صوت صارخ في البرية

caravan.gif (1087 bytes)

بيت عبرا

. على مقربة من مصبّ نهر الأردن في البحر الميّت ، يوجد معبراً سهل الاجتياز . معروفاً من القديم ، ألا وهو " بيت عبرا " أو " بيت العبور " . وهو أحد الأماكن العادية ، الواقعة في أطراف البادية . وهي تحتفظ بذكرى أولئك الرحل ، الذين اجتازوا مياهه الرقيقة منذ آلاف السنين ، فمما لا شك فيه أن يشوع قد عبر من هناك ( يشوع 2 ، 3 ) ، إلى تلك الحدود التي أباحها الله لغزوته . وبعده بألف ومئتي سنة ، وقف هناك رسول آخر من موفدي الله ، يدعو إلى غزوة من نوع جديد .. لغزوة من نوع جديد : كانت قد دَنَت الأيام التي يتحقق فيها وعد الله الذي وعد لشعبه،أرضاً يسود فيها الحبّ


. وما يميز هذه البقعة من بقاع الأرض ، هو انحدارها 35. متراً تحت سطح البحر. حتى أن المرء يتملكه شعور بالغرابة لهذا الوضع ، أيضاً مّا يهُيْمنِ على الوادي من ركود وقلق جمادي . فكل شيء فيه يبدو خاشعا ومُعدّ اً للتوحّد والتأمل . ويظهًر المشهد للناظر إليه من شفا التلال الوعرة، علىَ جانب عظيم من الروعة . فالبراح القائم وسط دائرة التلال الصهباء هو من الحراجة بحيثُ يخيّل إلى المرء أنه في هوّة سحيقة * : تلك الهوّة الجيولوجية التي فلقت الأرض ، كما تفلق الثمرة، ليس فقط في فلسطين بل من طورس حتى أواسط أفريقيا . وينتصب حرمون ، شمالاّ ، بهامته البعيدة المعتمرة بالثلوج ، ( وقد سمّاه العرب ، بسبب ذلك ، " جبل الشيخ " )، ويسدّ على الوادي ، بعارضته الضخمة، جميع منافذه . حتى ليخُيّلُ أن الأرض كلها محدودة بتلك المنحدرات الجافية، وتلك الآجام ، وذاك البياض ، وأنها تقبع كلها عند أقدام ذاك الطود الذي ألفه الله العليّ مقرّا . وينبسط البحر الميّت ، جنوبأ، بصفحته الجامدة، عند سفوح جبال موآب وتحت حفافيها البنفسجية الوعرة ، ويلتمع ، بلا انقطاع " تارة بزرقة الياقوت ، وتارة بتألّق القصدير ؛ وإنما يخامر روعته شيء من مخايل، البشرّ . . . ولا تستطيع الشمس ، مهما اشتدّت ، أن تبدّد تماماً الضباب العائم على صفحة مياهه الثقيلة . وكثيراً ما تشيع في الوادي ، بعيداً، رائحة من الزفت والكبريت ، - نفحة يأس وخطيئة - تعيد إلى الذهن ذكرى سدوم وعمورة ! .

. ان تلك البقعة( والتي تعرف الآن بـ "الغور " ) تنفرّ الإنسان عنها، أيام الصيف ، إذ يلتهب الجوّ فيها التهاباً لا يلين ، وتصبح درجة حرارتها المألوفة 45 درجة مئوية . وأمّا في الشتاء فريح الشمال تنحدر إليها من النهر، ثم تنقطع مساءً تاركة تلك البقعة في غيابة لياليها الساجية. إِذ ذاك تصبح تلك الأرض الموحشة، مدة شهرين ، قطعة من الفردوس ، لا تؤذيها الهواجر بلوافحها . بيد أن تلك الجنةّ، حتى في تلك الفترة، تظلّ كئيبة . وكل مسافر يتخلف فيها ليلا لا يخلو من أن يتملّكه شعور بالقلق . لذلك لم تقم مدينة واحدة في قعر الوادي . وأمّا عند منتصف السفوح فقد انتصبت أريحا شامخة بأبنيتها البيضاء وسط نخيل الواحة . وأمّا أورشليم فقد جثمت هنالك فوق مشارف جبالها، يفصلها عن بقعة الأردن مسيرة نصف نهار

. لم يكن الأردن حاجزاً ممتنعاٌ بين سكّان ضفّتيه . بيد أن اجتياز النهر، عند سالفته ، لم يكن ممكناً إلاّ من خلال أربعة أو خمسة معابر معينة.وكان يقوم عند تلك المعابر بعض الفنادق الوضيعة للرحّل العابرين ؛ وكانت تلك الأبنية هي السكن الإنساني الوحيد في تلك المنطقة الموحشة .كذلك كان الوضع في "بيت عَبرا " . المعبر والجسر مثابة للناس يجتمعون إليهما لتبادل الأخبار . وهي بسبب ذلك من المناطق المفضّلة عند الراغبين في حشد الأتباع .. وكان ما بين الأدغال الشائكة، عند ضفة النهر، براح بسط عليه الشتاء الدافئ بعض العشيبات الخضراء . فكان الناس يحطون فيه ويتبادلون الحديث فترة من الزمن ، م يعودون إلى قوافلهم شاخصين . . إلى صهيون ، والبعض الآخر إلى بيرية والبيداء

. إلاّ أن كثير منهم ، في تلك الحقبة، كانوا يعرّجون في المكان . فكل أولئك الأقوام الذين كانوا يقصدون المعبر لاجتياز النهر، من عبرانيين أقحاح ، وعرب من شرقي الأردن ، وبابليين في أنوفهم خرصان ، وأحباش بلون النحاس، وزنوج من السودان ، كان ينفصل عنهم رجال فيقيمون في المعبر متخلفين عن أصحابهم . و هكذا تكونت أولى، جماعة من الأنصار، كما هي عادة أهل المشرق في تحليقهم حول عباقرة الفصاحة

: لم يلبث أن تضخّم عدد المستمعين ، ولم يعد المعبر ليعلل وحده تقاطر تلك الأرْسال الشعبيّة . فمنذ بضعة أسابيع كانت قد طارت كلمة في جميع أرجاء فلسطين ، محمولة " على جناح الطير "، أي على صوت الإشاعة الشعبيّة . . . فكفى بها حافزاً، لأولئك الذين ما فتئوا يذ كَرون المواثيق القديمة، على هجر بيوتهم وأشغالهم

. منذ مائة سنة لم تكن قد سُمعت تلك اللفظة التي بات لها نجب إسرائيل ، قديماً ، أصداء حافلة بالمعاني! منذ خمس مائة سنة والناس يردّ دون ، في أورشليم ، شكوى صاحب المزامير " أين مراحمك الأول يا رب التي حلفت لداود بأمانتك . اذكر عار عبيدك الذي احتملته في حضني من كثرة الأمم كلها . الذي به عير أعداؤك يا رب الذين عيروا آثار مسيحك " (مزمور 89 : 49 ، 5. ) " آياتنا لا نرى . لا نبي بعد . ولا بيننا من يعرف حتى متى " (مزمور 74 : 9)

. لقد انقرضت سلالة الأنبياء ! ومع ذلك فقد كان هناك بريق أمل . أو لم يكن ملاخي ، آخر الأنبياء، قد تنبأ، قائلاً : " ها نذا أرسل ملاكي فيهيئ الطريق أمامي ويأتي بغتة إلى هيكلة السيد الذي تطلبونه وملاك العهد الذي تسرون به ، هوذا يأتي . . . ومن يحتمل يوم مجيئه ومن يثبت عند ظهوره . . . فهوذا يأتي اليوم المتقد كالتنور وكل المستكبرين وكل فاعلي الشر يكون قشاً ويحرقهم اليوم الآتي . .. " (ملاخي 3 و 4 ) فالقلق الذي كان يبعثه في النفوس احتباس كلام اللّه ، لم يكن ليقطع عليها كل رجاء. فما كانت سوى فترة انتظار.. . ولكنها كم كانت مشحونة بالقلق والآلام ! فعندما سرى الخبر بأن هناك نبّيً من الأنبياء ، يخطب في الناس على ضفاف النهر العريق ، حتى اهتزّت أمّة إسرائيل بأسرها

. لقد كان ذاك الشتاء- في اثر السنة السبتية التي كان يحرّم فيها الشرع جميع الأشغال الزراعية -موسم زحمة في العمل ومضاعفة للمجهود . ومع ذلك فقد كان عظيماً عدد الذين قصدوا الأردن لا يلوون على شيء : " أورشليم وكل اليهودية وجميع الكورة المحيطة بالأردن . " ( متى 3: 5 ) . وهكذا، فإلى المسافرين الذين كانوا يأنسون إلى ذاك الصوت العجيب ، ويحيدون عن الدروب الملْحيةّ البيضاء حيث كانت تستدرجهم المصالح ، انضمّ رجال آخرون ، كثيرون جدّ اً، كانوا يتقاطرون إلى ذاك المكان عينه بحافزٍ من أملهم بحلول يوم الربّ . . . وكانوا يصيبون كلهم في كلام أحد الرجال ، رعشةً تغمر قلوبهم


نبــي

: وكان ذاك الرجل يدعى يوحنا- وهو من الأسماء التي كانت ذائعة جدّاً،آنذاك ، في اليهودية ومعناه

. " حنان لله " . وكان يلقب بالمعمدان بسبب المعمودية التي ، كان ينادى بها . وقد التصق به ذاك اللقب بحيث أصبح ، نوعاً ما ، اسمه الحقيقي

. ولا شك أن حنان الله كان قد اعتلن بوجه فريد، إذ جاء مولد يوحنا آية من تلك الآيات التي ألف الله إجراءها للتعريف بأوليائه الصالحين: نفس تلك الآية التي حظي بها إبراهيم يوم ولدت له سارة- وهي في التسعين من عمرها- إسحاق ابنه . . . فقد كان والداه ، زكريا وأليصابات ، يدلفان إلى الشيخوخة في ذاك الجوّ من الكمد والخزي الذي كان يسود، في إسرائيل ، الأسَرَ العقيمة، وإذا بنعمة الله قد استقرّت عليهما

. لقد كانا كلاهما من قبيلة الكُهّان ، من سبط لاوي . وكان الكهّان المنحدرون من ذرّية هارون ، موزّعين إلى أربعة وعشرين فرقة تضم كل منها من مائتين إلى ثلاث مائة فرد . وكان على كل فرقة، بالتناوب ، أن تقوم بخدمة الهيكل ، أسبوعاً كاملاً ، من السبت إلى السبت ، فتقدّ م البخور، وتنحر الذبائح ، وتزوّد السُّرُج بالزيت ، وتجدّ د خبز التقدمة ، وتنهض بجميع المهامّ المقدّسة المبيّنة في الفصل 24 من " سفر الاويين " . وكان زكريا من فرقة أبياّ، وهي الفرقة الثامنة

. وإذ حانت نوبة فرقته في تأمين خدمة الهيكل ، وقعت القرعة على زكريا لتقديم البخور- وكانوا يعمدون إلى القرعة دائما في تعيين مثل تلك الوظائف - فكان عليه أن يمثْلُ ، كل يوم ، مرّتين ، أمام مذبح البخور، في وحدة المحراب ، وراء حجاب يحجبه عن أنظار المصلّين في الخارج ، ويرفع إلى الحضرة الإلهية، مع دعائه ، البخور المقدس

. وإذ كان في أداء خدمته ، ظهر له ملاك الرب فجأة، واقفاً بالقرب منه ، إلى يمين المذبح . " فلما رآه زكريا اضطرب ووقع عليه خوف ، فقال له الملاك : لا تخف يا زكريا ، لأن طلبتك قد سمعت وامرأتك أليصابات ستلد لك ابناً وتسميه يوحنا، ويكون لك فرح وابتهاج ، وكثيرون سيفرحون بولادته ، لأنه بكون عظيماً أمام الرب ، وخمرا ومسكرا لا يشرب ، ومن بطن أمه يمتلئ من الروح القدس " (لوقا 1 : 12- 15 )

ثم بّين له الملاك أن ذاك الولد المنذور لله يجب أن يخضع للفرائض التي كان يأخذ بها " المنذورون "، في ذاك العهد، فلا يشرب خمراً ولا مسكراً، وأنه " سيمتلئ من الروح القدُس و هو بعد في بطن أمهّ ، فيسير أمام الله بروح إيليّا ، ويهيئ للرب شعباً مستعداً " . لقد كان لتلك الكلمات ، على حدّ ما نطق بها الملاك ، في قلب يهوديّ متضلعّ من علم الكتاب المقدّس ، معانٍ أشدّ روعة منها في قلب أيّ إنسان آخر : "سوف يردّ قلوب الآباء إلى البنين . .. " أجل ! لقد استعاد زكريا ذكرى تلك الأقوال التي أنبأ فيها ملاخي النبي بمجيء سابق المسيح ، " إيليّا الجديد "، الذي كان لا بدّ أن يمهّد بحياته ، سبيلاً إلى " يوم الرب العظيم الهائل " (ملاخي 3،4)

. بيد أن زكريا قي غمرة اضطرابه وتذبذبه في تصديق تلك البشرى، التمس من مخاطبه علامة : " كيف أعلم هذا ، لأني أنا شيخ وامرأتي متقدمة في أيامها . فأجاب الملاك وقال : أنا جبريل الواقف قدام الله وأرسلت لأكلمك وأبشرك بهذا ، وهاأنت تكون صامتاً ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته . . " لقد كان إبراهيم ( تكوين 5 1 : 8 ) ، وجدعون( قضاة 6 : 36 ) ، و حزقيال ( 2 ملوك 2. : 8)، هم أيضا قد التمسوا من العليّ آيات ولم يعاقبوا! ... كان ينبغي -ولا شك -أنُ يحوّط بالصمت الكامل ، السًر الذي بات وشيكاً

. ثم عاد زكريّا إلى قريته (وهي ، بحسب التقاليد، قرية عين كارم ، على مسافة 7 كيلومترات جنوبي غربيّ أورشليم ) ، وظلّ ينتظر فيها صامتاً . وبعد أيام حبلت امرأته ، فاختبأت خمسة أشهر، ثم إذ ظهر ما من اللّه به عليها ظهوراً بيّناً، خرجت تشيد بحمد اللّه

. ولمّا تمّت أيام وضعها ، ولدت غلاماً ، فأخذ الجيران والأقارب يشاطرونها الفرح ، وقد علموا الرحمة الكبرى التي كان الفتى مصداقا لها . وفي اليوم الثامن جاءوا ليختنوا الصبيّ . أوَ يسمّونه ، باسم أبيه زكريّا ؟ فأجابت أمه وقالت : " لا، بل يدعى يوحنا " . فقالوا لها : " ما من أحد، في عشيرتك ، يدعى بهذا الاسم " . وكانت العادة، في إسرائيل ، أن يسمىّ البكر باسم جدّه أو أحد أسلافه . وكان الوالد الأبكم ، ساعتها، في ركن من البيت ، يومئ بشيء يقوله . فأتوه بلوح ، فكتب : "اسمه يوحنا". وفي الحال انفتح فمه ، وانطلق لسانه ، وامتلٌأ من الروح القدس ، وأخذ يتنبّأ قائلاً : " مبارك الرب إله إسرائيل ، لأنه افتقد شعبه ، وصنع فداء لشعبه، وأقام لنا قرن خلاص ، في بيت داود فتاه ، كما تكلم بفم أنبيائه القديسين ،الذين هم منذ الدهر . . . وأنت أيها الصبيّ ، نبيّ العليّ تدعى، لأنك تتقدم أمام وجه الربّ ، لتعُدّ طرقه ، ولتعطي شعبه معرفة الخلاص ، بمغفرة خطاياهم . . . ليضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت " (لوقا ا: 75-8.)

. ذاك الرجل ا(ذ ي راحت الجموع تزدحم حوله ، عند المعبر، كان هو نفس ذاك الطفل المصطفى . ولا شك أنه كان قد نشأ في " القفر "، أي في إحدى تلك الجماعات الرهبانية التي كانت تقيم في بجوار البحر الميّت ، والتي كانت ، في الواقع ، تعنى بتنشئة بعض الفتيان . ثم إنه لبث بعد ذلك ، في القفر، ناسكاً أكثر منه راهباً على ما يبدو. وببضعة أشهر قبل بدء الأحداث التي يرويها الإنجيل - وكان له من العمر زهاء ثلاثين سنة - ترك العزلة والصمت وراح يكرز بكلمة اللّه . وصادف كلامه ، قي الناس ، إقبالاً سريعاً. ولا غرابة في ذلك، فقد كان الشعب اليهودي بأقصى الشوق إلى استماع أقوال كانت قد غربت عن ذهنه

. ليس من العسير أن نتمثل ذاك الرسول وقد هبّ ينذر بالعدالة الإلهية وينادي بالتوبة . إنه يبدو، ولا شك ، مستغرقاً في سني المسيح ، لا يحتلّ ، من الكتاب المقدّس ، سوى محلّ عابر. بيد أنه مع ذلك ، يوحي بحقيقة واقعة إيحاء فريداً . فإن وجوده ورسالته هما من الصحة التاريخية بحيث لا يرقى إليهما أي شك . وقد شهد لهما افلافيُوس يوسيفوس ( المؤرخ اليهودي الشهير) نفسه ، فضلاً عن الروايات الأربعة للإنجيل

. أجل ، لم يكن ممن نالوا الإعجاب ، فالمقرّعون ما كانوا من أهل الإعجاب إلا نادراً . كما أنه لم يكن ليملك شيئاً من الظرف ، فذاك النبيّ المجلجل ، وذاك النذير العنيف الناطق بوعيد اللّه وسخطه . ولكنه كان من الرجال الرجال : له عزم لا ينثني ، وشغف بالمطلق يسمو به فوق ذاته ، نار في قلبه لن يوفّق أحد في إخمادها، ولن ينجع في حبس لسانه إلاّ قطع رأسه . لا! لم يكن " قصبة في مهبّ الريح ! " . ولسوف يشهد له المسيح نفسه أن " لم يقم ، في مواليد النساء أعظم من يوحنا المعمدان "

. هوذا الرجل ، بعظامه الناتئة ، وإهابه الملطعّ بالأصوام ولسعات الشمس .. إنه لا يني عن الكلام ، تدفعه إليه قوّة الروح القدس . وأماّ ما يقوله فهو أقلّ ما يحب الناس سماعه : " التوبة ! . . التوبة ! . . " . ينبئ بالكوارث المروّعة، غير مكترث لما تقتضيه الأعراف والأوضاع . وكان يقول للجموع الآتية لسماعه : " من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فاصنعوا أثماراً تليق بالتوبة . ولا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً . لأني أقول لكم أن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم . والآن وضعت الفأس على أصل الشجر . فكل شجرة لا تصنع ثمراً جيداً تقطع وتلقى في النار " ( لوقا 3 : 7-9 ) حتى الملك هيرودس أنتيباس - وكاد المعمدان مقيماً في ولايته - لم ينجُ من تقريعه . وقد بكَّته المعمدان جهراً بامرأة أخيه التي كان قد تزوّجها سفاحاً . ألم يكن أشعياء وإرمياء قد أنذرا، قديماً، بأيّام الغضب ؟ أو لم يكن ناثان النبي قد تجرّأ على المثول أمام داود الملك وفضح جريمته ؟ أو لم يكن إيليا قد جابه آخاب وسخط إيزابيل الهائل ؟

كان لباس يوحنا-على ما جاء في إنجيلي مرقس ومتى - من وبر الإبل ، وعلى حقويه منطقة من جلد . وكان طعامه الجراد وعسل البرّ " . هذا الوصف الخارجي يكمّل ما نعرفه عن الرجل . وهو أقلّ غرابة مما يبدو لأوّل وهلة . فأمّا العسل - وهو من نتاج النحل البرّي - فإنه كثير في وادي الأردن ، ونجد ذكره مراراً في صفحات العهد القديم . وأمّا أكل الجراد فما هو بأكثر غرابة من أكل الضفادع والبزّاق في كثير من البلدان . وكان " سفر الاويين " يبيح أربعة من أصنافه المأكولة (لاويين 11 : 22 ) ؛ وفرائض الرهبان الأسينيين ، في قمران ، تأمر بأكله مشوياً . وهناك بدو يتخذون ، حتى اليوم ، من الجراد، أصنافا مكتنزةً ، صفراء بنفسجيّة، يجففونها في الشمس كالزبيب ، أو يسحقونها دقيقا لتتبيل الأطعمة . وهناك من يحفظونها في الخلّ . . . وأمّا لباس المعمدان ، فكفى به دلالة على مهمّة صاحبه . أوَ لم يكن إيليا قد ظهر بنفس اللباس ؟ " رجلٌ عليه شعر متنطّق . ممنطقة من جلد على حقويه " (2 ملوك ا: 8)

! لقد كان المعمدان إذن نبيأَ، واحداً من ذرّية أولئك الملهمين العظام الذين حافظوا، مدة خمسة قرون ، على شعلة المحبة الإلهية في قلوب بني إسرائيل . ولذلك فقد كانت الأمة اليهودية متأهبة لأن تستمع إلى كلامه ، وتأنس فيه صوتا جديداً وأليفاً في آن واحد . وأمّا أن تنقاد لكلامه فذلك شأن آخر . ولكم من مثل شهود الله هؤلاء قد قضوا بحد السيف

! فالمعمدان ، باستشهاده أيضاً ، سوف ينضم إلى تلك السلالة النبوية الحقة ، على حد ما صرح به المسيح يوم قال : " كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا " ( لوقا 16 : 16 ). أجل ! لقد كان ذاك الرجل الذي راح يكلم الناس ، عند ضفاف الأردن ، رسولاً من رسل الله الصادقين ، وحلقه في تلك السلسلة المقدسة ، سلالة الشاهدين لله ، في إسرائيل . وكانت تلك الحلقة هي الأخيرة


تعليم المعمدان

. لكي نسبر عمق النشوة التي استحوذت على يهود تلك الحقبة ، من جرى اعتلان ذاك النبي في ظهرانيهم ، ينبغي أن نشعر بما كانوا يشعرون به من لجاجة وجوى وحمية في ذاك الارتقاب الذي يحفل به صدر أصغر فرد من أفرادهم . فإنه لم يكن لهم من فكرة أو يقين أشد تلهباً من فكرتهم ويقينهم بتلك الرسالة العلوية التي أسندها الله إلى أمتهم منذ ألفي سنة . ولقد استمد اليهود من كونهم شعب الله المختار ، والأمة التي أخرجت للناس شهيدة للتوحيد ، عزماً تمكنوا معه ، في أعصب ساعات تاريخهم ، من تحدي جميع المكاره ، والذود عن رجائهم وأمانتهم . وتلك العقيدة التي ما فتئت الأحداث تكذبها كانت لم تزل راسخة في نفوسهم ، أكثر من أي يوم مضى : وهي أن يوم الفوز سوف يعود فيثأرون لأنفسهم من القدر الغاشم

. تلك كانت نفسية الشعب اليهودي في الأيام التي كان فيها المعمدان يعلم الجموع : نفسية حافلة بالإيمان ، زاخرة بالترقب . وكان ذاك الترقب ، يوماً بعد يوم ، يزداد تأزماً وقلقاً . لقد كانوا ، ولابد ، يتلون النصوص التوراتية ، حيث أنبأ دانيال " بالستة والتسعين أسبوعا من السنين " التي سوف تزول في إثرها الخطيئة ويكفرّ الإثم ويؤتى بالبرّ الأبدي ، وتختتم النبوءة، ويمسح قدوس القديسين " ( دانيال 9 : 4 2 - 26 )

فهل انتهت أسابيع السنين هذه ؟ وهل أوفت الآجال على نهاياتها؟


! لقد خرج الله عن صمته أخيراً، وبات في إمكان الشعب المختار أن يسمع من جديد أحد تلك الأصوات الأليفة الرهيبة ! ومن يدري ؟ لعلّ المعمدان هو المسيح بالذات

. ولذلك فمنذ أن شاع في أورشليم نبأ تلك الكرازة الغريبة ، أرسل زعماء الأمةّ - أو رؤساء الكهنة، كما كانوا يقولون - وفداً رسمياً يتحقق الأمر ؛ وكان مؤلفاً من بعض ثقات الكهنة واللاويين . فسألوه : " من أنت ؟ " . فأجاب يوحنا يصراحته المعهودة عن هذا السؤال الأول الذي وُجّه إليه : " إني لست المسيح ! " أجل ! بيد أن كل يهوديّ مثقّف يعلم ، منذ أيام عاموس ، " أن السيّد الرّب لا ينُفْذ كلمةً إلاّ أن يكشف سرّه لعبيده الأنبياء (عاموس 3 : 7 - 8 ) ويعلمَ أيضاً أن ملاخي قد أنبأ بأن المسيح سوف يتقدمه بشير يبشر بمجيئه . فهل كان يوحنا، أقلّه ، بشير تلك الأمجاد الإلهية، " إيليا الجديد " الذي وُعد به العالم ؟ - "أإيليا أنت ؟ " فقال : " لست إياه ! " . لقد كانت له قدَرة إيليا، وروح إيليّا، ولكنه لم يكن هو النبيّ العتيق الذي باتوا يترقّبون رجعته . -" فمن أنت إذن ؟ " - " أنا صوت صارخ في البرّية : قوموا طريق الرّب ، كما قال أشعياء النبي " (يوحنا ا : 23)، " إنه يأتي من هو أقوى مني ، الذي لست اهلاً أن أحلّ سيور حذائه . . .الذي رفشه بيده وسينقيّ بيدره ويجمع القمح إلى مخزنه ، وأمّا التبن فيحرقه بنار لا تطفأ . . . " (لوقا 3 : 16)

. هل كان الشعب اليهودي أهلاً لأن يعَيَ التعليم الذي راح المعمدان يوزّعه على الشعب عند المعبر؟ أجل ! إلى حدّ واسع . فهو عندما كان يطبقّ على ذاته الآية الواردة في سفر أشعياء (4. : 3)، كان يلتحق بتقليد راسخ : وهو أن نبياً سوف يظهر في البرّية " ويعدّ طريق الربّ " . وعندما كان ينادي بضرورة الإنابة إلى الله ، وحاجة الناس إلى " ثمار توبة لائقة "، وعندما كان يفرض على . تلاميذه " الإكثار من الصوم والمواظبة على الصلاة " (لوقا5: 33)، كان يندمج كل الاندماج في التقاليد النبوية : من عهد اشعياء، إلى إرمياء، إلى عاموس ، وسائر الأنبياء الذين تكلموا بمثل ذاك الكلام

. ولا غرْوَ فقد بات العالم قريباً من يوم حسابه : " ولسوف ينقيّ اللّه ، بصدقه ، جميع أعمال البشر، ويطهّرها بروحه "، على حدّ ما جاء في كتابات رهبان البحر الميتّ . فكيف السبيل إذن إلى توقيّ العقاب في يوم الدين ؟ - بالمحبة والعدالة والوداعة . وكان الجموع يسألونه قائلين : "ماذا نصنع إذن ؟ " فيجيبهم قائلاً : " من له ثوبان فليعط من ليس له ومن له طعام فليفعل هكذا " . وكان يقول للعشارين وسائر أضرابهم من الجباة " لا تستوفوا أكثر مما فرض لكم "، وللجنود: " لا تظلموا أحداً ولا تشوا بأحد، واكتفوا بعلائفكم " . مثل هذه النصائح ، كان بإمكان كل يهودي فاضل أن يستسيغها

. ولكن ، من جهة أخرى، كم كان خيّابا ذاك النبم يّ الجديد ! فإنه لم يعلن ولا مرة واحدة أن ذاك المسيح الذي راح يعلن نفسه بشيراً به ، سوف يعيد إلى إسرائيل سالف مجده وسطوته . وهو ، إلى ذلك ، لم يحصر تعليمه في العبرانيين الخُلّص ، وأهل الفضيلة من المواظبين على التأمّل في الشريعة، بل راح يقبل بين يديه أقواماً من العشارين الذين بات إثمهم في الناس أمراٌ مكشوفا، وجماعات من الجنود وحتى من الوثنيين . وأمّا الشعب المختار فكان المعمدان يتجرّأ عليه بقوله : " لا تبتدئوا تقولون في أنفسكم لنا إبراهيم أباً (أي إننا متيقنون من الفوز لأننا من ذرية شعب الموعد ! ) ، لأني أقول لكم : إن اللّه قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم ! " ( لوقا 3: 8) . أجل ! لقد قام في إسرائيل بعض الاتجاهات الداعية إلى الشمول ، بيد أن القوميّة اليهوديةّ الطناّنة التي تميّزت بها الحقب الأخيرة من تاريخهم ، لم تكن لتقبل تلك الكلمات إلا وتوجس منها حنقا وغيظاً

. وكان يوحنا، إلى هذا كله ، يقوم بشعائر التعميد، على طريقته الخاصة . ولا يعني ذلك أن التعميد كان غريباً عن التقاليد القديمة، ولاسيّما التقاليد الإسرائيلية . فلقد كانت شعائر الوضوء شائعة عند اليهود، ومفروضة في سفرين من كتبهم المقدسة . (سفر الاويين، سفر العدد ) . وكان الأسينيوّن يمارسونها على أوجه كثيرة، منها الاغتسال اليومي . ويرُى اليوم أتباع بعض المذاهب القديمة ( الصابئة ) يعمدون إلى ذاك الاغتسال ، كل نهار، في ضفاف نهر الأردن

.. ولكن العماد، قبل يوحنا، لم يكن سوى لون من الشعائر الخارجية . ولا جرَم أن غسل الجسد بالماء يوحي ، بطريقة عفوية، بتطهرّ النفس من أوزارها . أوَ لم يرد في العهد القديم : " اغتسلوا وتنقوا اعزلوا شرّ أفعالكم من أمام عينيّ ، كفّوا عن فعل " (أشعياء 16:1 ) " وأرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من جميع نجاستكم ، ومن كل أصنامكم اطهروا" ( حزقيال 36 : 25 ) بيد أن معمودية يوحنا كانت تختلف عن ذلك اختلافاً كبيرا . وذلك أنها كانت " معمودية توبة "، أي أنها كانت تدلّ ، بدلالة خارجية، على الرغبة الصريحة في الإنابة إلى اللّه . فالوضوء الموسوي لم يكن سوى اغتسال ضروري ، قبل القيام بعمل ديني . " والمعمودية "، عند الأسينيين ، لم تكن سوى حفلة لقبول المريد، بعد سنة من التدريب ، ضمن الجماعة الرهبانية، والترخيص له في ممارسة الغسلات (الوضوء )اليومية . وأمّا المعمودية التي كان ينادي بها المعمدان فكانت مشروطة بتبدّ ل كامل في السلوك . فالدخول في الماء كان ، في نظر يوحنا، دليل التوبة إلى الله ، والتوبة عن المعاصي . ومن ثمّ فلم تكن تلك المعمودية، لتُمْنحَ - على ما يبدو- إلاّ مرّة في العمر، كبداية لحياة جديدة .

والواخ أن يوحنا ، في ذلك أيضاً، لم يخرج عن نطاق مهمته . فهو قد أرشد إلى الطريق ، ولكنه لمَ يجْرِ فيها حتى النهاية . فمعموديته هي غير المعمودية المسيحيّة، حيث الماء هو أكثر من هذا الرمز ( قيمةً ) ، بل أكثر هي أكثر من ذلك ، إذ تستمد رمزها من عمل المسيح نفسه كموت وقيامة في حياة جديدة مملؤة بالروح القدس . وذلك الفرق الجوهري قد أشار إَليه المعمدان نفسه ، يوم صرّح ، في تواضعه السامي : " أنا أعمّدكم بماء، ولكن يأتي من هو أقوى مني . .هو يعمدكم بالروح القدس ونار " (لوقا 16:3)

: كل هذا ، قد لخّصه يوحنّا الإنجيلي ، في أربع فقرات حاسمة

"كان إنسان مرسل من الله ، اسمه يوحنا

هذا جاء للشهادة ، ليشهد للنور، لكي يؤمن الكل بواسطته

لم يكن هو النور ، بل ليشهد للنور

كان النور الحقيقي ، الذي ينير كل إنسان ، آتياً إلى العالم "

( يوحنا 1 : 6 - 9 )


معمودية يسوع على يد يوحنا

. في الحشد المزدحم حول النبيّ لسماعه ، احتجب إنسان لم يكن أحد ليعيره انتباهاً . وكيف يسترعي الانتباه ، ولم يكن في قدّ ه ، ولا في تقاسيم وجهه ، أي ملمح خارق . إسرائيلي من بين الإسرائيليين ، لا هو عضو في السنهدرين ، ولا هو بكاهن ، بل ولا حتى من اللاويين . ولم يكن من علية القوم ولا من علمائهم . وكان يرتدي ، على حسب الشرع ، قميصاً من كتّان بأكمامٍ مسترسلة، وعباءة من صوف تزينها الأهداب المقرّرة في أسفار الشريعة . ولا شك أنه كان يعتمر " الكوفيةّ " وهي المنديل الذي لا يزال يعتمر به عرب فلسطين

. وأمّا اسمه فكان من عامة الأسماء : يسوع . وهو من تلك الألفاظ القديمة المتواترة في اللغة العبرية، والمشتقة من اسم الجلالة، والتي رجع اليهود إلى تعزيزها إثر عودتهم من السبي . وهناك أشخاص كثيرون قد عُرفوا باسم " يشوع " أو " يسوع " . وقد ذكر يوسيفوس ، في تاريخه ، بهذا الاسم ، زهاء اثني عشر شخصا : منهم الفلاحّ ، والزعيم ، والمتمرّد، والكاهن . .

وقد كان ولا شك ، يحمل فوق أذنه قلامة خشب رمزية، إشارة إلى حرفة النجارة التي كان يمارسها، كما أن الصبّاغين كانوا يحملون قصاصة من قماش ملوّن ، والكتبة ريشة . ولاشك أيضاً أن لهجته كانت تدلّ على منبته الجليلي . . . بيد أن النجّارين كانوا ولا ريب ، كثيرون بين الشعب المزدحم حول المعمدان . وأما أن يكون يسوع من الجليل ، فما كان ذلك من الميّزات الخارقة ؛ ولا شك أنه . لم يكن أوّل رجل يقبل إلى المعبر من تلك المنطقة الناثية، بعد مشقة أربعة أو خمسة أيام سفَرَ

. ومع ذلك فأي إحساس اخترق نفس يوحنا ساعة اقترب منه يسوع ؟ .

. لقد طفق يمانع ويعتذر . وأيقن أن تلك المعمودية التي فرضها على الجميع تطهيراً لهم من الأوزار، لم تكن لتليق بذاك الرجل : " أنا محتاج أن أعتمد منك وأنت تأتي إليّ ! " . فأجاب يسوع وقال له : " اسمح الآن ، لأنه هكذا يليق بنا أن نكمّل كل برّ" (متى 3 : 4 ا- 15). في هذه اللحظة التيّ اعتلن فيها المسيح ، نراه - كما سيكون سحابة حياته كلها- غير مكترث لكل ما هو من أمجاد العالم الزائفة، بل متابعاً، في يقين رسالته الإلهية، هدفاً بات مطوياً في سرّه

. امتثل المعمدان لأمر المسيح ، وطفق يقوم بمراسيم تعميده . وإذا به يرى الروح ينزل عليه ، على شبه حمامة من السماء ، و يَحلّ على يسوع فور خروجه من الماء ؛ فعرف إذ ذاك أن ما أنبأه به الله يوماً قد تحقق في تلك اللحظة، وفهم ذاك المعمِّد بالماء أن المعمِّد بالروح القدس قد ظهر للناس . يا لها لحظة مجد وإعجاز ! " فقد انفتحت السماوات ، سمع صوت من العلاء يقول : هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت ! " (متى 3 : 17؛ يوحنا ا:32) بيد أن مهمةّ يوحنا لم تنته مع معمودية يسوع . فلئن كان آخرون - ولا سيما رهبان قمران - قد أنبأوا بقرب مجيء المسيح ، ودنوّ رحمة الله ، فقد كان عليه - يوحنا - أن يشهد أن تلك الرحمة قد تحققت ، وأنّ الروح قد أفيض ر على البشر . وعلى كلّ فقد كان المعمدان قد أنبئ، سلفاً، بتلك المهمة ؛ والذي أرسله كان قد أوعز إليه قائلاً : " إن الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه ، فهذا هو الذي يعمّد بالروح القدس " (يوحنا ا:33) . ولذلك ، فإذ أبصره ، في اليوم التالي ، مقبلاً إليه ، صاح قائلاً : " هوذا حمل اللّه الذي يرفع خطيئة العالم . . . ". إن لفظة الحمل وحدها كانت تبعث في نفس كل يهوديّ صورة الأضحيّة المبذولة كفّارة عن المأثم ، والحمل الوديع الذي بات منذ الخروج من مصر، ومنذ عهد موسى، يفتدي إسرائيل بدمه . ولا شك أن بعض الذين طرقت آذانهم تلك الكلمات ، قد ذكروا النصوص النبويّة المتضمنة في سفِرْ أشعياء : " أما هو ، فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه . . . " (أشعياء 53 : 7 ) ذكروا تلك النصوص التي أنبأ فيها الرائي العظيم ، بالمسيح المتعذب، والأضحية المبذولة فدية عن الناس ، كل الناس

. وهكذا تحقق في الأردن سرّ عميق . فلم يعد بالإمكان أن تُفْصل عن صورة ابن اللّه الموفد من السماء، صورة ، الضحيّة المعدّ ة للفداء الدامي