وظل القرآن ينزل على محمد نجوما معنىً ومبنىً خلال ثلاثة وعشرين عاما ، قضى منها ثلاث عشرة سنة في مكة وعشر سنين في المدينة ، وكان يتم ذلك حسب الحاجة متدرجا مع الوقائع والأحداث (18)

. وقسم القرآن إلى سور مكية وسور مدنية، حسب النزول مكانا وزمانا ،وحسب الأشخاص الموجه إليهم الكلام .أما الاصطلاح المشهور فيقول:"المكي ما نزل قبل هجرة الرسول إلى المدينة وان كان نزوله بغير مكة، والمدني ما نزل بعد الهجرة وان كان بمكة"ويلخص لنا أحمد أمين قصة الوحي بقوله:"ننزل القرآن متقطعا خلال 23 سنة .منه ما نزل بمكة ويبلغ ثلثي القرآن،ومنه ما نزل بالمدينة ويبلغ نحو الثلث ...واقتصرت الآيات المكية على أسس الدين ودعوة الناس...أما ما يخص القوانين التشريعية الخاصة بالأحوال المدنية والإجرامية والأحوال الشخصية فقد أضيفت بعد هجرة النبي إلى المدينة ( 19 )

. ولهذا القرآن نموذج في السماء في مصحف خفي( الواقعة:77)،مكتوب على صفحات "طاهرة نبيلة عالية،كتبت بأيدي كتاب شرفاء عادلين .ويتألف القرآن من 114 سورة. أما الآيات فيتراوح عددها بين 62.. و 6226 آية حسب طريقة التعداد ،وقد رتبت السور حسب الطول وليس حسب نزولها، فالسورة الثانية(البقرة) مثلا مؤلفة من 286 آية بينما نجد في آخر الكتاب سورا تتراوح آياتها بين 3و6 آيات فقط ( 2. )

: مضمون القرآن

... إن من يقرأ القرآن بإمعان ، يتضح له أنه يتحدث عن أمور عديدة ،تتعلق بجميع نواحي الحياة العقائدية والروحية والأخلاقية والاجتماعية والقوانين المدنية والسياسية.

: فالآيات التي توجه حياة الإنسان الروحية تتحدث قبل كل شيء عن الأيمان

. - بالله ووحدانيته : " لا اله إلا الله" وهذه العبارة تؤلف الجزء الأول من الشهادة في الدين الإسلامي وتشدد على عظمة وسمو الله الواحد

. - برسالة محمد ونبوته : "محمد رسول الله "وهذه تشكل الجزء الثاني من الشهادة

. - بالملائكة والجن : وقد خرج منهم إبليس وأعوانه

. - بالحياة الآخرة : القيامة والدينونة والسماء والأرض وجهنم والقدر(خيره وشره)

- بجميع الأنبياء والرسل الذين سبقوا محمد ،وبكتبهم أيضا.

: ويجد القارئ أيضا آيات تحدثنا عن الشعائر الدينية التي تقوم على

. - الشهادة التي يجب إعلانها بصدق وصراحة وهى : لا اله إلا الله محمد رسول الله

. - الصلاة : خمس مرات في اليوم: صلاة الفجر ،والظهر ،والعصر ،والمغرب ،والعشاء

. - الصوم في شهر رمضان (البقرة: 183 185 )

. - الزكاة

. - الحج إلى مكة مرة على الأقل للذين تسمح لهم ظروفهم إمكانياتهم

. وهذه هي الأركان الخمسة للإسلام التي يتحتم على كل من يعتبر نفسه مسلما تتميمها بأيمان وخشوع

ونجد قسما آخر يحدثنا عن التاريخ المقدس :عن الشعب اليهودي وحياة الأنبياء ....الخ

. وأخيرا ،هناك قسم يعطينا دستورا لحياة الإنسان الذي يسعى إلى خلاصه ودخول الجنة . فكل هذه الأمور تجعل الإسلام دينا ودولة معا ،ويعتبر من يفصل بينهما خارجا عن الدين الإسلامي. لذا نسمع المسلمين يصرحون بأن القرآن هو" خاتمة النبوة" لأنه يحوى على كل ما يحتاج إليه الإنسان ليسير سيرا حسنا في هذه الحياة ، ويعتقدون بأنه الكتاب الأوحد الذي لم يصل إليه التحريف كما حصل لبقية الكتب المقدسة السابقة ، لأن دين الله واحد وكتاب الله واحد

. واستنادا إلى هذا المحتوى ، نستطيع أن نختصر العقيدة الإسلامية على الشكل الذي يذكرنا بقانون الأيمان المسيحي: "أؤمن بالله الواحد وبملائكته ورسله وأنبيائه وكتبه واليوم الآخر والقدر والقيامة بعد الموت وبكل ما جاء في القرآن الكريم "

: كيفية الوحي 2

. تختصر آية قرآنية كيفية اتصال الله بالإنسان وهى :"وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ،أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بأذنه ما يشاء انه على حكيم "(الشورى: 51) فاستنادا إلى الآيات القرآنية والحديث استخلص المسلمون أنواع الوحي المختلفة ، وميزوا طرق الوحي فمنها ما كان بغير واسطة ومنها ما كان بواسطة

: - الوحي بغير واسطة

. يتم الوحي بغير واسطة بقذف الله الكلام أو المعاني في القلب قذفا مباشرا يفيد النبي علما قطعيا ضروريا بأن ذلك من عند الله تعالى . وذلك إن كان الوحي في المنام أو اليقظة وهذا ما تم للملائكة ، ولإبراهيم في الرؤيا، أو لمحمد يقظة في ليلة الإسراء ( 21 )

: - الوحي بواسطة

. ويتم ذلك كما تذكر الآية " من وراء حجاب " أي أن الله يسمع كلامه دون أن يراه السامع وهذا ما حدث لموسى في الطور . أو أن يتم بإرسال ملاك ترى صورته المعينة ، أو يتراءى للرسول بشكل رجل ، ويسمع كلامه ، فيوحي إلى الرسول ما أمره الله أن يوحيه إليه...وهذا ما يحدث لأكثر الأنبياء ، وكما حدث خصوصا لمحمد ( 22 )

ج - نزول الوحي على محمد:

. يستند الكتاب المسلمون إلى القرآن والحديث ليصفوا لنا تطور نفسية محمد أمام الوحي الإلهي .ويعتقدون بأن الله اتبع عدة مراحل في تهيئة هذه النفسية حتى يستطيع قبول هذا الوحي. فلقد جاء في الحديث على لسان عائشة زوجته:"أول ما بدء به رسول الله ..من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" ( 23 ).ويبدو ، حسب رأي المسلمين ، أن محمدا كان في الأربعين من عمره عندما كلمه جبريل لأول مرة في غار حراء فقال له: "أقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم ،الذي علم بالقلم ،علم الإنسان ما لم يعلم"( العلق:1-5)

. وفتر الوحي الإلهي بعد ذلك خلال ثلاث سنوات . فأصاب محمد الحزن الشديد ،لكنه كان يزداد شوقا للوحي ،ولكن الله أنزل عليه الآيات التالية في سورة المدثر:"يا أيها المدثر ،قم فأنذر ،وربك فكبر ،وثيابك فطهر،والرجز فأهجر، ولا تمنن تستكثر، ولربك فأصبر"(المدثر: 1-7). ثم هدئ روعه، فأصبح في استعداد لملاقاة الملاك جبرائيل الذي كان صوته يشبه صلصلة الجرس، كما ورد في الحديث قوله:"أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده على فيفصم عنى (ينكشف، ينجلي) وقد وعيت عنه ما قال .وأحيانا يتمثل لي الملاك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول ".ثم حمى الوحي وتتابع خلال عشرين سنة في أمكنة مختلفة

أما حالته لدى نزول الوحي ، فقد وصفته عائشة بقولها:"ولقد رأيته ينزل علية الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ،وان جبينه ليتفصد عرقا" .كما كان يشعر أحيانا بثقل كبير وكان محمد في جميع الحالات واعيا لا يخلط أبدا " بين شخصيته الإنسانية المأمورة المتلقية وشخصية الوحي الآمرة المتعالية " ( 24 ). ويتعلم بدقة ما يلقنه الملاك ثم يحمل الوحي إلى قومه دون أن يكون له أي تدخل في مضمون الوحي وألفاظه(يونس:15- 16، الأنعام: 5.)

الإلهام في الإسلام 2

. لقد أعطى محمد عبدة التحديد التالي للإلهام : "الإلهام وجدان تستيقنه النفس وتنساق إلى ما يطلب على غير شعور منها من أين يأتي وهو أشبه بوجدان الجوع والحزن والسرور" ( 25 ). بينما يقول صبحي الصالح إنه : "وجدان تعرفه النفس معرفة دون يقين ، وتنساق إليه من غير شعور بمصدرة الحقيقي فيدخل فيه ذوق المتذوقين ووجد المتواجدين، بل تدخل فيه أيضا أسطورة ألهه الشعر عند اليونان ،وأسطورة شياطين الشعر عند العرب الجاهليين" ( 26 )

. يبدو لنا أن الخلاف بين التحديدين يقوم على حقيقة اليقين في المعرفة . فما يقره محمد عبده يرفضه الصالح ، ولكنهما متفقان على جهل المصدر والانسياق إلى تتميم العمل . وإذا قارنا تحديد الإلهام بتحديد الوحي يتبين لنا بأن الفرق بينهما يقوم على اليقين في معرفة المصدر فالنبي الذي يتلقى الوحي يعي وعيا أكيدا أنه صادر عن الله تعالى ، بينما لا ندرى أن الإلهام قد أتى من عند الله

. لقد رأينا ما ورد في الحديث عن الوحي يقول فيه محمد :" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده...وقد وعيت ما قال . وأحيانا يتمثل لي ملاك رجلا ...فأعي ما يقول "فهذا الحديث يؤكد وعى محمد أن ما يتلقاه هو من الله

. وإذا عدنا إلى الآية القرآنية(الشورى :51) القائلة أن الله يستطيع أن يكلم الإنسان بطريقتين تأكدنا من أن الله قد خص الوحي بأشخاص يختارهم هو بنفسه وهذا ما حصل لمحمد ، كما يقول المسلمون ، فالقرآن إذن هو الوحي بالذات نقله محمد وأمر بتدوينه تحت إدارته وأشرافه فالمبنى والمعنى من الله .فقد أملى علية كلمة كلمة، فهي إملاء إلهيه قام بها الله وجبريل ولهذا السبب اعتبر القرآن كلام الله ذاته . أما الإلهام فيمكن منحة للأنبياء والأولياء معا. وقد وعى محمدا هذا التمييز فكان يفرق بوضوح بين الوحي الذي ينزل عليه وبين أحاديثه الخاصة التي يعبر عنها بإلهام من الله وهذا يعنى أن المعنى في أقوال الحديث هو من الله بينما المبنى فهو من محمد ( 27 )

: - جمع القرآن وكتابته

. يعتبر المسلمين بالإجماع ، كما بدا لنا ذلك بوضوح من دراستنا للوحي ، أن القرآن يحتوى على الوحي كله ، وأن الله هو صاحبه ، ولهذا السبب اعتبر القرآن خاتمة الوحي الإلهي ، كما اعتبر محمد خاتم الأنبياء . ولقد أملى عليه حرفيا ،وطلب منه أن ينذر ويبشر وذلك خلال 23 سنة كما ذكرنا أي حتى وفاته . ويقول المسلمين إن هذا الوحي هو هبة من الله وليس بأمر مكتسب باجتهاد شخصي أو معطى بالفطرة. والبرهان على ذلك هو فتور الوحي خلال ثلاث سنوات ، لم يستطع محمد عمل شيء خلالها ، بل كان ينتظر عودة الملاك جبريل من جديد

! وعندما عاد الوحي إلى محمد بعد هذا الانقطاع بدأ يحفظ ويعلم ما يتلقاه من الملاك فكثر رويدا رويدا عدد الحفاظ. وتكونت في عصر محمد مدرسه لتحفيظ القرآن وتدارسه. إلا أن محمدا علاوة على ذلك اتخذ كتابا بتدوين الوحي ، وكان يسهر بنفسه على ضبط النقل وحفظة وترتيب الآيات كما كان جبريل يوقفه. مع أن هذا الكلام لا يتوافق مع روايات الجمع المتناثرة بين كتاب علوم القرآن ، والتي تحكي لنا تعدد جمعه وتدوينه ،وبخاصة من صدور الرجال بعد موت الكثير من الحفظة في حروب الردة ، على عهد أبي بكر

. وكان القرآن يكتب على الرقاع واللخاف والعسب والأكتاف والأديم ، وتم تدوين القرآن في عهد محمد وكان يحفظ عنده كل ما كان يكتب ، إلا أنه لم يجمع في مصحف واحد قبل وفاته ، بل تم ذلك بعد على يد من كان يحيط به من الصحابة ( 28 )

. وبعد وفاة محمد بمدة وجيزة،رأى عمر بن الخطاب أن عددا كبيرا من حفاظ القرآن قد استشهدوا خلال حروب الردة في موقعة اليمامة ،سنة اثنتي عشرة للهجرة(قيل بلغ عددهم 7. شخصا من الصحابة)،فخاف على فقدان قسم كبير من القرآن إذا ما توفي عددا آخر . فجاء أبا بكر،أول خليفة لمحمد من الخلفاء الراشدين،ووالد زوجته عائشة، وأقترح عليه جمع القرآن ،وبعد نقاش وتردد أقتنع من الفكرة ودعا زيد بن ثابت أقرب الصحابة لمحمد والذي يعمل بأمره.وطلب منه القيام بهذه المهمة الصعبة التي جعلته يقول :"فو الله لو كلفوني نقل جبل ما كان أثقل على مما أمرني به من جمع القرآن"

. وضم زيد إليه بعض الصحابة،وباشر بجمع القرآن من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وصل أخيرا إلى تكوين مجموعات أكثر توسعا أو أكثر ارتباطا وتمسكا من الصفات الفردية. ثم أودعت الصحف عند أبى بكر الصديق الذي احتفظ بها باعتناء كبير حتى توفاه الله ،فصارت من بعده إلى عمر بن الخطاب الذي أصبح الخليفة الثاني، وظلت عنده حتى وفاته، فانتقلت إلى ابنته حفصة، زوجة محمد

. ولكن هذه الحالة لم تمنع من ظهور كتابات أخرى مما أدت إلى اختلافات في القراءة ذات أهمية لا تنكر

. فأضطر عثمان بن عفان ، الخليفة الثالث وصهر محمد (تزوج من أم كلثوم ابنة محمد) ،أن يعمد إلى تفادى هذه الخلافات ، وتوحيد النص. وحدث ذلك بعد أن أطلعه حذيفة بن اليمان على هذه الخلافات .فدعا من جديد فريقا من بنى قريش مؤلفا من عبد الله بن الزبير ،وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وعلى رأسهم زيد بن ثابت. وبعد أن أحضر الصحف الموجودة عند حفصة أمرهم بالعمل قائلا لرهط القرشيين"إذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم" ( 29 )

. فجمعوا القرآن كله في المصحف الرسمي ، ونقل إلى عدة نسخ ، وزعها عثمان على المراكز الإسلامية الرئيسية مثل الكوفة والشام والبصره، واحتفظ بواحدة عنده بالمدينة(يثرب).وأصبحت هذه النسخ المرجع الوحيد للمسلمين. ويقال أن جميع النسخ السابقة قد أحرقت ( 3. )

. ويشمل المصحف على 114 سورة لكنها خالية من النقط والشكل ومن أسماء السور والفواصل اقتداء بأبي بكر فان صفحته كانت مجردة من كل ذلك

. وحفاظا على صحة القراءة ، أرسل مع كل نسخة حافظا يوافق قراءته ، فكان زيد بن ثابت مقرئ المصحف المدني ،وعبد الله بن السائب مقرئ المكي،والمغيرة بن شهاب مقرئ الشامي واو عبد الرحمن السلمي مقرئ الكوفي،وعامر بن عبد القيس مقرئ البصرة.وهكذا تكون وتثبت القرآن كمصحف بعد وفاة محمد بنصف قرن تقريبا. ولم يعتبر المسلمون أن المدونين كانوا يجمعونه بإلهام(في المعنى المسيحي كما سنرى)وليس هو عمل بشرى،فلم يكن عملهم إلا تثبيت السور في مصحف واحد سمى ( مصحف عثمان)

. وفي القرن الثامن الميلادي، وأواخر القرن الهجري الأول، بدأت تدخل التحسينات في الكلمات ووضعت الحركات والنقط لرفع اللبس عن قراءة القرآن ،وتوضيح الأحرف، وتم ذلك في خلافة عبد الملك(65 هـ).والحجاج بن يوسف الثقفي(95 هـ)حاكم العراق فأصبح النص القرآني أوضح قراءة وأيسر على الفهم. وهكذا دخلت التحسينات تدريجيا على النص القرآني إلى أن بلغ ذروة الجمال في نهاية القرن الثالث الهجري. وعندما أطل القرن العشرون الميلادي ظهرت في القاهرة طبعة أنيقة جميلة دقيقة للقرآن سنه 1342/ 1923 تحت أشراف مشيخة الأزهر في زمن الملك فؤاد الأول.وقد ضبط حسب رواية حفص لقراءة عاصم، ورقمت الآيات بشكل أدق،فأنتشر القرآن في الأوساط الإسلامية،وأصبح أكثر تداولا،أو تكاد تكون هذه النسخة وحدها المتداولة ( 31 )

: - الحديث والسنة

. سنكتفي بإعطاء لمحة خاطفة عن "الحديث" للتعرف إليه ولمعرفة قيمته بالنسبة للقرآن،لأن موضوعنا لا يسمح لنا بأن نستفيض لئلا نشغل القارئ عن جوهر بحثنا الأساسي،وسنبدأ بتحديده ومكانته ثم بأنواعه وأشهر الذين دونوه ويعول عليهم المسلمون في أبحاثهم

: تحديده ومكانته 1

. تطلق كلمة " الحديث " على مجموعة الأقوال والأفعال أو التقارير أو الصفات التي نطق بها محمد أو عملها أو أتصف بها أو أقر قولا أو فعلا عن أحد الصحابة سواء كان ذلك في حضرته أم في غيبته ثم بلغه ( 32 )

. ورغم أن كلمة "السنة" أصبحت مرادفة ومساوية لكلمة الحديث إلا أننا نجد فروقا بينهما لو رددنا الكلمتين إلى أصولهما التاريخية . فالسنة -تبعا لمعناها اللغوي - تطلق على الطريقة الدينية التي سلكها محمد في سيرته ( 33 ). وهنا يتضح لنا أنها خاصة بأعمال محمد ،أما الحديث فهو أكثر شمولا لأنه يخص قوله وفعله...ولكن تبين للنقاد مع الزمن أن موضوع الحديث لا يغاير موضوع السنة ( 34 ) التي راح مفهومها يأخذ شكلا سياسيا واجتماعيا إلى جانب الشكل الديني الأساسي

. وأنهما يدوران حول محور واحد أي أنهما ينتهيان إلى محمد في أقواله المؤيدة لأعماله وفي أعماله المؤيدة لأقوله .وبذلك انتهى أكثر المحدثين إلى القول "أنهما مترادفان"( 35 ).وأحتل الحديث المركز الثاني بعد القرآن مباشرة في حياة المسلم

: أنواع الحديث 2

. ينقسم الحديث إلى ....حديث قدسي وحديث نبوي

: الحديث القدسي

. إن الحديث القدسي ويسمى أيضا بالإلهي والرباني "هو ما يرويه محمد على أنه كلام الله " والهدف هو الكشف عن عظمة الله وتبيان رحمته ودفق عطاياه ( 36 )

. والفرق بين القرآن والحديث القدسي هو أن الأول وحي "معنى ولفظا" ،قد تحدى به العرب ،فهو معجزة خالدة إلى يوم الدين، ومقول بالتواتر كتابة وحفظا وترتيلا. وهو قطعي الثبوت، ومتعبد بتلاوته، يتلى في الصلاة ولا يستطيع أحد أن يلمسه أو يتلوه إلا بعد وضوئه ، وإذا رفض المسلم الأيمان بالقرآن يعتبر كافرا

. أما الحديث القدسي فالمعنى هو من عند الله ، لكن لفظه هو من عند محمد، إذن فهو وحي بالمعنى دون اللفظ ، ولم يقع به التحدي والأعجاز ، ونزوله ليس ضروريا أن يقوم به الملاك، وإنما تم عن طريق الإلهام أو المنام (الحلم).وأكثر أخباره آحاد فهي ظنيه الثبوت.وقد يكون صحيحا ،وقد يكون ضعيفا .ولا يتلى وقت الصلاة، وليس هناك ما يمنع لمسه بدون وضوء ،وإذا رفض المسلم الحديث القدسي ، فليس ضرورة اعتباره كافرا ( 37 )

: (الحديث النبوي )

. إن الحديث النبوي ينقل لنا أقوال محمد في الحياة الاجتماعية والعدالة والأخلاق والإنذارات ويقسم إلى قسمين : التوقيفي والتوفيقي

. - القسم التوقيفي : هو الذي تلقى محمد مضمونه من الوحي فبينه للناس بكلامه وهذا القسم وان كان مضمونه منسوبا إلى الله فانه من حيث هو كلام الله- حري بأن ينسب إلى الرسول ...لأن الكلام إنما ينسب إلى قائله وان كان ما فيه من المعنى قد تلقاه عن غيره

. - القسم التوفيقي : هو ما استنبطه محمد من فهمه للقرآن لأنه مبين له أو استنبطه بالتأمل والاجتهاد. وهذا القسم الاستنباطي الاجتهادي يقره الوحي إذا كان صوابا، وإذا وقع فيه خطأ جزئي نزل الوحي بما فبه الصواب . وليس هذا القسم كلام الله قطعا( مثلا أسرى بدر: فقد أخذ محمد برأي أبى بكر وقبل منهم الفداء فنزل القرآن معاتبا" ما كان لنبي أن يكون له أسرى "(الأنفال: 167)

: ويتميز الحديث النبوي عن القدسي بما يلي

. يقطع المسلمون في الحديث القدسي بنزول معناه من عند الله لورود النص الشرعي على نسبته إلى الله يقول محمد :" قال الله تعالى أو يقول الله تعالى " بينما في الأحاديث النبوية لم يرد فيها مثل هذه التعابير ويجوز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلما بالوحي ( أي توقيفيا ) وان يكون مستنبطا بالاجتهاد ( أي توفيقيا ) لذا سموا الكل نبويا وقوفا بالتسمية عند الحد المقطوع به

: تدوين الحديث 3

. بدأ المسلمون بتدوين الحديث منذ القرن الأول الهجري ، وذلك منذ عهد محمد . لكن لم يتم ذلك كتدوين القرآن إذ بقى المسلمون يتداولونه شفاهيا ( 38 ) . ونذكر منها :" الصحيفة الصادقة" لعبد الله بن عمرو بن العاص (65 هـ ) وقد اشتملت على ألف حديث، وكذلك صحف أبى هريرة الصحابي ( 58 هـ ) إلا أنه لم يبق منها سوى صحيفة ، وتدعى "بالصحيفة الصحيحة " رواها عنه تلميذه التابعي همام بن منبه ( ت 101 هـ ) فنسبت إليه ( 39 )

. ثم قام عدد كبير من الكتاب ، وراحوا يبحثون بدقة عن مصادر الأحاديث غير عابثين بالمشقات وصعوبات الرحلات الطويلة ، فكثرت مصنفات الحديث إلا أنها لم تصل جميعها إلينا ،ولا يزال عدد كبير منها مخطوطا بالمكتبات العالمية ،كما أن الكتب صنفت في أعصر مختلفة ، وهذا ما دفع بالمسلمين إلى أن يقسموها إلى طبقات مختلفة نسبة إلى الصحة والحسن والضعف والهزل . فكان منها الصحاح والمسانيد والمعاجم والمستدركات والمستخرجات والأجزاء

. ولكن المسلمون يعولون اليوم على صحيحي البخاري ومسلم ،وسنن الترمذي وأبى داود والنسائي وابن ماجة. إلا أن الصحيحين يتصدرانها جميعا

. وهناك موطأ الأمام أنس بن أنس ، وقد استغرق تأليفه أربعين سنة ، عرضه خلالها على سبعين من فقهاء المدينة ( ت 179 هـ ).وتحوى هذه المجموعات معلومات تتعلق بالسير والتفاسير القرآنية علاوة على المعلومات الدينية ،والحقوقية، والتجارية ،أو الآداب الاجتماعية والأدبية العامة والخاصة التي تؤلف أهداف السنن الرئيسية. فهي تعطينا إذن تفاصيل عديدة تنظم مجالات الحياة في هذه الدنيا ،وتهيئ المؤمن للحياة الآتية

: أما أهل الشيعة فلهم أحاديث ترفع إلى على بن أبى طالب وأهمها

. الكافي في علم الدين لأبى محمد بن يعقوب الكليبي ( ت 328 هـ/ 939 م ) 1
. كتاب من لم يحضره الفقيه لمحمد بن بابويه القمي ( ت 381 هـ / 991 م ) 2
. تهذيب الأحكام لأبى جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 49. هـ/ 1062 م) 3
. الاستبصار فيما اختلف فيه الأخيار (وهو مختار من سابقة لمحمد الطوسي ) 4
نهج البلاغة ( الأقوال منسوبة إلى على ) لعلى بن طاهر الشريف المرتضى (436ه / 1044م ) أو 5

. لأخيه الشريف المرتضى البغدادي

. إن هذه الكتب - القرآن والحديث - هي التي يعتم عليها المسلمون ليعرضوا موضوع إيمانهم ، وبخاصة القرآن الذي يعتبر العمدة عندهم . ولأنه هو بالذات وحي الله لهم ، عن طريق محمد ، فقد تحمس الكثير منهم لترجمته إلى باقي اللغات ، إلا أن البعض منهم اعترض على إمكانية ترجمته ، وكانت المجادلات والمناقشات والتي أدت إلى إمكانية ترجمة معاني القرآن ، وليس ترجمة القرآن . وكان حجة البعض منهم وقوع اللحن في القرآن ، وهنا نعرض لبعض من كتاباتهم ، وهنا نكتفي بابن الخطيب ، في كتابه الفرقان ، نموذجاً

لحن الكتاب في المصحف

رأى عائشة في خطأ الكتاب 1

وقد سئلت عائشة رضى الله عنها عن اللحن في قوله تعالى :" إن هذان لساحران "( سورة طه : 63 )

. القاعدة العربية" إن هذين لساحران" على لغة من يجرى المثنى بالألف في أحواله الثلاث .وذهب آخرون إلى أن إبدال حرف في الكتابة مكان حرف آخر جائز.مثل " الصلوة،والزكوة ،والحيوة" بالواو مكان الألف ، وفي الجميع نظر. وهو تمحل ظاهر، وتكلف لا داعي له .). وقوله عز من قائل :"والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة".( سورة النساء.آية 162 القاعدة العربية" والمقيمون الصلاة والمؤتون الزكاة" بالرفع في الحالتين .وقرأ بها سعيد بن جبير رضى الله تعالى عنه. وكان يقول:هو من لحن الكتاب.).جل وعز:"إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون " (سورة المائدة. آية 69 القاعدة العربية "والصابئين").فقالت :هذا من عمل الكتاب ، أخطأوا في الكتاب

. وقد ورد هذا الحديث بمعناه بإسناد صحيح على شرط الشيخين

. وأخرج الأمام أحمد رضى الله تعالى عنه في مسنده، عن أبى خلف مولى بنى جمح ،أنه دخل على عائشة رضوان الله تعالى عنها فقال: جئت أسألك عن آية في كتاب الله تعالى ،كيف كان يقرؤها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ قالت: أية آية؟ قال :"الذين يأتون ما أتوا" أو " الذين يؤتون ما آتوا" (سورة المؤمنون. آية 6. وتمامها " والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون" وهى القراءة المشهورة على غير رأى عائشة رضى الله تعالى عبها. ومعنى هذه القراءة: يعطون ما أعطوا من الزكاة والصدقات، وقلوبهم خائفة ألا تقبل منهم صدقاتهم لتقصيرهم في أدائها. ومعنى القراءة التي أقرتها عائشة وجمهور الصحابة رضوان الله تعالى عليهم " الذين يأتون ما أتوا" من الذنوب والآثام " قلوبهم وجلة" خائفة مشفقة ل " أنهم إلى ربهم راجعون " فيعاقبهم على ما قدموا وفرطوا .ولم يورد هذه القراءة أحد من القراء ،مع وثوق روايتها عن عائشة رضى الله تعالى عنها، وهى من هي من قربها ممن نزل عليه القرآن صلى الله تعالى عليه وسلم ).؟ قالت أيتها أحب إليك ؟ قال : والذي نفسي بيده لاحداهما أحب إلى من الدنيا جميعا. قالت: أيتها؟ قال : " الذين يأتون ما أتوا" . فقالت : أشهد أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كذاك كان يقرؤها ، وكذلك أنزلت، ولكن الهجاء حرف

: رأى سعيد بن جبير في خطأ الكتاب 2

: وعن سعيد بن جبير ، قال :في القرآن أربعة أحرف لحن

. " والصابئون " (سورة المائدة.آية 69 وأولها :"إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى" يريد بذلك أنه يجب لغة أن تكون " والصابئين " بالنصب. وتعليلهم في الرفع أن " الذين آمنوا " قبل دخول "إن " عليها : مبتدأ مرفوع. "والصابئون"معطوف على محل اسم "إن" وهو تعليل عقيم. والأعجب من هذا أن هذه الآية بنصها قد وردت في سورة الحج .آيه 17 بالنصب، فما الذي أدى إلى نصبها في الحج ورفعها في المائدة؟ وقد جاءت في سورة البقرة .آية 62 بالنصب أيضا ). "والمقيمين " ( سورة النساء .آية 162، وأولها :" لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر " يريد بذلك أنه يجب لغة أن تكون " والمقيمون " بالرفع . وتعليلهم في النصب أنه على الاختصاص. أي وأمدح المقيمين. وهو تعليل سقيم.) و " فأصدق وأكن من الصالحين " (سورة المنافقون.آية 1.، وأولها: " وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين" يريد بذلك أنه يجب لغة أن تكون "فأصدق وأكون من الصالحين"وقرأ بها أبو عمرو.).و" إن هذان لساحران " (سورة طه .آية63، يريد بذلك أنه يجب لغة أن تقرأ" إن هذين لساحران ". وقرأ بها أبو عمرو ويعقوب.)

: رأى أبان بن عثمان في خطأ الكتاب 3

وقد سئل أبان بن عثمان : كيف صارت " لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة " ( سورة النساء.آية162 يريد بذلك أنه يجب لغة أن تكون " والمقيمون "بالرفع. وتعليلهم في النصب أنه على الاختصاص،أي وأمدح المقيمين، وهو تعليل سقيم كما قدمنا.) ما بين يديها وما خلفها رفع، وهى نصب؟

قال :من قبل الكاتب، كتب ما قبلها، ثم سأل المملى :ما أكتب؟

. قال : اكتب المقيمين الصلاة. فكتب ما قيل له، لا ما يجب عربية، ويتعين قراءة

: رأى ابن عباس في خطأ الكتاب 4

. وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما في قوله تعالى : " حتى تستأنسوا وتسلموا " قال : إنما خطأ من الكاتب :" حتى تستأذنوا وتسلموا " ( سورة النور .آية 27، والقراءة المشهورة "حتى تستأنسوا " على خلاف رأى ابن عباس. ولم يقرأ قارئ إطلاقا : " حتى تستأذنوا ")

الوحي والإلهام في المسيحية 2

. من الأفضل أن نبدأ بدراسة الوحي والإلهام منفردين الواحد تلو الآخر قبل الحديث عن العلاقة بينهما، لأننا سوف ندرك بذلك إدراكا دقيقا أهمية دورها في تكوين هذا الكتاب المقدس .كما يجب علينا أن نلفت الإنتباه إلى ما سبق ووصلنا إليه من أن الوحي المسيحي ، ما هو إلا امتداد ، وتكميل للوحي اليهودي . فما نقوله هنا عن الوحي المسيحي ، يصح قوله عن الوحي اليهودي ، إلا أن الوحي المسيحي يمتاز عن سابقه بالتحقيق .وهذا ما سنبينه ببعض التفصيل في نهاية بحثنا

: الوحي الإلهي

1

: -التحديد

. إذا وضعنا أنفسنا داخل إطار الكتاب المقدس فسوف نرى أن الوحي الإلهي في معناه الحقيقي يتصف بميزة حدث تاريخي، ميزة الحوار. انه يدخل إذن في إطار تاريخي معين تعينا دقيقا

. أ- لغة : إن دراسة معنى الوحي لغة تساعدنا كثيرا على فهم " المعنى الكتابي " فكلمة " أوحى " تعنى كشف الغطاء أو القناع، أو بعبارة أوضح ، تبيان ما كان خفيا ، فعرف به

. ب- كتابيا : وإذا أخذنا كلمة "أوحى" بمعناها الكتابي نفهم أن "أوحى الله إليه بكذا" تعنى " ميزه الخفاء وعدم رؤية الله...كل ذلك قد انكشف وأصبح معروفا ".أو بتعبير آخر، إن الله أزاح الستار الذي يفصله عن الإنسان ، وحطم الصمت وجاءه ليعرفه بنفسه

: وهذا القول يقودنا إلى أن الوحي الإلهي يتضمن شيئين يعبر عنهما معا

. - القيام بالوحي كعمل ، وإمكان حدوثه ، ويأتي هنا على وزن اسم الفاعل

. - ما أوحى به نتيجة لهذا العمل ، ويأتي هنا على وزن اسم المفعول

. وبعبارة أخرى ؛ إن الوحي يشير في آن واحد إلى من يوحي إليه مضمونه. فالوحي إذن يتضمن معنى "الفاعلية " أي أنه " العمل الذي يكشف به الله للناس عن تدبيره للخلاص ومعرفتهم بنفسه" ويتضمن أيضا معنى المفعولية أو الموضوعي أي " مضمون ما يوحي " وباستطاعتنا أن نعطى الوحي التحديد التالي ونقول أن الوحي هو " العمل الإلهي الذي يكشف لنا عن الحقائق الفوطبيعية (أي الفائقة الطبيعة)التي حسن لدى الله أن يعرفنا بها موضحا في الوقت نفسه عددا ما من الحقائق الطبيعية المتعلقة تقريبا بالحقائق الأولى "

: كيفية الوحي

2

: لقد استخدم الله طرقا عديدة ليبلغ بها الإنسان الوحي. وسنعرضها الآن تباعا

. أ- نلاحظ أن الله بدأ أولا يستخدم الوسائل التي كانت معروفة ومتداولة لدى بقية الشعوب المحيطة بإسرائيل والمجاورة لها . وكانت هذه الوسائل تتكيف مع طريقة الشعب الإسرائيلي في تفكيره وحياته مثل:" العرافة والفأل والحلم، والاستشارة بالقرعة، والنجامة....." وتسمى بالتقنيات القديمة

. ولكن "العهد القديم "قد نزهها من ارتباطاتها المشركة والسحرية. ولنأخذ على سبيل المثال استشارة الكاهن ألعازر لله فيما يتعلق بيشوع (عدد 27 : 21).وتفسير يوسف الصديق للأحلام ( تكوين 4.- 41)..ثم بدءوا فيما بعد يميزون تدريجيا بين تلك التي يرسلها الله إلى الأنبياء الصادقين(عدد12: 6، تثنية 13: 1-5) وتلك التي يستخدمها العرافون المحترفون (لاويين 19: 26، تثنية 18: 1.) والتي كان الأنبياء (أشعياء 28: 7-13 ،ارميا23: 25-32) والحكماء(جامعة5: 2)يحاربونها

. ب- ثم أرسل الله الأنبياء للاتصال بالشعب المختار .وكان هؤلاء الأنبياء يتلقون الكلمة الإلهية أما بالرؤيا وإما بالسمع(عدد23: 3-15)، ولكن يلاحظ أن كلمة الله هي التي كانت توضح دائما معاني رموز هذه الرؤيا، لأن الأنبياء لم يكونوا يفهمون هذه الرموز التي كانت تحيط بهم. أضف إلى ذلك أن كلمة الله كان تصل إليهم في أغلب الأحيان دون أن ترافقها رؤيا وحتى كانت لا تعرف كيف جاءت. إنها تتم بإلهام داخلي ( تكوين 12: 1......ألخ ، ارميا1: 14..........ألخ).أما موسى فكلمه الله مواجهة(عدد 12: 7-8)

. ج- إن الرؤيا تعرف بأنها وحي للأسرار الإلهية فان أدب الرؤيا هو في آن واحد عمل الحكمة( دانيال2 : 23، 5: 11, 14) وعمل الروح القدس( دانيال 4: 5...ألخ، 15: 5،11 ،14 ).وتتألف إما من الأحلام وإما من الرؤى وإما من التأملات في الكتاب المقدس أيضا( دانيال9 : 1....ألخ) ولكن كلمة الله هي التي تعطينا دائما تفسير هذه الأحلام وهذه الرؤى وهذه النصوص المقدسة

د- وأخيرا لما بلغ ملء الزمان أرسل الله ابنه الأوحد يسوع المسيح، الوسيلة الأخيرة والفائقة ليتحدث مع الإنسان وجها لوجه( عبرانيين1: 1-2).

ونستخلص من كل ذلك أن الوحي قد نزل على البشر عبر الأزمان على مراحل مختلفة وبطريقة تختلف باختلاف المواقف والظروف والموضوعات ودون في الكتاب المقدس. إن نزول الوحي يشبه النور الذي يبدأ بالظهور ضئيلا ثم يتدرج رويدا رويدا إلى أن يصبح أكثر صفاءً وأكثر لمعانا وإشراقا.

: موضوع الوحي الإلهي 3

. إن موضوع الوحي له طابع ديني ،إذ أننا نرى الله يعلن أولا عن ذاته ،فيعطى الإنسان بذلك إمكانية الالتقاء به.ثم يعلن فيما بعد عن سر تدبيره ونياته هذا السر الذي يرسم للإنسان طريق الخلاص

: أ- الله يعلن عن ذاته

. في وقت مناسب من تاريخ البشرية حدده الله بذاته وبمبادرة خاصة منه بدأ يعرف نفسه للإنسان أي أنه كشف له تدريجيا عن شخصه. وبتعبير آخر ،لقد جعل الله نفسه مرئيا بعد أن كان محجوبا عنه خفيا عدة قرون طويلة، ولكي ندرك جيدا تدرج الوحي هذا ، يكفي أن نقارن بين اتصال الله الشخصي بإبراهيم( كان اسمه إبرام قبل الدعوة) واتصاله بموسى. لقد وجه الله فعلا كلامه إلى إبرام وطلب منه أن يترك بلده إلى بلد آخر( تكوين12: 1-....ألخ) هذا اللقاء بين الله والإنسان يجعلنا ندرك أن المقصود منه هو وحي فيه وعد مرتبط بعهد. ويمكننا اعتبار هذا الوحي مرحلة أولى من مراحل الوحي التاريخي. ولكن الله في لقائه مع موسى يكشف لنا عن اسمه علاوة على ذلك أي أنه يوحي له ذاته الخاصة، فهذا الوحي هو بدون شك وحي عال. قال الله لموسى:" أنا الكائن(أهيه الذي أهيه)" (خروج 3: 14).وبذلك بدأت مع النبي موسى المرحلة الثابتة الفاصلة

. وهكذا كشف الله تدريجيا عن نفسه في هذا الوحي،وحي الموعد واعهد، على أنه " يهوه " اله الشعب المختار،الرب الواحد والأحد . لقد أقصى بذلك كل ألوهية أخرى وأظهر أن لا مثيل من بين الآلهة الأخرى (خروج 2.: 3- 6) " اسمع يا إسرائيل .الرب إلهنا رب واحد" ( تثنية 6: 4) .وفرض الله ألا يعبد إلها غيره، وبين أنه الإله الغيور (تثنية 2.: 5ب) إلا هذه الغيرة التي موضوعها الأساسي الآلهة الأخرى هي في آن واحد غضب رهيب وحنان جروح

. انه أيضا الإله الحي الذي يسهر باستمرار على أخصائه ( تثنية6: 21)،لا يتعب(أشعياء 4.: 28) ولا ينام (مزمور 121 :4 )،هو القدوس( هوشع 11: 9،وعاموس 4: 2) وسيد تاريخ هذا الشعب الذي اختاره ويريد فصله عن بقية الشعوب. ولكن هذا الاقتصار على الاهتمام بهذا الشعب هو موجه أيضا نحو الشمولية أي إلى جميع الشعوب الأخرى ،لأن هذا الشعب قد اختاره ليمثل جميع الشعوب أمام الله. أو بتعبير آخر انه سيكون علامة حضور الله بين الشعوب الأخرى

. وعلاوة على ذلك فأننا نرى في هذا الوحي ، وحي الموعد والعهد ،نزوعا إلى المستقبل يزداد أكثر فأكثر قوة ويبدو هذا المستقبل دائما أفضل من الماضي والحاضر. ونلاحظ أن حالة الشعب تبدو في انتظار " ذاك الذي سيأتي" والذي فيه ينحصر ويتجسم انتظار وموعد العهد القديم . ولما تم ملء الزمان ( غلاطية 4:4) كشف الله عن نفسه نهائيا وكليا في المسيح يسوع..فالمسيح إذا هو كمال الوحي ...مصدره وموضوعه على السواء كما أن هذا الوحي ليس في الواقع بحقيقة مجردة أو تأمل محض بل بالعكس..انه لقاء شخصي لله الذي يعرف نفسه ليس كخالق فحسب بل كمخلص أيضا

. بعد هذا العرض لموضوع الوحي الأساسي ،بقى أن نعرف النقطة الثانية للوحي وهى هدف الله منه

: ب- الهدف...تدبير الله أو قصده

. عرفنا أن الله كشف عن نفسه تدريجيا للشعب المختار، وهكذا فعل أيضا بتدبيره الخلاص. في الواقع أظلم الإنسان نفسه بسب خطيئته فلم يعد باستطاعته أن يرى ويعرف مشيئة الله .لذلك ،كان لابد لله من أن يهيئه لاستقبال حدث يسوع المسيح الكبير، فبدأ يعلمه أي سلوك يجب أن يتخذ من الآن وصاعدا

. ولهذا السبب بدأت كلمة الله تتخذ شكل تعليم وشريعة( خروج 2.: 1-...ألخ) فصارت بنية الشعب المختار كلها ( أي الأنظمة الاجتماعية والسياسية والثقافية) ...موضوع وحي(عدد 11: 16-17) ،فكان لها معان إيجابية نسبة لتتميم الخلاص في العهد القديم ،إنها رموز التنبؤ

. ثم يكشف الله أيضا تدريجيا أسرار ما رسمه فبين للشعب أن للحوادث التي كان يعيشها معنى دينيا " إن السيد الرب لا يصنع أمرا إلا ويعلن لعبيده الأنبياء "(عاموس 3: 7) وتكون المظهر المرئي لتدبير الخلاص. وهكذا كانت هذه الأمور كلها تخول الكلمة تأكيدا وثقة، وتقود الإنسان إلى الأيمان لأنها تتحلى بقيمة الآيات والبينات (خروج 14: 29 -..ألخ).وقد كشف الله أخيرا تدريجيا عن سر "الأزمنة الأخيرة ". وبما أن " كلمته "هي وعد ،فإنها تهدف إذن إلى المستقبل، غاية تدبيره للخلاص. وأصبح الناس بذلك على طريق العهد الجديد، معرفة ما زالت ملتبسة جزئيا بما لها من الرموز، ولكنها قد رسمت خطوط العهد الأخروي ( آخر الأزمان )

وبالاختصار ،يمكننا القول أن كل ما أوحى تدريجيا في العهد القديم قد تحقق اليوم في العهد الجديد .

. لقد تجمع الآن كل شيء بين يدي يسوع المسيح، مصدر الوحي وموضوعه على السواء، الإله الموحى والموحى معا. فالعهد الجديد يبين أن الله قد أتم عمله في ذروته بحياة وموت وقيامة يسوع المسيح أن كل إنسان يستطيع من الآن وصاعدا أن يصل إليه. فالله إذن يقدم نفسه إلى كل من يريد قبوله، وعليه أن ينتمي أولا إلى يسوع ثم بمقدرته،يهوديا كان أم وثنيا، أن يكتشف في يسوع وجه الله الحقيقي وحضوره الحي

. إن وحي العهد والوعد قد رأى إذن تحقيقه في يسوع المسيح،وملء الزمن قد وجد فيه نقطة مركزه. إلا أن المسيح لم يحقق بموته وقيامته المواعيد فقط بل جاء بحياة جديدة تبدل حياة المسيحي الذي يعيش منذ الآن باتحاد وثيق مع الله.وإذا كانت فكرة المستقبل ما تزال مثابرة في نفس هذا المسيحي فالنظرية قد تبدلت بدون شك

. في الواقع ،إن فكرة المستقبل هذه تقوم الآن على رجعة المسيح في نهاية العالم وهو مكلل بالمجد والسلطة والكرامة.ويختصر انتظار المسيحي في أيامنا في كلمة"ماران اثا" وتعنى "رب هلم" أو " الرب آت" (1 كورنثوس 16: 22) وقد ورد في سفر الرؤيا ما نصه:"ويقول الشاهد بهذا .نعم أنا آتى سريعا .آمين تعال أيها الرب يسوع"(رؤيا يوحنا 22: 2.) .فعبارة "انه تم كل شيء وإنما هناك ما لم يتم بعد ،تشير إلى الوضع الحالي للمسيحي،أو بقول آخر:إن الحاضر هو المستقبل وقد بدأ، والمستقبل هو الحاضر وقد وصل إلى حدة" ونستطيع القول أن العهد الجديد ليس في الواقع سوى مفهوم جديد لما كان قد عرف قبلا في جوهره.لذا فعيني المسيحي تريان الآن بوضوح في ضوء هذا العهد الجديد أن العهد القديم هو "تاريخ موجه إلى المسيح لأن الموضوع يخصه هو،والنبوءة تتحدث عنه".والسر الذي كان مكتوما صار الآن مكشوفا (كولوسى 1: 25- 26) وهذا السر الذي لم يطلع عليه بنو البشر في القرون الماضية وكشف الآن في الروح لرسله أنبيائه الأطهار(أفسس 3: 5) .فكل سيرة يسوع تبرهن أن كل شيء قد تم فيه. يقدم نفسه كأنه هو السيد المطلق الأوحد ،إذ يتحدث بسلطة.فهو ورسالته واحد بحيث انه مبشر ومبشر به معا.وهو النبي في المعنى النهائي والقطعي إلا أنه يبدو في الوقت نفسه أكثر من نبي لأنه هو ومهمته واحد، إن يوحنا الإنجيلي(تميزا له عن يوحنا المعمدان) بين بوضوح إن "أنا" يسوع تحل محل الله ذاته. العبارة التي تجدها عند يوحنا "أنا هو" تذكرنا بـ "أنا هو الكائن" في سفر الخروج(3: 14) .ولهذا السبب كشف الله المحجوب عن نفسه وتحدث بشكل مرئي.وسلم يسوع تلاميذه هذا الوحي فنقلوه بعد قيامته إلى الناس جميعا. وما زالت الكنيسة تنقله بمعونة الروح القدس(الذي هو الله نفسه) إلى جميع الشعوب،وهذا الوحي الإلهي سيبلغ قمته في مشاهدتنا المباشرة لوجه الله المثلث الأقانيم في الحياة الأبدية وهذه المشاهدة العيانية ستحل عند جميع البشر محل المعرفة الإيمانية أي أن الإنسان لن يحتاج إلى هبة الأيمان لدى مشاهدته الله تعالى ،انه الوحي في كماله الذي هو كمال مملكة الله، وفي كل ذلك الكمال الحي لخلاص الإنسان

. إن كل شيء سيبلغ كماله في الحياة الأبدية وتعيش في سعادة تامة وهكذا فان الحياة الأبدية التي حملها يسوع المسيح للإنسان وابتدأت على الأرض ستتحقق كليا في السماء

: الإلهام الإلهي

. إن دراسة الوحي الإلهي بينت لنا أنه قد نزل أولا شفهيا ثم دون فيما بعد وحفظ في الكتب التي يعتبرها المؤمنون مقدسة.فان الروح الذي كان يقود رؤساء الشعب المختار كموسى وجدعون ...هو ذاته ،كان يضع كلماته في فم الأنبياء ويحركهم حاثا بعضا من هؤلاء الرجال أن يثبتوا في كتاب ما كان الروح يوحي إليهم حتى يخلدوا ذكراه(خروج 17: 14).وعرفنا أيضا أن الوحي لم ينزل إلا تدريجيا وهذا يفهمنا أن أسفار الكتاب المقدس التي دونت هذا الوحي لم تكتب جميعا بيد رسل الله ذاتهم،بل كان هناك عدد كبير من الكتاب الذين بقيت أسماؤهم مجهولة قد أسهموا في تأليفه. وكان جميع هؤلاء الكتاب يدونون الوحي الإلهي بإلهام الله عز وجل وهذا بدون شك ما دفع بولس(2 تيموثاوس 3: 16)كما دفع بطرس(2 بطرس 1: 2.- 21) إلى القول أن الكتاب " مقدس "

. ويمكن إطلاق هذا التعبير على الكتاب بأكمله على العهد القديم كما على العهد الجديد

وسندرس الآن ما هو الإلهام في الدين المسيحي ؟‍ ‍‍‍‍‍‍

: التحديد 1

. الإلهام يدل على عمل الله الفوطبيعى الذي يمارسه على مؤلفي الكتاب المقدس ليدفعهم إلى تدوين الحقائق التي أوحاها وأعطاها البشر،وذلك بمساعدته الدائمة والمباشرة ،أو بتعبير آخر ،انه عون روحي من قبل الروح القدس يحث الكاتب أن يعبر عما يريد الله أن يطلع الناس عليه من الحقائق الدينية الضرورية لخلاص نفوسهم

. نستنتج من هذا التحديد أن هذه الأسفار التي ألفها الكتاب الملهمون أو المؤرخون الملهمون لا تحتوى على فكر بشرى فحسب بل على فكر الله قبل كل شيء.فلقد استخدم الله لغة البشر لكي يعلن كلمته.لذلك يتصف الكتاب المقدس بالميزة الإلهية البشرية،أي المضمون كله هو من عمل الله والإنسان معا وكل بحسب مرتبته،فالله مثلا هو الواضع الرئيسي للإنجيل بحسب متى فكان أداته الواعية

. ولكن هناك سؤالا يطرأ علينا الآن ..كيف يتم هذا التعاون أو بتعبير آخر ما هي الأدوار التي قام بها كل من الله والإنسان في تأليف الكتاب المقدس؟ ( إن هذا السؤال يشمل طبعا العهد القديم والعهد الجديد معا ). هذا ما سنعرضه الآن

: دور الله ودور الإنسان 2

. لابد لنا فبل كل شيء أن نميز جيدا بين الإلهام النبوي والإلهام الكتابي- هذا الأخير هو موضوع دراستنا هنا - حتى نعرف بوضوح ما هو دور الله وما هو دور الإنسان في تأليف الكتاب المقدس

. يتضح لنا من الكتاب المقدس أن الله في الإلهام النبوي يوجه كلامه إلى النبي بصيغة الأمر بحيث أن النبي لا يقوم إلا بدور المستلم والمسلم الرسالة فدور الله يبدو هنا في أقصى ذروته ولا يترك للنبي إلا جزءا تافها .وعديدة هي الصيغ والصور التي تعبر عن كيفية حديث الله مع النبي أو حلول الروح القدس على هذا الإنسان المختار،فقد ورد ما يلي أن الروح (أي روح الله) " يحل على النبي "(1 ملوك 1. : 6-1.)

. انه "عليه "( عدد 24: 2، 1ملوك19: 2....ألخ، 23: 5).......حينئذ لا يعمل هذا الملهم سوى نقل ما قاله له يهوه(الله) (عدد23: 12، 24: 13) .ونقرأ أيضا أن الروح يحل فيه ويكلمه:"قد حل في الروح وأقامني على قدمي وكلمني...."(حزقيال 3: 24،أنظر 2:2-4)،يفتح عينيه(عدد24: 4, 16) ويكشف له عن أسراره(1ملوك 3:21، عاموس3: 7،تثنية29: 28)هذه الأسرار التي لا يستطيع أن يعرفها بنفسه

. إن النبي يبدو لنا هنا (كأداة طيعة وأمينة) يتكلم باسم الرب. نجده في الحالات العادية واعيا ومسئولا عن الوحي الإلهي أي عن ما يقوله له الرب،فيستوعبه قبل أن ينقله..ولكنه في بعض الحالات لا يفهم معنى الرسالة التي ينقلها، فهو إما أن يستلم الرسالة بطريقة مادية أو حرفية دون أن يدرك مضمونها( تكوين41) وإما أن يفهم معناها الأول دون الثاني هذا المعنى الذي أودعه فيها الله وهو أكثر عمقا وبعدا

أما في الإلهام الكتابي ،فأثر الإنسان فيه واضح.فعمل الروح هنا يتم بشكل مختلف عما هو في الإلهام النبوي.ففاعلية الله تحرك نشاط الملهم"بطريقة ثاقبة جدا لدرجة أن النتاج سيكون كليا من عمل الله وعمل الإنسان معا،إنما على درجات مختلفة. وبتعبير آخر إن عمل الله ينتقل إلى الإنسان وهو في العمل.وهذا يشبه على سبيل المثال عمل الإنسان والإله التي يستخدمها..فالاثنان يتعاونان بحرارة متينة على تنفيذ العمل ذاته فالأول لا يعمل بدون الآخر.لكن الإنسان الملهم يبقى محتفظا باستقلاله كشخص عاقل وحر. فليس هو إذن بآلة تشبه القلم الذي تديره أصابع الكاتب. إن الله في الواقع يحث الإنسان الملهم على الكتابة دون أن يحطم ويمحى شخصيته بسبب ذلك ،بل بالعكس انه يحثه ويحمسه،أي أن الله يقود الملهم بقوته الفعالة وبطريقته المحتمة"إلى تفكير وقول وتدوين ما يريده الله وكما يريده" ويتم ذلك باحترامه حرية وعبقرية الكاتب آخذا بعين الاعتبار البيئة الاجتماعية والثقافية التي يعيش فيها ويعمل فيها .إذن يبدو وكأنه يتسلم فقط النور الفوطبيعى الذي يساعده على الحكم باليقين الإلهي ذاته على كل ما يوافق ويناسب تأليف كتابه.وفي هذه الطريقة،يتحقق إنتاجه"بحرية تامة ومحترمة جدا لدرجة أنه يمكن ألا يعي بأن هناك يدا فائقة القدرة قد وأرشدته" رغم أنه يعرف أنه يخدم الرب.أو بتعبير آخر ،يستطيع المؤلف أن يتأمل في أفكاره التي اكتسبها بشكل طبيعى، ولكن الله يمنحه في الوقت نفسه نورا خاصا حتى يصبح هذا النتاج حقا عمل الله".

. إن هذا الأمر يقودنا إلى دراسة مدى دور الله في هذا الإلهام المختص بالكتاب المقدس، الذي هو في الواقع جزء من الإلهام الكتابي

. أ- عمل الله في مواهب أو ملكات الكاتب الملهم

. إننا نعرف أن كل كاتب يؤلف كتابا يكون له هدف خاص.لذلك فانه يحشد جميع مواهبه وطاقاته ليجعل من هذا الأثر الأدبي عملا إنسانيا جذابا. ويضع تحت تصرفه عددا كبيرا من المعلومات والمستندات. فإذا كان الأديب يعير كتابه هذا الاهتمام، فكم بالأحرى يجب أن يكون عظيما الاهتمام بكتاب يحوى بين طياته كلمة الله المقدسة. وهذا هو السبب الذي يجعل الله يتداخل هنا بدون شك حتى ينير عقل الإنسان ليدرك قيمة ما سوف يدون،ويحث إرادته لينفذ هذا الأثر الروحي. فالإلهام الإلهي يشمل لذلك جميع ملكات المؤلف العليا أي الذكاء والإرادة والفعل، والأدنى أي المخيلة،والذاكرة والإحساس....كما يأخذ بعين الاعتبار نفسية المؤلف .فانه لا يختار رجلا عاطفيا وعصبيا سريع التأثر ،ليدون النصوص القانونية لأسفار موسى الخمسة(التوراة) ،كما لا يختار رجلا موسوسا لتأليف كتاب نشيد الإنشاد

. ب- الإلهام ومضمون الكتاب المقدس

. إن التعاون الإلهي البشرى يعم كل مضمون الكتاب المقدس .فالإلهام يشمل إذن اختيار المراجع والمستندات التي يجب استخدامها ،كما يشمل الكلمات والعبارات التي تعبر بشكل أفضل عن الفكر الإلهي. أو بعبارة أخرى، إن روح الله يساعد الكاتب الملهم الذي يفكر بإمعان بجميع الكلمات والعبارات ليجعل الفكرة الإلهية واضحة جلية. وهذا يفسر استخدام بعض التفاصيل الجذابة أو العناصر الثانوية.فالمؤلف يبتغى بدون شك أن يركز الانتباه البشرى في ذروته على الحقيقة التي يحملها إليه. فكل عنصر يلعب دورا مفيدا في الكتاب المقدس. لذلك "تؤكد الكنيسة إن الكتاب المقدس في جملته وفي أصغر جزئياته يتمتع بهذا الإلهام" إلا أن تداخل عمل المؤلف يتناسب مع أهمية كل عنصر، وهكذا ،السفر الذي يخرج من يديه هو عمله وعمل الله في آن واحد

. ج- الإلهام والكتاب الملهمون

. إن الله كما ذكرنا آنفا قد اختار عدة مؤلفين لتدوين مختلف الأسفار المقدسة التي تعرفنا في بياناتها المتنوعة بالثقافة وعقلية المجتمعات المختلفة التي تعمل فيها مؤرخو السير المقدسة. ولقد أوضحت تطورات علوم الكتاب المقدس هذا التعداد. فالتوراة مثلا ليست عمل موسى فقط لأن الشرائع المدرجة فيها لا تتمشى مع عصره.وكذلك سفر أشعياء ،فقد رأى أيدي عدة كتاب اشتركوا مع أشعياء في تدوينه.إذ أن روح الله كان قد دفع واحدا إلى تأليف جوهر الكتاب ،وأوعز لآخر مراجعته مضيفا حاشية ما. ولكن هذا العمل لا يبدل شيئا في الميزة المقدسة للسفر لأن مجموعه هو الذي يعبر عن كامل الفكرة الإلهية. كما أن الكنيسة استلمته في صيغته النهائية ككتاب رسمي شرعي وانه هو الكتاب الملهم. وهذا ما يجعل الكنيسة تصرح بأن جميع هؤلاء الكتاب الذين أسهموا في تأليف الكتاب المقدس هم كتاب ملهمون

د- الإلهام والمعاني المختلفة للكتاب المقدس .

. وعلاوة على ذلك يمكننا القول أن الإلهام يشمل جميع الكتاب المقدس . المعاني التي نستطيع أن نراها ونحللها . فالكاتب الذي يجلس للتأليف يتوخى في الواقع معنى خاصا وهذا ما يسمى بالمعنى الأول أو المعنى الحرفي الذي أراده هو وتصوره وابتكره. إلا أن "هذا المعنى الذي أراده الكاتب البشرى في كلماته البشرية هي أيضا المعنى الذي أراده الله" والذي يجب على المفسر أن يكتشفه ويفهمه قبل كل شيء .ولكن الله في الوقت نفسه هيأ للكلمات المكتوبة تطبيقات وأبعادا في معانيها لم يعيها الكاتب الملهم وهذا ما يسمى "بالمعنى الثاني أو التام " .إلا أن لهذا المعنى صلة القرابة أو التجانس مع المعنى الأول أو المعنى الحرفي .والأيمان وحده يستطيع فهمه وإدراكه ، أو بتعبير آخر ،إن الله دفع الكاتب الملهم إلى اختيار كلمات مناسبة أو رواية حوادث محددة احتفظ لنفسه أعطاها أصداء جديدة تحت ريشه كتاب آخرين في مراحل لاحقة لوحيه . إن المعنى الثاني هذا أو المعنى التام هو الذي يعطيه الله لهذه الكلمات أو لهذه الحوادث . وهكذا فالنصوص الملهمة السابقة قد أوضحتها النصوص الملهمة التي روت تحقيق الأولى . إلا أن هذه المعاني الثانية ليست مهمة بالطريقة نفسها كالأولى ، إنها امتداد لها ،استفادت من النور الأكثر دقة الذي استطاع أن ينفذ إلى روح الكاتب البشرى دون أن يضيئه بالذات .وباستطاعتنا أن نختصر ونقول أن يسوع المسيح هو المعنى التام للكتاب المقدس بأجمعه، انه مفسره الحقيقي ومضمونه معا.وهذا يبين أن الله لم يوجه الكتاب المقدس إلى جميع القراء في جميع الأزمان بطريقة متساوية واحدة. وفي ضوء هذه الملاحظة نفهم لم يجب التوقف في قراءة الكتاب المقدس عندما هو مهم ،أي ما هو أزلي في تبليغ كلمة الله عبر التاريخ

. ويمكننا القول إذن أن الله هو في الحقيقة صاحب ومصدر الكتاب المقدس الرئيسي، قد تم تدوينه في الواقع تحت تأثيره كليا، ولا يحوى فيما يتعلق بالأفكار والكلمات إلا ما أراد تدوينه فيه. نعم انه صاحبه كليا في معنى خاص ،أو خاص في حالته الفريدة هذه ،والذي لا يتحقق في أي كتاب بشرى آخر ،وبالاختصار أن اهتمام الله بهذا الكتاب لا نجده في أي كتاب آخر .ولهذا السبب فهو وحده يعرف نهائيا أى كتاب دفع الكاتب لتأليفه. وهو وحده أيضا يستطيع أن يعرف به ،ويكشف عن حقيقته للإنسان

: صحة الكتاب المقدس 3

. إننا نعرف أن الله لا يخطأ ولا يخدع أحدا. انه إذن يحفظ الكاتب الملهم من تدوين وتعليم الباطل .ولهذا السبب فالإلهام تصاحبه هبة " العصمة من الخطأ "،ليس عند المؤرخ الملهم فحسب بل في نتيجة مجمل الكتاب أيضا. والكنيسة من جهة أخرى اعترفت دائما بهذه النتيجة..لما كانت جميع أقوال الكتاب الملهمين أو مؤلفي السير المقدسة يجب اعتبارها أقوال الروح القدس،فلا بد من التصريح بأن أسفار الكتاب المقدس تعلم بحزم وأمانة وبدون خطأ الحقيقة التي أراد الله من أجل خلاصنا أن يراها مدونة في الكتب المقدسة. ولهذا السبب " كل الكتاب هو موحى به من الله ونافع للتعليم والتوبيخ للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملا متأهبا لكل عمل صالح " ( 2تيموثاوس3: 16- 17 )لذلك فعندما نقع في الكتاب المقدس غلى حدث يتعلق بالطبيعة والسماء ،والجو........يناقض ظاهريا العلم، نظير علمنا اليوم ،علينا حينئذ أن نضع أنفسنا في نظر المؤلف ،فنحن نعرف جيدا أن الشيء ذاته يمكن مشاهدته بأوجه مختلفة حسب كل شخص ينظر إليه. لأن ما يراه العالم يختلف عما يراه الشاعر أو الروائي أو أي أديب آخر، فكم بالأحرى الكاتب الملهم، الذي ينظر مثلا إلى بنيان الكون والطبيعة ،وسير الكواكب ..كأنها تعترف بعظمة وسلطان الله. إن هذا الكاتب يأخذ بعين الاعتبار عقلية معاصريه التي هي أيضا عقليته وعقلية عصره حتى يجعلهم يفهمونه..فهو لا يبتغى أن يثبت حقيقة علمية كما هي عليه ،فهدفه تبليغ حقيقة دينية. وهذا ما يستطيع أن يفسر أن الأفكار النبوية التي يحتوى عليها الكتاب المقدس ليست من حقل الإلهية.فعلينا إذن أن نميز جيدا بين شخصية الكاتب الخاصة وشخصيته العامة .وهذا التمييز له أهمية في التفريق بين ما هو من الكاتب الملهم وما هو من الواضع الرئيسي وأعنى به الله تعالى، أي أن بين الإنسان وبين الله. ففي الواقع أن الكاتب البشرى لا يتمتع بالإلهام إلا في ما يتعلق بالرسالة الإلهية. فالله يعصمه من الخطأ فيما يتعلق بالحقيقة الموحاه، ولكنه لا يبتغى أن يجعل منه رجلا " كاملا في العلوم "

. وأخيرا يقول المسيحيون إذا أردنا أن نفهم جيدا مضمون هذه الكتب المقدسة يجب قراءتها بالعقلية السامية التي ينتمي إليها مؤلفوها. لأن الله ، عندما وجه كلامه إليهم أراد استخدام لغتهم الخاصة وطريقتهم في التفكير والتعبير . ولهذا السبب فالكتاب المقدس تجده بدون خطأ عندما تقرأه جملة ككل،وعندما نربط المعطيات الفردية بعد نقدها بمجمل الكتاب فمن أراد أن يقرأ الكتاب المقدس،عليه أن يهدف من وراء ذلك إلى فهم الحقيقة كما قالها الله وليس ليجد حلولا للمسائل العلمية. إن هدف تعليم الكتاب المقدس هو تعليم سر الخلاص الذي حققه يسوع المسيح،الذي هو وحده موضوع الحقيقة التي نجدها في الكتاب المقدس. وشهادة الكتاب الملهمين تقوم على علاقة الحوادث بسر الخلاص،والمعنى المستنبط منها ،أكثر مما تقوم على هذه الحوادث في ذاتها المادية

. وبالاختصار ،إن الله يريد سعادة الإنسان التي رسم طريقتها يسوع المسيح لأنه هو نفسه" الطريق والحق والحياة " (يوحنا 14: 6) ففي يسوع الإنسان ،وفي يسوع ابن الله معا نجد كمال الوحي . ولهذا السبب فيسوع هو أيضا الطريق الذي يقودنا إلى الآب، وفيه نجد حياة الآب وفيه أيضا يجد العهد القديم معناه الأخير

: العلاقة بين الوحي والإلهام 4

. بعد هذه الدراسة المستندة إلى الكتاب المقدس للوحي ،يبدو لنا الآن بوضوح أنهما يتميزان الواحد عن الآخر دون أن يتناقضا أو يتناسب الواحد بعد الآخر، بل بالعكس، انهما يعملان في آن واحد وبانسجام تام على إعطاء الحقيقة..الواحد يحمل الآخر كما تحمل الروح الكلمة..وفعلا أن روح الله ،من ناحية،ينهض الإنسان ليقود التاريخ المقدس، ويبث كلمات الله، ويدون الأسفار التي ستحتفظ بجوهر هذه العناية الإلهية.ومن ناحية أخرى ،أراد الله أيضا أن يمر هذا الوحي في هذا العمل الملهم والممجد

. إن هذا الوحي الذي لا يرتكز على إعطاء حقائق مجردة بل على التجلي الشخصي لله الحى، الخالق ،والمخلص،قد حفظه إذن أشخاص ملهمون في كتاباتهم، وان الله الذي دفع الإنسان بهذا الإلهام إلى تبليغ الرسالة الموحاه،وهذا ما يسمى بالإلهام النبوي،قد دفعه أيضا إلى حفظه في الكتاب ،وهذا ما يسمى بالإلهام الكتابي، ومجموع الأسفار هذه أصبحت تؤلف الكتاب المقدس، كتاب الشعب المختار...كتاب الكنيسة، وان هذا الكتاب المقدس صحيح لأنه يحوى كلمة الله التي هي الحقيقة عينها

... نظرة مقارنة.. 3

. والآن وبعد أن قدمنا دراستنا عن الوحي من الوجهة الإسلامية ، والوجهة المسيحية ، فإننا قد رأينا أن الوحي في المسيحية واليهودية أيضا هو عمل يشرك الله فيه الإنسان ، يعلن ذاته ورسالته بل والإنسان،مستعينا بالإنسان وهو ليس بتنزيل مثل ما هو في الإسلام،بل أشرك الله الإنسان إشراكا .ذلك لأن مصير الله مرتبط ارتباطا وثيقا ونهائيا منذ تجسد الله نفسه

. فالإنسان شريك كامل في الوحي ،بفيض من الله الآب الذي بلغ من حبه للإنسان حتى بذل ابنه الأوحد( يوحنا 3: 16) ،ذلك الله الذي بلغ حبه للإنسان حتى بذل حياته على الصليب( يوحنا 15: 23) فبذل الله روحه (يوحنا 19: 3.، 34)،ذلك الروح الذي يدفع الإنسان إلى أن يسمع صوت يسوع ليتبعه اتباع التلميذ لمعلمه، حاملا معه ومثله الصليب ،قائما معه،وحيا مثله،وكل ذلك في داخل الكنيسة،ففي داخل الكنيسة يتجاوب الإنسان مع الله بالأيمان

والآن ..نظرة نقدية مقارنة للوحي في اليهودية- المسيحية- الإسلام

! ما هو الوحي ؟!! أليس هذا هو موضوعنا ؟

. ولكي نتوصل إلى تعريفه وتفهمه، بوسعنا أن نستعين بالكلام البشرى الذي يوضح لنا معنى الكلام الإلهي أو كلمة الله

: للكلمة البشرية،من منظار شخصاني وجودي دينامي ، أربعة أقطاب

. إنها نداء من شخص يبادر بالكلام. ولنسمه " أنا " 1
. إنها موجهة إلى شخص آخر، فتطلب تجاوبا منه. ولنسمه " أنت " 2
. لها مضمون موضوعي، يريد " أنا " توصيله إلى " أنت " ،فهو إعلام 3
. للها هدف ذاتى، ألا وهو تشييد علاقة بين " أنا " و " أنت " 4

ويتلخص ذلك في الشكل التالي :

rev-1.GIF (16374 bytes)

وإذا حاولنا أن نطبق ذلك على الوحي ، أي كلام الله ، وجدنا العناصر الأربعة السابقة هكذا

. 2 فالله يبادر إذ يخاطب الإنسان . وهذا يوضح النظرة التاريخية إلى الوحي 2-1
. 4 والله يعلن للإنسان من هو الله ومن هو الإنسان ،ومن خلال ذلك يريد الله تشييد علاقة عهد ومحبة بينه وبين الإنسان. وهذا يوضح مضمون الوحي 4-3

: ويمكننا تلخيص ذلك في الشكل الآتي

rev-2.GIF (17188 bytes)

: التحقيق التاريخي للوحي

. إن الوحي اليهودي - المسيحي يحقق قصد الله الأزلي تحقيقا تاريخيا في العهدين القديم والجديد .فهو واحد في أزليته ،ومتعدد في تاريخيته. هو نهائي من جهة، وحدثي من جهة أخرى. هو متعلق بدوام الله ، ومرتبط بماضي الإنسان وحاضره ومستقبله

. هو يتميز باتساقه من جانب الله ، وبتدرجه التربوي تجاه الإنسان، فثمة الأعداد للوحي في " الأديان الطبيعية " ( أي التي كان فيها الإنسان يؤله الطبيعة ) -وهناك بداياته - من الاختيار والعهد، من الخروج والشريعة (أي خروج الشعب اليهودي من مصر وحصولهم من خلال موسى على التوراة ) -فالنمو فيه- مع الأنبياء- حتى اكتماله- بيسوع المسيح (الذي هو ذاته الإنجيل أي الخبر السار ) . فإعلانه - بالروح القدس عن طريق الرسل ( الحواريين ) - واستمراره وآنيته- بالروح عينه في كنيسة كل جيل وكل مكان . والحق يقال إن هذه النظرة التاريخية إلى الوحي ليست بغريبة على الإسلام إذ يعتبر وحيه خاتم الوحي اليهودي - المسيحي

: والوحي اليهودي / المسيحي في جميع مراحله هو " تعاون عملي " ، " اتحاد وثيق " ، " عمل مشترك " بين الله والإنسان، بين مبادرة الله وهو يوحي بذاته وإشراكه الإنسان في الوحي . فهو في آن واحد إلهي متسام ، وهو بشرى وباطن وكامن ،ويعود الفضل في ذلك إلى التجسد حيث اتحد نهائيا الله بالبشر ، مشيئة الله بحرية الإنسان ، وحيث يتجاوب ويتعاون الإنسان مع الله . ويتميز الوحي المسيحي عن الوحي اليهودي بأن الرسل شهود ليسوع المسيح وقد اختبروه حيا ( أي عاشروه وعايشوه ) فأعلنوه مائتا حيا ثم دونوا شهادتهم هذه في كتب العهد الجديد ، بيد أن الأنبياء ،في الوحي اليهودي كانوا يتلقون فقط كلام الله . ويمكن تلخيص ذلك في الشكل الآتي

rev-3.GIF (42647 bytes)

. والحق يقال إن نظرة اليهودية والمسيحية إلى الوحي،ولا سيما إلى دور الإنسان فيه،تخالف تماما مفهوم الإسلام في أن الوحي " منزل " من لدن الله للإنسان،فالوحي في المنظور الإسلامي كتاب مغلق-القرآن - يعتبره المسلمون كلام الله الذي لا يتدخل فيه الإنسان. وما دور محمد إلا أنه ينقل الوحي بدون أن يتدخل أو يشترك فيه،خلافا لأنبياء العهد القديم ورسل العهد الجديد الذين صاغوا وحي الله بلغة البشر. وبالتالي يجب القول إن الإسلام " دين كتاب " وان المسلمين " أهل كتاب "على خلاف اليهودية والمسيحية اللتين هما " دين أشخاص "

وبوسعنا توضيح مفهوم الوحي لدى الديانات الثلاث في الشكل الآتي :

rev-4.GIF (85042 bytes)

. ففي الأديان الثلاثة يكلم الله الإنسان : في اليهودية عن طريق الآباء والأنبياء الذين يتلقون كلام الله في التاريخ البشرى ولا سيما في تاريخ شعب الله المختار . وفي الإسلام عن طريق القرآن وهو كلام الله الأزلي .وفي المسيحية عن طريق يسوع المسيح الابن الكلمة وهو أزلي وقد ظهر في تاريخ البشر بتجسده. ونلاحظ أن الله يخاطب الإنسان في اليهودية والمسيحية عن طريق أشخاص بيد أنه يخاطبهم في الإسلام عن طريق كتاب

. وفي سبيل توصيل كلام الله إلى الإنسان، تختلف الأديان الثلاثة. ففي اليهودية يعبر الآباء والأنبياء عن كلام الله في داخل شعب الله المختار ،وهذا التعبير مدون في كتب العهد القديم . وفي الإسلام يقوم محمد بدور توصيل القرآن إلى الأمة الإسلامية . وأما في المسيحية فان التلاميذ الرسل يختبرون ؛ موت وقيامة ؛ يسوع المسيح ويشهدون له فيعبرون عن ذلك في داخل الكنيسة لجميع البشر ،وهذا التعبير مدون في كتب العهد الجديد ،وتتم مختلف هذه المراحل بالروح القدس

. وقد يخال للبعض أن المسيحية دين الوساطة بمعنى أن الله لا يخاطب الإنسان مباشرة ولا يدخل في علاقة شخصية معه مباشرة بل بواسطة المسيح يسوع وبواسطة الكنيسة عامة والرسل خاصة ، والشكل قد يوحي بذلك

. صحيح أن يسوع المسيح هو الوسيط بين الآب والبشر إلا أنه هو نفسه الله وإنسان ، وواحد مع البشر فلا وساطته عائقا يحول دون العلاقة الشخصية المباشرة . أما الرسل فما هم " وسطاء "- إذ أن المسيح هو الوسيط الوحيد "( 1تيموثاوس 2: 5) - بل " شهود " له، أرادهم يسوع المسيح هكذا لا ليضع حاجزا بينه وبين البشر بل ليبنى كنيسته على أساس شهادتهم ( أفسس 2: 2.)، على أساس بشرى فيكونوا " آيه " له

. إن الله - الآب والابن والروح القدس - يخاطب الإنسان مباشرة ويتعامل معه مباشرة، وان كان في داخل الكنيسة ومن خلالها

. ونذكر نقيض ذلك - حملة شنها بعض رجال الدين المسلمين على الأديب " توفيق الحكيم" عندما كتب في جريده"الأهرام " في بداية الثمانينات " حوار مع الله " تصور فيه حوارا بين الله نفسه، فقام عليه البعض من منطلق أن الله لا يخاطب الإنسان مباشرة وإنما عن طريق الأنبياء فحسب . فهذه النظرة لا تقرها المسيحية وهى " دين أشخاص " حيث يدخل الله - الآب والابن والروح القدس - في علاقة وطيدة وثيقة مباشرة مع الإنسان بل ويسكن في الإنسان والإنسان يسكن فيه،وذلك بموجب تجسد الابن - الكلمة وقد وحد الله بالبشر نهائيا

موضوع الوحي :

يدور موضوع الوحي حول قطبين متكاملين: الوحي بالله والوحي بالإنسان ، إظهار حقيقة الله وحقيقة الإنسان وهذان القطبان مرتبطان ارتباطا وثيقا في كون الله خلق الإنسان وخلصه: فلقد أعلن الله للإنسان من هو الله في حد ذاته " أهيه الذي أهيه (أنا هو من هو) " ( خروج 3 : 14) ، " الله محبه " ( 1 يوحنا 4: 8 ) - كما أعلن من هو الإنسان - مخلوق " على صورته كمثاله ‎" ( تكوين 1: 26- 27 ) ، على مثال صورة ابنه ( روميه 8 : 29 ) ، و " شريك الطبيعة الآلهية " ( 2 بطرس 1 : 4 ) - هو اله إسرائيل وهم شعبه ، يسوع المسيح هو مخلص البشر .

. ويتميز الوحي اليهودي - المسيحي بأنه معلن من منطلق أقوال الله وأفعاله - الاختيار والعهد والتحرر، التجسد والفداء - بيد أن الوحي في الإسلام يعلن أقوال الله فحسب ( إذا استثنينا الخلق بالطبع )

. فان أفعال الله في الوحي اليهودي - المسيحي تظهر قرب الله من البشر وتأثره بهم ، فليس بالإله البعيد والغير المتأثر بما يحدث لهم . في ذلك ، يكمن الفرق الجوهري بين الإله اليهودي - المسيحي من جهة وإله الإسلام من جهة أخرى

. وبين الوحي اليهودي والوحي المسيحي فرق جوهري وهو أن قرب الله من البشر وتأثره بهم ذهب به إلى أنه " والكلمة صار جسدا وحل بيننا...." ( يوحنا 1 : 14 )

ففي العهد القديم ، كان تابوت العهد - وهو يرمز إلى حضور الله - في وسط الشعب ، وأما في العهد الجديد فأصبح الله إنسانا .

" ..آخذا صورة عبد

صائرا في شبه الناس

بل ذهب به إخلاءه " إفراغه لذاته " إلى حد أنه

وضع نفسه وأطاع حتى الموت ،

. موت الصليب " ( فيلبى 2 : 7- 8 )

فالتجسد والفداء هي حقيقة " عثرة لليهود وحماقة للأمميين ( للمسلمين ) " ( 1 كورنثوس 1 : 23 ) . ويترتب على ذلك نظرة الوحي إلى الإنسان . فان كان مخلوق من الله في الأديان الثلاثة، إلا أن اليهودية أظهرت طابع " الاختيار " و " العهد " ، مما يرفع الشعب المختار إلى درجة عالية نحو الله .

وأكتمل هذا : الاختيار " في " العهد الجديد " حيث خص جميع البشر لا شعب واحدا ، ورفعهم أعظم رفع حيث جعلهم " شركاء في الطبيعة الإلهية " . وهذا أيضا " عثرة لليهود وحماقة للمسلمين " .

---------------------------------------------------------------------------------------

.. حواشي

شرح الأصول الخمسة / القاضي عبد الجبار بن أحمد – ص 563 – الطبعة الثانية - مكتبة وهبة- 1988 ( 1 )
لسان العرب / ابن منظور – دار المعارف بمصر ( 2 )
. المصباح المنير / أحمد بن محمد الفيومي ، القاهرة 1977 ، ص 591 – دار المعارف بمصر ( 3 )
. لسان العرب / ابن منظور – دار المعارف بمصر ، ج1 ، ص 156 ( 4 )
. مختار الصحاح / محمد بن أبي بكر الرازي ، ص 644 ( 5 )
المغني في أبواب التوحيد والعدل / القاضي عبد الجبار بن أحمد ، ج 15 ، ( التنبؤات والمعجزات ) تحقيق محمود الخضري ، محمد محمود قاسم ، القاهرة 1965 مطبعة البابي الحلبي ، ص 14 – 16 .فالثابت أن لفظ ( نبي ) سواء كان اشتقاقها من ( النبأ ) ، أو من ( النباوة ) يحظر تماماً حصولها إلا للرسول ، وبذلك يبدو أن اللفظة ( نبي 9 قد تعرضت لما تتعرض له اللفظة أحياناً من فرض قيود دقيقة على الكلمة إذا ما اتصلت بالمقدس Totem ، وهذه العادة ليست مقصورة بحال على المجتمعات البدائية ، فهي معروفة في كل البيئات وفي كل أنواع الحضارات بمستوياتها المختلفة . ( 6 )
Hastings ( ed ) Dictionary of the Bible , ( Art . Prophecy By R. Grant ) New york, 1963.P802 ( 7 )
Cecil Roth ( ed ) : Encyclopedia Judica ,Vol ( 13 ) , ( Art . Prophecy) , Jerusalem 1972 ,P.1152 (8 )

يقول الرب : " .. رد امرأة الرجل ( أي إبراهيم )، فإنه نبي فيصلي لأجلك فتحيا ، وإن كنت لست تردها فاعلم أنك موتاً تموت أنت وكل من لك ( تكوين 2. : 7 )

. Walter Yust (ed) : Encyclopedia Britanica , Vol ( 18 ), ( Art . Prohecy),1960,U.S.A.P.586 ( 9 )
شرح الرسالة إلى العبرانيين / الأب متى المسكين - دير القديس الأنبا مقار -الطبعة الأولى 1993 - ص 80 ( 10 )

. (11) الوحي المحمدي / محمد رشيد رضا- المكتب الاسلامي - الطبعة العاشرة - 1985م - ص 43

المفردات في غريب القرآن / الراغب الأصفهاني - دار المعرفة - بيروت - بدون تاريخ - ص 514 ( 12 )
العقيدة الإسلامية / عبد الرحمن حبنكة - انتشارات صبا - طهران / إيران - الطبعة الثانية- 1979 - ص 244 (13)
العقيدة الإسلامية / عبد الرحمن حبنكة - انتشارات صبا - طهران / إيران - الطبعة الثانية- 1979 - ص 244- 245 ( 14 )
رسالة التوحيد / محمد عبده - تحقيق محمد عمارة - دار الشروق - الطبعة الأولى - ص 103 ( 15 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص 50 ( 16 )
فجر الإسلام / أحمد أمين - النهضة المصرية - بدون تاريخ - ص 228 - 229 ( 17 )
العقيدة الإسلامية / عبد الرحمن حبنكة - انتشارات صبا - طهران / إيران - الطبعة الثانية- 1979 - ص258 ( 18 )
الإسلام عقيدة وشريعة / محمود شلتوت - دار الشروق - الطبعة السابعة عشر - 1997- ص 475 - 476 ( 19 )
فجر الإسلام / أحمد أمين - النهضة المصرية - بدون تاريخ - 228 - 229 ( 20 )
العقيدة الإسلامية / عبد الرحمن حبنكة - انتشارات صبا - طهران / إيران - الطبعة الثانية- 1979 - ص 249 ( 21 )
العقيدة الإسلامية / عبد الرحمن حبنكة - انتشارات صبا - طهران / إيران - الطبعة الثانية- 1979 - ص 249 ( 22 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص 39 ( 23 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص28 و 38 ( 24 )
رسالة التوحيد / محمد عبده - تحقيق محمد عمارة - دار الشروق - الطبعة الأولى - ص 103 ( 25 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص26 ( 26 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص33 ( 27 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص73 (28 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص78 ( 29 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص78 و 83 ( 30 )
مباحث في علوم القرآن / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص90 ( 31 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص3 ( 32 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص6 ( 33 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص6 (34 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص10 (35 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص11 (36 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص13 ( 37 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 - ص23 ( 38 )
علوم الحديث ومصطلحه / صبحي الصالح - دار العلم للملايين - الطبعة الثامنة عشر - 1991 -