الأم الـعــذراء

الطفل – الإله            

caravan.gif (1087 bytes)

"ابن العلي يدعى … ( لوقا 1 : 32 )


. ألف ذكرى تنهال على الذهن كلّ مرّة نستعيد فيها الأحداث التي يرويها الإنجيل عن منابت يسوع الأرضية . فتلك الأسرة الصغيرة الآوية إلى كهف من كهوف البهائم ، وتلك الأمّ الفتية الحانية على صغيرها، تقمّطه وتضجعه ، وذلك الطفل الإلهي الراقد فوق حفنة من تبن المزود، يدفئه الحمار والثور بأنفاسهما

. أي مسيحيّ لا يحمل ، حتى يومنا هذا، مثل تلك الصور في ذاك الركن الدفين من وجدانه ، حيث تصمد، في وجه الشك وسورته ، بتلك المملكة من السحر والحنان . لقد حلمنا كلّنا بتلك الليلة الشفافة التي انطلقت فيها جوقة من الملائكة، تسبحّ الله وتعد العالم بالسلام والرحمة من العلاء . .

. أجل ليس من عيد، في المسيحيّة، أوسع شعبيّة من عيد الميلاد. فلقد كتب له دون سواه ، أن يجمع في غمرة واحدة من الحبور، أولئك الذين يستعيدون به ذكرى ميلاد اللّه ، وأيضاً الذين لا يحفلون بمعناه . . .أمّا الوثائق التي نستمد منها معرفة تلك الأحداث ، فهي زهيدة . فالرسولين مرقس ويوحنّا لم يأتيا على ذكرها في إنجيليهْما، ولا الرسول بولس في رسائله . وأمّا الرسولين متى و لوقا، فقد خصّاها، وحدهما، ببعض الفصول ، على سبيل التمهيد والتقديم . ويُذهب اليوم إلى أن هذه الأجزاء من كلا الإنجيلين ، لا ترقى إلى مجموعة التعاليم المتضمنة في الكرازة البدائية، بل أضافها الكاتبان استناداً إلى مصادر خاصة . .


. ما هي تلك المصادر ؟ هي ، ولا شك ، تلك الأوساط التي عاش فيها المسيح . فالقديس لوقا قد صرّح ، مرتين ، أن مريم "كانت تحفظ جميع هذا الكلام ، متفكرة به في قلبها " (لوقا 2 : 19 ، 51) . وأما الفروق التي وقعت بين روايتي لوقا ومتى، فيعللها أن الكاتبين قد استقلاّ أحدهما عن الآخر، في تقصي الأحداث واستقاء الأخبار . وعلى كلّ فليس من شكّ في أن تلك الأحداث لم تكن وليدة المخيلة الشعبية ، وذاك الاستنباط القومي الذي لا يقوى إلاّ أن يهوى سريعاً في السخافة . حسبنا ، للتيقنّ من ذلك ، أن نقارن بين مؤديات الإنجيلين القانونيين ، ومحتويات الأناجيل المنحولة : فمن جهة ، نجد الاعتدال والترصّن ، حتى فَي رواية الأحداث المعجزة، ومن جهة أخرى ، نجد التمحلّ والتزيّد والإسفاف . أجل ، نحن لا ننكر أن الأحداث التي تروي طفولة المسيح قد تتشح ، أحيانا، بوشاحٍ من الشعر والمثاليّة . بيد أن ذلك لا يمنع ، البتّة، من الاعتقاد بأنها تنتسب إلى التاريخ انتساباً لا يرقى إليه ريب



"مدينة داود التي تدعى بيت لحم " ( لوقا 2 : 4 )


. قبل ظهور يوحنا المعمدان في الأردن بثلاثين سنة ، تقريباً ، جرى إحصاء في بلاد فلسطين . والواقع أن اليهود لم يكونوا ليأنسوا كثيراً إلى مثل تلك الإجراءات الإحصائية ، حيث يمسي الإنسان - وهو الكائن الفذّ - رقماًُ يعدّ كالدواب بالمئات والألوف . وكان موسى قد تعنّت كثيراً في أنُ يخضع لها القبائل اليهودية . أمّا روما فكانت تفرض على جميع سكان الأقاليم أن يدونوا في سجلاتها الرسمية، بأسمائهم ، وحِرفهم ، وكميةّ ثرواتهم . وهكذا كان يسهل عليها وضع قاعدة للضرائب ، وتقدير الطاقات العسكرية في أزمنة الحرب . فمن المحتمل أن تكون روما قد فرضت تلك الفريضة على المملكة اليهودية الصغيرة التي كانت عائشة في ظلّها، إلاّ إذا افترضنا أن هيرودس ، في مسارعته الدائمة إلى مداهنة السلطة الحامية، قد تبرعّ بتنفيذ القرار في بلده . وكانت عمليّة الإحصاء، في فلسطين ، تستتبع مشكلة خاصة : فالتسجيل لم يكن يتمّ في محلّ الإقامة، بل في المنشأ الأصلي الذي كانت تنتمي إليه كل أسرة . ولا غرو، فقد كانت التقاليد العائلية راسخة في إسرائيل ، منذ أقدم العصور، وازدادت رسوخاً من بعد الجلاء، من يوم أخذت الأمّة اليهودية تعمل على صيانة العنصر العبراني ، وتحريم الزواج بالأغراب

. " ففي تلك الأيّام صدر أمر من أوغسطس قيصر، بإحصاء جميع المسكونة : فأخذ الجميع ينطلقون ، كل واحد إلى مدينته ، لكي يكتتبوا . وصعد يوسف أيضاً من الجليل ، من مدينة الناصرة، إلى اليهودية، إلى مدينة داود التي تدعى بيت لحم - فإنه كان من بيت داود، ومن عشيرته - لكي يكتتب مع مريم امرأته التي كانت حبلى " (لوقا 2: 1 – 5 )

. من كان هذان الزوجان اللذان نراهما، من خلال رواية الإنجيل ، وقد ذهبا في الدروب ، امتثالاً لأوامر القيصر؟ أسرة مترابطة بروابط الزواج المقدس ، وبأواصر التعاطف ، على حدّ سواء ! وإلاّ فهل كان من الضروري أن تجابه تلك المرأة الفتيّة-وهي في حالها- وعورة السفر، مع العلم بأن الرجال وحدهم ملتزمون بفريضة الإحصاء، لولا أن الزوجين قد وَطّنا العزم على التكافل فى تحمّل تلك السخرة؟. . لقد كانا، ولا شك ، من الفقراء، رجلاً وامرأةً من الشعب الكادح ، من أولئك المتواضعين الذين لهم من شهامتهم ثروةٌ دونهَا ثروة مالهم ، والذين تجدهم السلطات ، دوما، على أهبة الانقياد والخضوع


. أمّا الرجل ، فكان عاملاً ، نجّاراً ، واحداً من أولئك المهَنيين الريفيين الذين كانوا يولّفون السواد الأعظم من أهل فلسطين ، والذين كان لهم من الورع والنظام والجدّ في العمل ، ما مكنّ الأمّة اليهودية، بعد رجوعها من بابل ، من أن تتأصل من جديد في تربة الأجداد . وكان اسم الرجل يوسف . وهو اسم عريق جدّ اً في إسرائيل ، سميّ به ، من بين أبناء يعقوب ، ذاك الذي سجّل له التاريخ ، في مصر، أمجاداً باتت مدوّنة في الكتاب المقدّس . وأمّا يوسف هذا، فقد حوّط الإنجيل ذكره بالخفاء والتواضع والصمت ، فلا ترى له فيه صورة بارزة، بل ملامح يشتم منها رجل قد بلغ شأواً من النضوج وتلقن من خبرة الحياة حكمة ورزانة


أمّا الزوجة فكانت ، ولا شك ، أحدث منه سنا . فقد كانت العادة تقضي بتزويج الفتيات فور بلوغهن ، بينما كان الرجال يتريّثون حتى الخامسة والعشرين وأكثر . والواقع أن الفتاة اليهودية، منذ سنهّا الرابعة عشرة، كانت تبدو عليها مظاهر المرأة المكتملة . وكان اسم الزوجة مريم . وهو أيضاً من الأسماء التي كانت شائعة في فلسطين ؛ ورّبما رجع أصله إلى عهد الهجرة إلى مصر . وهو قريب ، لغةً ، من معنى " السيّدة "


. كانا فقيران ، بلا أدنى شك ! ولكن ، هل كانا، يقينا، من نسل داود؟ ليس في الأمر ما يحمل على الاستغراب ، فقد كانت ذرّية داود وسليمان ابنه على جانب من الكثرة، وإن لم يكن جميع أفرادها قد لزموا المناصب العالية، والمراكًز الوجيهة . . . أمّا انتساب يوسف إلى بيت داود، فقد أثبته اثنان من الإنجيليين : القديس متى، في مستهلّ كتابه ( 1 : 1 –17 )، والقديس لوقا ، في مطلع أحداث سيرة المسيح العلنية (23:3-38) . ولا شك أن قضية الانتساب هذه ، كانت على جانب من الخطورة ، إذ كان شائعاً، في الناس ، أن المسيح سوف يكون من نسلً الملك الأعظم ، " وغصنا من جذع يسّى " ، على حدّ ما ورد في نبوءة أشعياء . فأمّا الفروق التي وقعت بين نصّي متى ولوقا ، في إثبات لائحة النسب ، فليس فيها كبير شأن ؛ فإنّ جوهر النصّين واحد : وهو إثبات حقيقة ذاك الانتساب ، على ما هنالك من تباين -رّبما كان متعمّداً - في التفاصيل


. وأمّا انتساب مريم إلى ذريّة داود، فهو من التعاليم التقليدية . وقد أشار إليه القديس بولس - على ما يبدو - في رسالته إلى كنيسة روما ( 1 :3 ) ، وأثبته آباء الكنيسة منذ القرن الثاني ، ويدعمه أن اليهود كانت لهم عادة شائعة جدا في زفاف الفتاة إلى أحد أقاربها الأدنيين ، وذلك لأسباب شرعية ، في أغلب الأحيان . .


. لقد توجّها إذن إلى بيت لحم : وهي المدينة التي ورد عنها في الكتاب المقدّس ، أنها مسقط رأس الملك العظيم ( 1صموئيل 6:2. ، 28) . فإنه في حقول بيت لحم ، وفي إحدى ليالي الحبّ - ألفَ سنة قبل المسيح - كانت راعوث ( راجع سفر راعوث بالعهد القديم )المؤابية قد استهوت قلب بوعز سيّد تلك الحقول . ومن زواج ذاك السيد الكريم بتلك الغريبة الفقيرة التي جاءت تلتقط السنابل في أرضه ،ولدَ عوبيد، ومنه وُلد يسى ذاك الجذع المتين الذي كان داود أجمل فروعه


. كانت الشقة بعيدة بين الناصرة وبيت لحم : 15. كيلومتراً تقريبا. وكانت الطرق لم تزل وعرة، إذ لم تكن روما قد تفرّغت بعد لتعبيدها، بمقتضى أساليبها الخاصة . فكان يجب ، لقطع تلك المسافة، أربعة أيّام كاملة، على ظهر الحمار - تلك الدابّة الشائعة التي كان أفقر الناس يملكونها . فبعد اجتياز سهل عزر يلون ( هو السهل المعروف اليوم بمرج أم عامر ) ، كان المسافر يوغل جنوباً، من قرية إلى قرية، يستعيد، في كل منها، ذكرى الأحداث السالفة، والأبطال العظام الذين حفل بهم تاريخ إسرائيل . ثم كان يفضي إلى السامرة، فينقبض لمرأى تلك الأرض الطاهرة التي كانت محتفظة بصريح يوسف وبئر يعقوب ، والتي أمست أرض كفر وشقاق . ثم كان ينتهي ، أخيرا، إلى بلاد اليهودية ، بأرضها الجافية الحمراء المتموّجة إلى أقصى ما يمدّ إليه النظر. .. ولكن ، عندما كانت تبرز أورشليم ، فجأة، من منفذ أحد الشعاب ، بقمم أبراجها ، كان كل إسرائيلي ينعصر قلبه من التحنان ، وتلتمس عيناه الهيكل ، وينطلق لسانه بنشيد مزمورٍ من مزامير " المراقي "، يصعّد فيه شكره للّه ، وفرحه المتوثّب

! بعد مسيرة ساعتين من أورشليم ، وبعد الترحّم - في الطريق – على قبر راحيل - تلك الأمّ الثاكل - كان يُبلْغَ أخيراً إلى بيت لحم . . .تلك المدينة البيضاء الجاثمة، على علو 8.. متر، فوق منحدرات هضبتين توأمتين ، ما كان أبهج منظرها، بعد تلك الوعورة الموحشة التي لم يكن فيها ما يذكّر بالحياة سوى بعض الشجيرات ، وبعض البراوق والشقائق الحمراء

هناك ، في الأفق البعيد، كانت الصحراء تمتدّ ، تارة أخرى ، موغلةً حتى شواطئ البحر الميّت ، محدّبة كأنها ذوب رصاص قد تجمد فجأةً . وأمّا ما حول القرية، فكان كلّه رياض وحقول شقراء، وزيتون فضّي ! لقد كانت خليقة باسمها ، قرية بيت لحم ، أي : بيت الخبز، بحسب المدلول الشعبي ؛ وكانتُ تعرف أيضاً باسم "أفراتة " أي " الكثيرة الفواكه " . لقد كانت ، ولا شك ، على عهد المسيح ، أصغر منها اليوم ؛ بيد أنها لم تكن حقيرة، بل كانت تعي ، حق الوعي ، محتدها القديم الحافل بالأمجاد . أو لم يكن ميخا النبي قد أنبأ، يوماً، بمصيرها السنيّ ، حيث قال : " وأنت يا بيت لحم ، أفراتة وأنت صغيرة بين ألوف يهوذا، فمنك يخرج لي الذي يكون متسلطاً على إسرائيل ، ومخارجه منذ القديم ، منذ أيام الأزل " (ميخا 5: 2)

. فهل كان بالإمكان أن تغرب تلك النبوءة عن ذهن يوسف ومريم ، وقد كانا من نسل داود، وعلى علم ، خصوصاً ، بالمعجزة الكبرى التي كان جنين مريم مصداقها ؟ لقد كان يدعمهما رجاء عظيم ؛ وربما كان يراود قلبيهما أن قيصر لم يوقعّ على قراره ، ولم يجيّش موظفّيه وكتبته ، إلاّ لكي يتحقق ، على يده ، ما كان مكتوباً منذ الأبد . ولا غرابة في ذلك ، فإن نوايا الله تبقى مطويةّ عن البشر، وأكثر الناس سلطاناً إنما هم ، بين يدي الله ، آلات طيّعات



الأم – العــــذراء


. كان ذلك قد جرى، من قبل سنة ، في الناصرة ، تلك القرية التائهة ما بين هضاب الجليل النائي ، موطن ذينك المسافرين . وكانت مريم ، يوم ذاك ، مخطوبة ليوسف . فجاءها ملاك وقال : " سلام لك ،أيتها الممتلئة نعمة ، الربّ معك ! . " فاضطربت مريم لمرآه ، وفكرّت ما عسى أن يكون ذاك السلام . فقال لها الملاك : " لا تخافي يا مريم ، لأنك قد وجدت نعمة عند الله . وها أنت تحبلين ، وتلدين ابنا ، وتسمّينه يسوع . هذا يكون عظيما ، وابن العليّ يدعى . ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه ، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد ولا يكون لملكه نهاية " . فأجابت مريم قائلة : " كيف يكون هذا ، وأنا لست أعرف رجلاً ؟ " . فقال الملاك : " الروح القدس يحل عليك ، وقوة العليّ تظلّلك ! فلذلك أيضاً القدّوس المولود منك يدعى ابن الله " ( لوقا 1 : 29 - 35 )


. لقد حاول الفن أن يمثّل ذاك المشهد الرائع بصور زاهية، وضمن إطارات خلاّبة . إلاّ أن عالم الآثار قد جاءنا ، عن الناصرة، بتفاصيل أقلّ فخامة وأبّهة . فقد كشف لنا عن مساكن متواضعة جداً أشبه بالكهوف ، مكونة ، في أغلب الأحيان ، من غرفة واحدة، مشطورة نصفين : نصفٍ للبهائم ، ونصف للأسرة ؛ أو عن بيوت من لَبنٍِ منخفضة ، مربعّة، منثورة ما بين كرومً الزيتون


. !ن الكنيسة الحديثة المبنية ، على اسم " البشارة "، في الموضع الذي قامت فيه ، على ما يظن ، كنيسة قديمة ، من عهد قسطنطين تحضن ، تحت مذبحها الرئيسي ، معبداً أرضيا ضيقاً ، يذهب التقليد إلى أنه الغرفة التي كانت تقيم فيها العذراء ، ساعة حضر إليها الملاك


. وأمّا الكلام الذي توجّه به الملاك إلى مريم فكان من شأنه أن يغمر نفس تلك الفتاة ذهولاً وتواضعاً. بيد أنه لم يكن بحيث يستغلق عليها استغلاقاً تاماً . فقد كان قلب كل فتاة يهودية ، وإن لم تكن قد أكملت ربيعها الخامس عشر، حافلا بترقب المسيح ، كقلب كل فرد من أفراد تلك الأمّة . وإذا كانت تلك الفتاة من ذرية داود، أفما كان يحق لها أن تأنس إلى الأمل بأن تكون هي الغصن الذي قد تتفتحّ عليه ، " من أصل يسّى "، زهرة المنتهى ؟ على كلٍ ، كان الوعد الذي نطق به الملاك منسجماً ، في صيغته ، انسجاماً تاماً وما كان مأنوسا عن فكرة المسيح . فهو لم يبشّر العذراء بالمسيح المتألم ، والضحية المقدسة ( ولسوف تنبأ به ، فيما بعد، يوم تقدمة يسوع إلى الهيكل ) ، بل أعلن لها أن الله سوف يهب ابنها عرش داود، وصولجان بيت يعقوب إلى الأبد . ولذلك ، فقد اكتفت العذراء بطرح سؤال بسيط جدّاً، بديهي

. أجل ! لقد كانت البشرى التي جاء بها الملاك من ساميات الغيوب ؛ ولكنها كانت لابد إلىّ أن تحدث مشكلة في مستوى الحياة البشرية ، وأوضاعها المألوفة . فقد كانت مريم مخطوبة ليوسف . ومعلوم أن معنى الخطبة، عند العبرانيين ، كان قريباً جدّ اً من مفهوم الزواج . وكان للخطبة جميع امتيازات الزواج ، ماعدا المساكنة . ومن ثمّ ، كانت الخطيبة تخضع لناموس خطيبها سنة قبل الزواج ، إذا كانت بكراً ، وشهراً ، إذا كانت أرملة . وكان ، إذا ولد طفل في فترة الخطبة، يحسب ولداَ شرعياً . لقد كانت الأمانة " الزوجية " إذن فريضة صارمة من فرائض الخطبة ، والخطيبة الحانثة بعهودها تعتبر زانية ، وأهلاً ، إذا وشى بها خطيبها ، للعقاب المقرّر في سفر " التثنية " ( 22 : 23 ) : أي الموت


. فلمّا حبلت مريم " لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس ، فيوسف رجلها إذ كان باراً ولم يرد أن يشهرها أراد تخليتها . وفيما هو متفكرّ في هذه الأمور ، إذا ظهر له ملاك الرب ، في حلم ، قائلاً : " يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك مريم لأن الذي حبل به فيها إنما هو من الروح القدس " (متى ا : 18 - 2. ) وكما آمنت العذراء بكلام الملاك ، آمن يوسف أيضاً بما أوحي إليه في الحلم . .


. بعد ذلك بزمن يسير، كان لا بدّ أن تجري آية أخرى وتؤيّد المعجزة التي أكرِمت بها العذراء . فالملاك كان قد قال لها ، برهاناً على صدق وعده : " هو ذا أليصابات نسيبتك هي أيضاً حبلى ، بابن في شيخوختها . وهذا هو الشهر السادس لتلك المدعوة عاقراً " (لوقا 1 :36) . فقرّرت مريم أن تتحقق بنفسها الخبر اليقين ، وقد بات له علاقة وثيقة بأمرها . فنهضت لتلك الرحلة الطويلة إلى اليهودية ، وبلغت إلى بيت زكريّا ، وسلّمت على أليصابات . " فلمّا سمعت أليصابات سلام مريم ، ارتكض الجنين في بطنها . وامتلأت أليصابات من الروح القدس ، وصرخت بصوت عظيم، وقالت : " مباركة أنت في النساء، ومباركة هي ثمرة بطنك فمن أين لي هذا : أن تأتي أمّ ربي إليّ ! فهو ذا حين صار صوت سلامكِ في أذَنيّ ، ارتكض الجنين ،بالابتهاج ، في بطني . فطوبى للتي آمنت أن يتمّ ما قيل لها من قبل الرب " (لوقا 1 : 4. - ه 4 )

. في تلك اللحظة عينها استحوذ روح النبوّة على الزائرة الفتية أيضاً ، فانطلقت في نشيد شكر للعليّ الذي أعلن مجده للناس . وانبعث النشيد، من شفتيها (على نمط تلك التسابيح الرائعة التي باتت في التقاليد الإسرائيلية لونا مستحبّا ) محكم الإيقاع ، مبنيا بحسب أساليب الطباق والموازنة، مجبولاً بالشواهد الكتابية، (فيه ، مثلاً ، شيء من النشيد الذي ارتجلته حنّة، أمّ صموئيل ، يوم رزقت طفلها ( 1 صموئيل 2: 1). ونشيد العذراء هذا، لا تزال الكنيسة ، حتى اليوم ، تردده في صلواتها الليترجية ، للتعبير عمّا تشعر به في تواضعها السحيق ، من الافتخار بالرسالة التي اصطفاها اللّه لهما : (لوقا 1: 46- 55 )

"تعظم نفسي الرب

وتبتهج روحي بالله مخلّصي

لأنه نظر إلى اتضاع أمته

فهو ذا منذ الآن جميع الأجيال تطو بني

! لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدّوس !

! ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه

صنع قوة بذراعه . شتت المستكبرين بفكر قلوبهم

أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتضعين

أشبع الجياع بالخيرات ، وصرف الأغنياء فارغين

عضد إسرائيل فتاه ، ليذكر رحمه على كما كلم آباءنا إبراهيم ونسله إلى الأبد


. هكذا ، عند مستهلّ الإنجيل ، وذينك المشهدين الرائعين : البشارة، والزيارة، تنتصب العذراء مريم بملامحها المؤثرة . فإن ما يكرمه المسيحيوّن فيها إنما هو ذاك المثال المزدوج : مثال الطهر السامي ، الذي يحنّ إليه ، في قرارة نفوسهم ، أس ز الناس إمعاناً في المراغة ؛ ثم ذاك الحنان الفائض ، الشامل،، الذي تتصف به الأمومة البشرية


. إن تأنس ابن الله لم يكن ليتم إلاّ بموافقة الإنسان ، واشتراكه مع اللّه عملاً وإرادة . بيد أن خلاص البشر موقوف أيضاً على إرادة العلي . ذلك ، ولا شك ، ما قصد إليه النبيّ ، يوم أنبأ بأن ابن العذراء يدعى عمّانوئيل ، ( اشعياء 7: 14 ) وما عناه الملاك أيضا ساعة أخبر العذراء أن ابنها يدعى يسوع . (متى ا : 2 ) . فإن اسم " عمّانوئيل " يعني " اللّه معنا "، واسم يسوع : " الله مخلصنا " . فكلا الاسمين لهما مدلول جليّ : وهو أن ذاك المولد العجيب كان لا بدّ أنُ يخرج للدنيا مخلصها




الميــلاد


. لقد كان بوسع المسافرين أن يأويا إلى البناء الفسيح الذي كان قائماً عند مدخل بيت لحم ، والذي يدعوه البشير لوقا " نزلاً " . ولعل ذاك النزل كان قد حلّ محل " خان كنعان "، الذي كان الجلعاديّ ، ابن أحد أصدقاء داود، قد شيده لإيواء قطعانه ، عشرة قرون قبل الميلاد

. تلك الخانات التي لا يزال مثلها قائماً في الشرق ، لم تكن أسباب الراحة لتتوفّر فيها. فهي فسحة مكشوفة يطوف بها سياج مربعّ ، وتزدحم فيها البهائم . وأمّا الآدميون فلهم فيها سقيفة من خشب يأوون إليها كيفما اتفق الحال . وهناك أيضاً بعض الحُجر الضيقة، ولكنها نادرة، وتؤجر بأثمان باهظة جدا بالنسبة إلى أوضاعها الرثّة

! ذاك الفندق المُشْرَع للرياح الأربع ، كان بوسع الزوجين المرهـقين ، أن يأنسا إليه لو لم يكن الازدحام قد سدّ فيه المسالك كلّها . لقد كان مزدحماً بالأحياء : فإلى البدو الذين كانوا يؤمون بيت لحم ، عادة، لشراء الحنطة، وبيع الأنسجة والألبان –كما هو دأبهم ، حتى اليوم – كان قد انضاف ، يوم ذاك ، كل الذين جاءوا للاكتتاب . ومن اليسير أن نتمثل ذاك الحشد المزركش ، وتلك العربات المتراصّة ، وذاك الجلب الصاخب : فالجحاش تنهق ، والإبل تضطرب في عقالاها، وبعض النساء يتنازعن زاوية حائدة عن مضارب الرياح وفوق جميع ذاك البشر اللاغب تحوم رائحة الشحم المحمش ، تلك الرائحة التي تفوح من الجماهير الشرقية، بلا استثناء، من اليونان حتى مصر، ومن الجزائر وحتى طهران . . . فمن البديهي إذن ، والحالة هذه ، أن يكون يوسف قد انتحى بمريم بعيداً عن تلك الجَلبَة

. لاسيما وأن الساعة كانت قد حانت ، " وبينما هما هناك تمت أيامها لتلد" . إن الإنجيل لا يورد ذكر المغارة . بيد أن أقدم التقاليد تثبت أن يوسف قد أنزل امرأته في أحد تلك الكهوف التي لا يزال يشُاهد كثير مثلُها في فلسطين. فإن آكام بيت لحم مخرقة كلها بمثل تلك المغاور التي كانت تسُتخدم زرائب للمواشي . وقد شهد للمغارة أيضاً ، شهادة قاطعة، يوستينس الشهيد . وقد كتب في القرن الثاني ، وكان يعَرف تلك الأمكنة معرفة دقيقة . هناك ، في تلك المغارة، كان بإمكان المرأة الشابّة أن تصيب ، أقلّه ، الهدوء والسلام

. فيَ إنجيل لوقا آية مقتضبة تلخّص كلّ ما نعرفه عن ذاك الحدث الذي بات عظيماً فببساطته وروعته معاً . " ولدت ابنها البكر، وقمطته وأضجعته في المذود " (لوقا 2 : 7) . فمن العبث أن نتعنّت في زخرفة هذه الإشارة الزهـيدة . و ممّا يؤخذ منها أن مريم كانت وحدها، وأنه لم يكن بقربها امرأة أخرى تقوم بخدمتها : وقد استخلص اللاهوتيين –من هذه الملاحظة- الشيء الكثير مما يتعلق بالظروف الإعجازية التي أحاطت بولادة يسوع . .

وأمّا المذود فهو شائع حتى اليوم : هو ضرب من المعالف ، بشكل الزورق ،ُ يجعل فيه عليق الدوابّ . إنه لينبعث من هذا المشهد أمثولة تواضع سحيق ، تنسجم كل الانسجام وسيرة ذاك الذي سوف يكون الرجل " الوديع المتواضع القلب"

. أما الحمار والثور -وقد جرَت التقاليد على إنزالهما في جانبي المهد، حتى أصبحا قي نظر الكثيرين من أهل التقي ، عنصرين لازمين من عناصر المشهد الميلادي - فليس لوجودهما أي مستند كتابي ، بل هما من مختلقات الأناجيل المنحولة . وربما حضر واضعي تلك اًلأناجيل ، ذكرُ هذا النص من العهد القديم : " عرف الثور قانية والحمار معلف صاحبه . . . " (أشعياء 1 : 3) . بيد أن فكرة إشراك الخليقة كلّها -تمثلُها تلك البهائم الوديعة- في الاحتفاء بميلاد المخلّص ، هي ، ولا شك ، فكرة مؤثرة

. كنيسة " المهد " هي اليوم بعيدة، بعض الشيء ، عن البساطة المذهلة التي تتميّز به الرواية " الميلاد" فيَ الإنجيل . يولج فيها كما يولج في إحدى القلاع . فهناك جدار ضخم يستند إليه برج صفيق ليس فيه من فُرَج "سوى باب . منخفض وبعض الكوى . ،أما مدخل الكنيسة ، فقد عثر فيه على بعض الصوًر الفسيفسائية الجميلة- فهو يفضي إلى كنيسة ذات هندسة قديمة جداً . وهي واحدة من تلك الكنائس القسطنطينية التي يرقى عهدها إلى الجيل الرابع أو الخامس" والتي تقع روعتها قي النفس موقعاً عميقاً : لها خمسة أروقة بفصل بينها أربعة ، صنوف من الأعمدة، من حجر أحمر تيجانها من حجر أبيض . تلك الكَنيسة التي تخص الموضع الذي أتمّ الله فيه للناس رحمته ، قد أمست مصطرعاً للخصومات البشرية القائمة بين مختلف الطوائف المسيحية

. !مّا المعبد الأرضي فهو ينحدر تحت قاعدة الكنيسة ، دهليزا طويلاً ضيقاً لا يشبه ولا بوجه من الوجوه - ما يمكن أن نتوقّعه من مغارةٍ زريبة . فهو لا يتصل بالفضاء الطلق ، ولا يبلغ إليه إلا بواسطة درج من هنا ودرج من هناك . وفيه ركن يقال له " المذود "، يتألّق فيه الذهب والفضة والحجارة الكريمة في وهج عشرات من السُرُج المُضاءة بالزيت . وأما المرمر واليشَب والرخام والمعادن النادرة فقد وضع منها في كل مكان . " ومع ذلك ، فليس بين الفضة والذهب ولد السيّد، بل على الحضيض "، على حدّ ما كان يردّده القديس إيرونيمس الناسك الكبير الذي قضى حياته ، متوحّدا، في إحدى المغاور المجاورة . ووسط صفيحة من رخام ، تتلألأ نجمة من الذهب ، يُراد بها تحديد الموضع الذي ولد فيه المسيح. وهناك دمية من الشمع الوردي : طفلٌ بضّ ، مبتسم، موضوع فوق قليل من القش ، يْرَاد به التذكير بالإله الحي . ولولا تقوىَ تلك الجماهير المتدفقة بلا انقطاع ، الآتية من أقاصي البلاد وأعماق القرون ، لتضع ، فوق تلك الرموز الواهية ، شفاهاً مفعمة بالإيمان ، لساورنا ، هنا ، ذاك القلق إلى الساخط الذي تكاد جميع المزارات المقدسة تبعثه في النفوس

. بيد أن الحدث الذي احتوته المغارة لم يكن ليظلّ مكتوماً . " فقد كان في تلك الناحية رعاة يبيتون في البادية، يسهرون على رعيّتهم في هجعات الليل " . هل كانوا رعاةً من القرية، آبوا، مع الليل ، بماشيتهم ، إلى مربضها ، وراحوا يتداولون السهرَ على حلالهم من غائلة الضواري واللصوص ؛ أم كانوا من أولئك البدو الأقحاح الذين لا يزر بون أبداً قطعانهم في الحظائر، بل، يكتفون ، عند قدوم الليل ، بربط سوقها بأذنابها ؟. .

. حراسة المواشي في الليل ، لا تزال من العادات الشائعة في فلسطين . ولكم يسُمع ، في جوف الظلام و هدأة الصمت ، تجاوب السهارى قي ألحانٍ موقّعة أو صوت المزمار ، وأحيانا ، بنواحه المتناوب ! . .

" وإذا ملاك الرب وقف بهم ، ومجد الرب أضاء حولهم ، فخافوا خوفاً عظيما . فقال الملاك : " لا تخافوا ! فها أنا ذا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب .إنه ولد لكم اليوم ، في مدينة داود، مخلص ، هو المسيح الربّ . وهذه هي العلامة : تجدون طفلاً مقمطاً في مذود . " وانضمّ بغتة، إلى الملاك ، جمهور من الجند السماوي ، يسبّحون الله ويقولون : " المجد لله في الأعالي ، وعلى الأرض السلام وبالناس المسرّة " ولما انصرف الملائكة عنهم إلى السماء، قال الرجال الرعاة بعضي لبعض : لنذهب إلى بيت لحم ، وننظر هذا الأمر الواقع الذي أعلمنا به الرب " فجاءوا مسرعين ، ووجدوا مريم ويوسف ، والطفل مضجعاً في المذود. فلمّا رأوه ، أخبروا بالكلام الذي قيل لهم عن هذا الصبي . وكل الذين سمعوا، تعجبوا مما قيل لهم من الرعاة . . . ثم رجع الرعاة وهم يمجّدون الله(لوقا 2 : 8 - 2. )

. لقد كشف الله لأولئك الرعاة المساكين ما كان لم يزل بعد مطويا عن الناس : مجيء ذاك الذي سوف يلقّب نفسه بالراعي الصالح


"وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف .. " ( لوقا 2 : 35 )


. لمّا بلغ الولد ثمانية أيام - وهي المهلة القانونية - أجريت له ، مراسيم الختان ، بمقتضى العادة القديمة التي جرى عليها الأسلاف ، منذ إبراهيم ، والتي كانت في نظر إسرائيل ، عربون العهد المقطوع مع الله . ختان يوحنا (معمدان الغد) كان قد احتُفل بها احتفالاً عائلياً، أشرق ، في غضونه ، مجد الله على زكريّا أبيه . ورأوا ختان يسوع ، ابن هذين المسافرين ، عابريْ السبيل ، فقد جرت على أقصى ما تكون البساطة . . . وفي الوقت عينه ، سميّ الطفل يسوع ، على حسب ما تقدّم به الملاك


. لم تكن عملية الختان سوى واحدة من الفرائض الشرعية التي كان يُلزَمُ بها الوالدين عند ولادة كل صبيّ ، ولاسيّما البكر . فإنّ الله كان قد أمر أيضاً أنْ : " كل ذَ كَرٍ بكر يكون مقدساً للرب " (خروج 13 :2 ، 13 )، وذلك تذكاراً للنعمة التي أنعم اللّه بها عليهم ، ليلة ضَرب أبكار المصريين ، وعفى عن أبكار إسرائيل . . . وكان على الأهل أن يقضوا تلك الفريضة، قبل انقضاء الشهر الأول ، فيفتدوا الصبيّ بتقدمة ما يعادل، خمسة شواقل . وكانت العادة المرعيّة أن يُذْهب بالولد إلى الهيكل ، وإن لَم يَردْ ذكر هذه الفريضة، في الكتاب المقدس ، بوجهٍ حاسم


. هذا، وكانت المراسيم الموسويةّ تقضي على المرأة، بعد وضعها، أن تشخص إلى الهيكل لتقوم بفريضة التطهير . فإنها كانت تحسب نجسة أربعين يوماً بعد الوضع ، إذا كان الوليد ذكراً ، وثمانين يوماً إذا كان أنثى . وكان عليها أيضاً أن تقرّب لله ذبيحة مماّ تسمح به حالتها : فإمّا حملاً حولياً ، وإماّ زوجي حمام أو يمام ( سفر اللاويين 12)


: يمّم يوسف ومريم إلى أورشليم لقضاء هاتين الفريضتين ، فكان ذلك سبب اعتلان آية أخرى، فريدة في خطورتها فقد كان في المدينة شيخ صدّ يق ، ورع ، أقبل ، بوحي الروح ، إلى الهيكل ، في اللحظة التي كانت فيها الأسرة المتواضعة قد انتهت إليه مع الطفل ، في ما بين الجماهير المزدحمة . وكان اسم الشيخ سمعان . وكان اللّه قد وعده بأنه لا يرى الموت ، ما لم يشاهد، بأمّ عينيه ، المسيح الذي كانت تترقبه نفسه فعرف بوحي من العلاء أن الطفل الذي جاءت به مريم ، إنما هو مسيح الرب ؛ فحمله بين ذراعيه ، والنشوة تغمر قلبه ، وراح يعُرب عن حبوره المتدفّق بذاك النشيد الذي تردّده الكنيسة، حتى يومنا هذا ، عند ساعة الرقاد، وساعة الموت ، متوسّمة ألفاظه أسمى تعبير عن الثقة الكاملة باللّه

. " الآن ، أيها السيد، تطلق عبدك يا سيد، على حسب قولك ، بسلام . لأن عييّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته قدام وجه جميع الشعوب ، نور إعلان للأمم و مجدا لشعبك إسرائيل " (لوقا 2 : 9 2-32). بيد أنه ما كاد ينهي ، أمام الله ، نشيد حمده ، حتى ألقى الروح ، في رُوعه ، كلمات أخرى . قال ، وهو يتوجّه بكلامه إلى مريم : " ها إن هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين ، في إسرائيل ، ولعلامة تقاوم ! وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف ، لتعلن أفكار من قلوب كثيرةَ! " (لوقا 2 : 24 - 35)


. كَلمات ، لعمري ، غريبة، في مسمع تلك الأمّ ، وكانت لا تزال بعد في غمرة الفرح بوليدها، تحمل في قلبها اليقين مما وُعدت به من لدُن العلاء ! ومع ذلك فإن صورة المسيح قد تمثّلت ، خالصَةً ، في كلام الشيخ ، وبرز من خلاله ، " المسياّ " اكثر التصاقاً بالواقع الذي بات يترقبه ، مِمّا جاء وصفه في بشارة الملاك . فسمعان قد تنبّأ بتلك الدعوة الكاملة التي سوف ينادي بها المسيح نداء عظيماً . ولكنّ ما جاء في أعقاب كلامه قد سبق فرسم أيضاً مأساة المسيح في مختلف أطوارها : كفر إسرائيل ، ثم الصراع الحاسم ، ثم ، عند أقدام الصليب الآتي ، مريم واقفةً تذرّف الدموع ! .


. وإن امرأة طاعنة في السنّ - حنة بنت فنوئيل - فيها روح النبوّة أيضاً ، أقبلت ، في تلك الساعة، تدعّم أقوال الشيخ ، وتؤنس في الطفل آية الفداء . . . سمعان وحنّة : وليّان من أولياء الله الصالحين ، ونموذجان من أولئك اليهود الأوفياء، وأولئك المتواضعين الذين باتوا يحملون الله حقّا فيَ قلوبهم ، غير مكترثين بالفريسيين وتمحّكاتهم ، ولا بالصدوقيين وحبائلهم


: هناك أيضاً حادثة أخرى لا تقل عن الأولى خطورة . فالإنجيلان القانونيان اللذان يرويان لنا طفولة المسيح ( متى ولوقا ) يتكاملان ، هنا، بوجه مفاجئ . فبينما نرى القديس لوقا يتفرّد بوصف " تقدمة يسوع إلى الهيكل "، وذكر الكلمات التي أنبأ فيها سمعان بالمسيح المتألم ، نرى القديس متى يتفرّد، هو أيضا، برواية حادثة أخرى،اعتلن فيها مجدُ العليّ ، مالك السماء. قال

. " لمّا ولد يسوع ،بيت لحم اليهودية . . . إذا مجوس من المشرق ،قد جاءوا إلى أورشليم قائلين : " أين هو المولود ملك اليهود ؟ فإننا رأينا نجمه في المشرق ، وأتينا لنسجد له ". وبعد إذ عرفوا أن بيت لحم هي ، على حسب الكتب ، القرية التي يجب أن يولد فيها ذاك الصبيّ المصطفى ، شدوا رحالهم إليها . " وإذا النجم الذي رأوه في المشرق ، يتقدمهم ، حتى جاء ووقف فوق الموضع حيث كان الصبي" . وكان يوسف ومريم ، في إثر رجوعهما من أورشليم ، قد غادرا المغارة وأويا إلى أحد منازل القرية . " ورأوا الصبي مع مريم أمه ، فخرّوا وسجدوا له ، ثم فتحوا كنوزهم وقدموا له هدايا، من الذهـب واللبان والمرّ " ( متى 2 : 1 - 12 )


. إن المشهد الطريف الذي يمثّل أولئك المسَافْرين الثلاثة، القادمين بأبهّة من المشرقَ ، سجوداً أمام سرير طفل فقير، بات بين سائر مشاهد إنجيل الميلاد من أكثرها وقعاً في المخيلّة . وأمّا رموزه فقد نوّه إليها الصوفيوّن مراراً كثيرة : وقد آنسوا، من خلالها ، خضوع سلطات الأرض لسلطة ابن اله العليّ ؛ ورأوا في الذهب رمزاً إلى مُلْك المسيح ، وفي اللبان رمزا إلى ألوهيّته ، وفي المرّ رمزاً إلى إنسانيّته الصائرة إلى الموت


. من كان ، يا ترى ، أولئك المجوس القادمون من الشرق ؟ لقد ثبت عليهم ، منذ أوائل القرن الثالث ، لقب " الملوك المجوس " ؛ وفي ذلك ، ولا ريب ، إشارة إلى ما ورد في المزمور 72 : 1. : " ملوك ترش يش والجزائر، يرسلون تقدمة ، ملوك شبأ وسبأ يقدمون له هدية " . أما في الأصل ، فقد كان المجوس كهنة الدين المز دكي الذي كان عليه أهل ماداي والفرس. وكانوا يعيشون عيشةً شديدة الانطواء على ذاتها، عُرفوا فيها بالتقشّف ، وتعهّد بالنار المقدّسة فيَ المشارف ، ورصد مسالك النجوم ، وتفسير الأحلام . وكان لهم إذ ذاك سطوة عظيمة . . . وإنما لا يبدو أن هناك دليلاً على أن المجوس ، عهد ولد المسيح ، كان لهم بعد، في أمتهم ، مكانة عالية . وأكبر الظن أن المجوس كانوا قد أمسوا، آنذاك ، من جملة المنصرفين إلى مراقبة النجوم ، فلكيّين ومنجّمين في آن واحد، منهم الحسن ومنهم الرديء ، منهم الرصين ، ومنهم المشعوذ . . . وأمّا المجوس الذين ورد ذكرهم في الإنجيل ، فقد كانوا، بلا مراء، من خيرتهم

وأمّا أن يكون أولئك الرجال -ومهنتهُم ترقب الغيوب - قد أنبئوُا بميلاد المسيح ، فليس في ذلك ما يتعذّر على الفهم . فاليهود كانوا قد أذاعَوا، في جميع أرجاء الشرق ، وحتى في الأصقاع النائية من بلاد فارس - حيث جرت أحداث سفر أستير( من أسفار العهد القديم ) - عظيم ما كانوا يرقّبون . وربما كان المجوس على علم بالنبؤة التي كان بلعام قد تنبأ بها - بإرغام من الله - لصالح الشعب المختار : " يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل … " ( سفر العدد 24 : 17 ) . وكان الأسينيوّن يذهبون إلى تطبيق تلك الآية النبوية على زعيم فرقتهم ؛ وذكر النجم يتردد في كثير من نصوصهم ، ويومئ إلى ظهور شخص خارق . . . وأمّا تاقيطس ( وهو مؤرخ لاتيني شهير ( 55 - 12. ) عرف بتشاؤمه وشخصيته البارزة ، له " الحوليات " و " التواريخ " و " أخلاق الجرمانيين " ) ، فبالرغم من اعتزازه برومانيّته ، فقد كتب في تاريخه : " لقد كان اليقين شائعاً، استناداً إلى بعض .النبوءات القديمة، من أن الشرق سوف يغلب ، وأنه سوف يخرج ، بعد قليل ، من اليهودية، أولئك الذين يحكمون المسكَونة "


سخط هيرودس


. لقد كان في اليهودية رجل آخر اهتمّ بزيارة المجوس ، بمقدار ما اهتم لها يوسف ومريم ، ولكن بوجه آخر : وكان ذاك الرجل هو هيرودس بالذات ، حاكم البلاد، والطاغية الهرَمً الذي كان ، في تلك الساعة، مريضاً، تغشاه من الموت رهبة بات وعيدها يتفاقم يوماً بعد يوم . بيد أنه كان مع ذلك مستمرّاً في الذود عن امتيازات عرشه الصغير، باذلاً في سبيل ذلك ، ما لم يكفّ يوماً عن بذله من الحرص والتشبّث . فلمّا وصل الحجّاج المشرقيين إلى مدينته ، ووقف على بغيتهم ، انتابه قلق شديد . وكان هو الذي أشار على المجوس ، بعد التحوّط بآراء أهل الاطّلاع ، بالذهاب إلى بيت لحم ؛ وطلب منهم ، إذا وجدوا الطفل ، أن يعودوا ويخبروه ، ليذهب هو أيضاً ويسجد له ! ولكنّ المجوس ، في إثر زيارتهم ، قفلوا راجعين إلى بلادهم من طريق آخر - عملاً بما أوحي إليهم في الحلم - ولم يعدلوا إلى قصر هيرودس

. وكان ذلك عين الفطنة . فإن هيرودس لم يكن ليتورعّ عن استعمال الوسائل النافذة إي يعترض الطريق على كلَ من كان يشتم فيهم رائحة المنافسة . ولقد كان لذاك البدويّ المخضرم ميل أنيق إلى الضراوة : فأغرق على يد حَرَسه الغلاطيين ، صهره أرسطوبوُلس ، وكان فتىً غطريفاً ، أسندت إليه رئاسة الكهنوت وهو في السابعة عشرة من عمره ، فذهب ضحيةّ شعبيته . ثم أمر بصهره الآخر يوسف ، ثم بهيركان الثاني ، الملك العجوز ،ثم بمر يمنة ، زوجته الأسمونية الابنة التي كان ، مع ذلك ، مغرماً بها ، ثم بولديه أرسطوبولس وألكسندرس ، فقضوا كلهم بأمره . وإذ كان على شفا الموت كان لا يزال يتربّص بفريسة أخرى، أنتيباتر، ابنه الثالث ، ومازال حتى قطع رأسه ، نهاراً واحداً قبل وفاته . وهكذا فقد تضرّج عهده ( 4. - 4 ) بسيول من الدماء . ولم يكن ليتورّع عن المجازر الشعبية أكثر من تورّعه عن الاغتيالات الفردية . فقد أحرق 4. شاباً، فالتهبوا مشاعل حيّة"، لأنهم حطموا النسر الذهبيّ الذي كان الطاغية قد أمر بتنصيبه - صنما مشُيناً - عند باب الهيكل . وفي نزاعه المحموم أمر بقتل جميع وجهاء الأمّة اليهودية ، وذلك " لكي تذرّف على ضريحه بعض الدموع " . .

. " حينئذ لمّا رأى هيرودس أن المجوس غضب جدّ اَ، فأرسل وقتل جميع الصبيان الذين في بيت لحم وفي كل تخومها، من ابن سنتين فما دون ، بحسب الزمان الذي تحققه من المجوس " (متى 2 : 16)


. إن " مقتل الأبرياء " هذا - على حدّ التعبير المتعارف - لم يكن لينافي ما نعرفه من مزاج هيرودس . ولكنه ربما لم يبدُ للأقدمين بمثل ما نرى اليوم من الفظاعة : فقد أورد سويتون ( مؤرخ روماني 69؟ - 14.؟ ) ، في تاريخه ، صدى إشاعة : مفادها أن مجلس الشيوخ الروماني ، قبل مولد أوغسطس بفترة يسيرة، كان قد أنبئ ، عن طريق العرافة، بميلاد طفل يملك على روما ؛ فأمر بمجزرة شبيهة بمجزرة هيرودس


. ويجب التنبيه إلى أن عدد المواليد المقتولين في بيت لحم لم يكن ضخما جدّ اً . فالقرية لم تكن ، إذ ذاك ، لتستوعب أكثر من ألفي نسمة . فإذا ثبت أنه يولد لكلّ ألف نسمة ثلاثون طفلا في السنة، تقريباً، وإذا راعينا قانون توزّع المواليد على الجنسين (فقد كان أمر الملك مقصورا على الصبية)، ونسبة الوفيات المألوفة ، أمكننا الوصول إلى رقم في حدود الخمسة والعشرين طفلاً ! .

. إن الكنيسة تكرم تلك الضحايا البريئة التي افتدت بدمها، حياة المسيح .فالمسيح كان ، فعلاً ، قاد أنقذ بأعجوبة. وذلك أن ملاك الرب تراءى ليوسف فيَ الحلم ، وقال له : " قَم وخذ الصبي وأمهّ ، واهرب إلى مصر، وكن هناك حتى أقول لك . لأن هيرودس مزمع أن يطلب الصبيّ ليهلكه " (متى 2 : 13 ) . فأطاع يوسف ، وشخص إلى مصر، في الليلة عينها . وكان اليهود كثيرين في أرض النيل ، منذ يوم هدمت أورشليم على يد نبوخذ نصّر ( 586 ق.م) . ومازالت جاليتهم فيها تتضخّم ، منذ أصبحت فلسطين إقليماً رومانياً) . وقد شاع أنهم قاربوا فيها المليون . وكان بعض أولئك اليهود المغتربين قد شيدوا ، في ليونتوبولس ، هيكلا أرادوا أن ينافسوا به هيكل أورشليم ، بيد أن معظمهم أقاموا على الولاء، تربط بينهم وبين أخوتهم في فلسطين ، صلات مستمرة . أو لم يكن علماؤهم ، في الإسكندرية - حيث كان اليهود جالية ضخمة - قد نقلوا إلى اليونانية كتبهم المقدّسة، لكي يتحفوا. بها مكتبة الفرعون بطليموس الثاني ؟ ولقد عرفت تلك الترجمة بالترجمة " السبعينية . لقد كان إذن من البديهي أن يتوجه يوسف ، قيَ هربه ، شطر ذاك البلد المضياف


. وهكذا ذهـب الزوجان بالطفل ، ومعهما دابة حملَتْ جميع ما كان يملك ذانك الفقيران من ثروة وأمل . . . ولا شك أنهما سلكا طريق القوافل ، وكانت بمجازاة الساحل جهد المستطاع . وذاك لأن داخل البلاد بقاع موحشة، وبحر من الرمال ، لا أثر فيه للنبات . وأما السواحل فى بطاح يكثر فيها دقاق الحصى وتتخللها أصناف من العوسج الهزيل . . . جميع الجيوش التي ألجئت إلى اجتياز تلك الأماكن الموحشة ، قد عانت منها الكثير : من جيش غابينُس ، سنة 55 ق . م . إلى جيش تيطس سنة 7. بعد المسيح ، ثم إلى جيش اللورد اللنبي سنة 1918 ، في غزوه فلسطين


. إننا نجد، في جملة . ما روته الأناجيل المنحولة، عن حداثة المسيح، أسطورتين لطيفتين . ولا شك أن واضعي تلك الأناجيل قد حدا بهم إلى ذلك ، حادي الرأفة بأولئك المهاجرين الثلاثة ومصيرهم الشاقّ . ففي إحداهما نرى العذراء مريم ، عند جذع نخلة، تشتهي من رطبها . ولما كان الرْطب فوق متناول يدها ، تقدم الطفل يسوع إلى النخلة وأمرها بالانحناء ، ووعدهـاَ جزاء لطاعتها، أنّ ملاكاً سوف ينقل غضناً من أغصانها إلى الجنة ( ونجد صدى لهذه الأسطورة في القرآن ، راجع القصة كلها في سورة مريم 19 : 16 - 34 ). . . وأمّا الأسطورة الأخرى، فتذهب إلى أن اثنين من قطّاع الطرق أخذتهما الشفقة بالمسافرين الفقيرين ، فراحا يزوّدانهما بالقوت . ويكون أحد ذينك المحسنين هو اللّص الصديق الذي سوف يعده المسيح -وهو على الصليب - بدخول الجنة . .

. وأمّا مقام الأسرة في مصر فلا ندري عنه شيئاً سوى أنّ الناس في مصر، يتبرّكون - منذ عهد متقادم ، على ما يبدو- بمزار يقع في حيّ من أحياء القاهرة القديمة، ويقال إنه اَلموضع الذي أوَت إليه اًلأسرة المقدسة . ويوجد في المطرية - على بعد عشرة كيلومترات من القاهرة ( وهي الآن داخل تقسيم القاهرة الكبرى )- جمّيزة، يقال إن العذراء كانت تأنس إلى ظلّها . إنها، ولا شك ، شجرة عتيقة، وإنما يصعب التصديق جداً بأن لها من العمر ألفي سنة، على ما هنالك من أسيجة تحصنها من التماديات التقوية . .


. أمّا الأناجيل المنحولة فهي - كعادتها - أعلم بشؤون تلك الفترة ! فهي تروي أن أصنام الثلاث مائة والخمسة والستين إلهاً هوت إلى الأرض ، فور دخول يسوع هيكل هيليوبولس ، وأن أفروديرسيسُ الوالي ، وقائد الموقع مع جنوده ، اهتدوا إلى المسيحية في إثر تلك المعجزة . .


. مهما يكن من أمر، فالمقام قي مصر لم يدم طويلاً . فإن يوسف ، بعد أن أخبره الملاك بموت هيرودس ، رجع بمريم ويسوع إلى فلسطين . ولكنه إذ بلغه أن أرخيلاوس قد ملك مكان هيرودس أبيه ، خاف أن يستقرّ في اليهودية ، فشخص إلى بلاد الجليل . وكان ذلك احترازاَ فطيناٌ ! لأن أرخيلاوس ما كان بأقل شراسة من أبيه . أوَ لم يكن قد استهلّ عهده بمقتل ثلاثة آلاف يهودي من ولايته ؟ . .


. توفي هيرودس الكبير في آذار أو نيسان سنة 75.، من تأسيس روما . وخلفه أرخيلاوس حالاً . وأمّا يسوع ، فإذ كان قد وُلد ولا ريب ، بين 749 و 748 ، فقد كان له من العمر ما يتراوح بين الثمانية والثمانية عشر شهراً، يوم عاد به أبواه إلى أرض الوطن


"أنه سيدعى ناصرياً " ( متى 2 : 23 )


. رجعت الأسرة المقدسة إلى ناصرة الجليل -حسب رواية لوقا ومّتى - بعد مقامها في مصر. ويضيف القديس متى : لكي يتم ما قيل بالأنبياء ، أنه سيدعى ناصرياً " ( متى 2 : 23 ) .ومع أننا لا نجد هذه النبوة حرفياً ، في أي موضع من العهد القديم . وأغلب الظن أنها إشارة إلى ما ورد عن المسيح ، ولا سيما في نبوة اشعياء ، من أنه سيكون متواضعاً فقيراً . فانتساب يسوع إلى تلك القرية الضائعة الصيت ، رمزاً إلى ذلك . وأما ذكر الناصرة فلم يرد في أي نص من النصوص اليهودية أو الوثنية ، السابقة للمسيح

. وقد استند بعض النقاد إلى ذلك للشك في وجود تلك القرية الجليلية . إلا أن إجماع الأناجيل الأربعة ، وتواتر التقاليد القديمة ، واكتشاف بعض الآثار الراهنة ، منذ بضع سنوات ، كل ذلك يؤلف حزمة من الأدلة المقنعة لا سبيل إلى ردها

. والناصرة اليوم ، هي قرية بيضاء، رابضة وسط الخضار عند سفوح تلك المرتفعات المتموّجة التي تحدّ سهل أزدر يلون من جهة الشمال . وهي ، بشوارعها ومنازلها، تضاهي سائر القرى الشرقية، ولا تمتاز عنها إلاّ بوفرة كنائسها وأديرتها وأبراج أجراسها . وتحيط بها دائرة من الهضاب المتناسقة، تتخلّلها خصاص من لبن أبيض . وينتصب السرو، بلونه الأغَين ، ما بين كروم الزيتون والعنب وحقول الحنطة . حدائقها تحفل بالزنبق ورعي الحمام ، ومعظم جدرانها وكأنها من الأرجوان لوناً


. في ذاك الإطار يمكن أن نتخيلّ يسوع ، عهد حداثته . وإنما يجب ألاّ نخلع على ابن مريم من الأوصاف الخارجية ، ما يوحي به التمثال القديم المنحوت قي الجيل الرابع ، والمحفوظ في متحف " الحمّامات " في روما . فهو، -على رونقه-ُ يظهر المسيح ، في قميصه الطويل المثنّى ، بمنظر الغلام المسرف في الهدوء والتكلف . . فالأولى أن نتصوّره واحداً من أولئك الصبية اليهود، النابضين بالحركة والحياة، الذين لا نزال نصادفهم على دروب فلسطين ، وقد ارتسمت على وجوههم مخايل الذكاء الثاقب والعزم الرزين . لقد قضت الأسرة المقدّسة حياتها في بيت من تلك البيوت البسيطة التي لا يزال نظيرها قائما -حتى اليوم - فيَ القرية . ويتألف البيت عادة، من غرفة واحدة يشيع فيها من زيت الزيتون ، رائحةُ محلوليه . وغالباً ما لا يكون للدخان ، من منفذ ، سوى الباب . فإذا جاء المسَاء.َ أضيء سراج خزفي موضوع فوق شمعدان من حديد، أو فوق حجر ناتئ من حجارة الجدران ، فانبعث منه ، قي الغرفة، نور شحيح


. ويظن - استناداً إلى بعض الاكتشافات الأركيولوجية - أن كنيسة " العيالة "، تشمل موقع البيت الذي " عال " فيه يوسف الطفل يسوع . ومن المحتمل أن يكون هذا البيت - مثل ذاك الذي حضر فيه الملاك إلى مريم - قد جهز قسمه الأكبر تحت الأرض ، محفوراً في الصخور الكلسية اللّينة، الشائعة في تلك المنطقة . وتلك الدرجات الخشنة التي تزينها اليوم صفائح الفسيفساء، من المحتمل أن يكون المسيح قد وطأهَا، كل يوم ، صعوداً وهبوطاً


. وأمّا الثقافة التي تثقف بها المسيح ، فما كانت لتختلف عما كان يأخذه جميع الغلمان الإسرائيليين . ويبدو أنه كان قد وُضع ، آنذاك ، منهاج تربويّ شامل ، يأتي على وصفه التلمود . وكان رابي سمعان بن شيتح ، مائة سنة قبل المسيح ، قد انقطع لتنظيم المدارس في إسرائيل

. وكانت المدرسة ملتحقة بالمجمع ، يديرها "الخزان " ، وهو شبه واهف وقيّم على المعبد الذي كان يجتمع فيه المؤمنون . ففي المدرسة الابتدائية كان الغلمان يتحلقون على الأرض حول مدرج ا الناموس ( هو الكتاب الملفوف الذي كانوا يدونون فيه النصوص المقدسة )، يرددون بصوت واحد آيات الكتاب ، إلى أن يتمّ لهم حفظها ( وهي نفس الطريقة التي اتبعها المسلمين ، من التحلق حول شيخ عارف بالعلوم والنصوص ، يتلقون منه العلم شفاهاً ، م انتقل فيما بعد على شكل كتاتيب في المدن والقرى ، والتي يعهد فيها إلى تحفيظ الغلمان القرآن ، والأحاديث ، بل حتى كتب مشاهير الفقهاء والعلماء المسلمين . وفي بعض الأماكن كان نفس الأسلوب يستخدم في تعليم كتب الفلسفة والمنطق والطب وغيرها ). ومن ثم فإن ذات اللفظة، في العبريّة، تشير إلى مدلول " التلقين " ومدلول " التكرار" . وهذه الطريقة في التعليم تعلّل ، ولا شك ، ما سوف يظهره المسيح ، في سنّ الرجولة من رسوخ في معرفة نصوص العهد القديم


. لقد كان الفتى اليهودي يستقي من التوراة -ومن التوراة وحدها- ثقافته الأولى . ولكن ، هل ذهب المسيح ، في مناهج العلم ، إلى أبعد من ذلك ؟ وهل تردّد إلى أحد تلك المعاهد الربينية التي كان يمكن أن يوجد مثلها في جوار الناصرة ليس لنا من دليل على ذلك . لا، بل يحمل على الشك فيه استغرابُ مواطنيه ، يوم شرع يعلّم ؛ فبدا لهم أحكم وأرسخ في شؤون الدين من " علماء إسرائيل " ( مرقس 6 : 2 )


وتعترضنا ، هنا ، مسألة أشد إشكالا : هل قضى يسوع عهد الصبا ما بين أخوة له وأخوات ، أم كان ابناً وحيداً ؟ فالإنجيل يذكر، غير مرّة، " أخوة الرب " ، ويعدّ د أسماءهم : يعقوب ، ويوسى ، ويهوذا ، وسمعان ؛ ويضيف ذكر أخَواتهِ ( مرقس 6 : 3 )

. إن عقيدة عدد عظيم من المسيحيين ، تأبى الأخذ بما يتبادر إلى الذهن ، فوراً، من أن يوسفً ومريم - بعد أن وُلد يسوع ، بولادة معجزة- قد أنجبا ، حسب الطبيعة، بنين وبنات . وتستند هذه العقيدة إلى تقليد متواتر منذ عهد بعيد جدّ اً. ثم إن يسوع كان يكنى ، في بيئته ، " بابن مريم "، وقد رأى رينان في ذلك ، برهاناً على أن يسوع كان وحيد أمّه الأرملة . هذا، ولو كان للعذراء سبعة بنين آخرين فكيف استطاع يسوع - وهو يحتضر على الصليب - أن يعهد بها إلى يوحنا ؟ . كل ذلك يؤلف ، بلا مراء، مجموعة من الأدلة خليقة بالاعتبار

. يبقى أن نفسّر قول الإنجيل في " أخوة المسيح " . إن ذاك التفسير قد بات مقرراً، منذ زمن بعيد، بفضل بحث بسيط جدّا في اللغات السامية . فلفظة " أخا " في الآرامية، و" أخ " فيَ العبرية "، تشير إلى الأخ ، وابن العمّ ، وكل ذي قربى . وإننا نجد في العهد القديم أمثلة كثيرة جدا في استعمال لفظة الأخ بالمعنى التوسّعي . فإبراهيم يقول للوط ابن أخيه ، مثلاً : " إنما نحن اخوة " (تكوين 13 : 8 ) . ولابان يستعمل نفس اللفظة في مخاطبته ليعقوب ابن أخيه . من الممكن إذن أن تكون تلك اللفظة قد استعملت ، في الإنجيل ، للإشارة إلى أقارب المسيح ، لا سيّما إذا كان أولئك الأقارب قد عاشوا معه تحت سقف واحد - كما هـي العادة في الشرق حيث تجتمع فروع الأسرة الواحدة في بيت واحد. بالإمكان إذن أن نستنتج ، مع الأب لاجرانج ، استنتاجاً حكيما ً، حيث يقول : " لا نزعم أنه قد ثبت تاريخيا أنّ اخوة المسيح هم أبناء عمومته ، وإنما نقول فقط أن ليس هناك البتة ما يمكن أن نعترض به على بتولية العذراء مريم . فإن تلك البتولية تومئ إليها نصوص كثيرة من الكتاب المقدس ، ويثبتها التقليد "


. الصورة المألوفة التي تمثّل يسوع مترعرعا وحده ، أقلّه في السنين الأولى، بين أبيه وأمّه ، في بيت متواضع من بيوت الناصرة، تستند إذن إلى احتمال تاريخيّ مدعّم . هذا وليس ما يمنع من الظن بأنه ، بعد وفاة يوسف مُعيِله ، ربما نشأ بصحبة عدد من أبناء عمومته

. وأمّا معلوماتنا عن تلك الحقبة فهي شحيحة : " وكان الصبي ينمو ويتقوّى،بالروح ممتلئاً حكمة وكانت نعمة الله عليه " (لوقا 2 : 4. ) وإنما هناك حادثة وحيدة وقعت ليسوع ، وهو في زهاء الثانية عشرة من عمره . لاحظ مورياك ( وهو كاتب فرنسي معاصر ، من كتبه " سيرة المسيح " ، وقد جاءت ، على اقتضابها حافلة بالملاحظات النفسية العميقة ) : " أن اليهودي ، في الثانية عشرة من عمره ، يكون قد تخطئّ عهد الطفولة " ، وذلك صحيح ، أو يكاد يكون صحيحاً ، أقلّه من الناحية الشرعية ، فالفتى الإسرائيلي في الثالثة عشرة من عمره ، كان يُعَدّ " من أبناء الشريعة "، فكان لزاما عليه أن يخضع لجميع أحكامها، في جميع تفاصيلها . فإذا تعداها، أنزلَتْ به العقوبات المقرّرة


لقد كان المسيح إذن ، في الثانيةَ عشرة من عمره ، على وشك أن يصبح " ابناً للشريعة " ! ماذا؟ أإبن الشريعة؟ أم هو - أكثر من ذلك - سيّد تلك الشريعة التي جاء ليتمّمها، على حدّ ما سوف يصرّح به ؟. .. ذلك ما تكشف عنه حادثة الهيكل . ( لوقا 2 : 41 - 5. )

. كان يوسف ومريم -وهما من تقية اليهود- يحجّان كل سنة إلى أورشليم ، في عيد الفصح . ألعلّها كانت المرّة الأولى، يصطحبان فيها الولد ؟ . . لقد كانت الأصوات قد ارتفعت ، طوال الطريق ، بأناشيد الحجّاج تلك الأناشيد المعروفة بمزامير " المراقي "، والتي كان الأسلاف قد وقعها بإيقاع خطى السير : " أرفع عينيّ إلى الجبال . من حيث يأتي عوني ؟ . . . معونتي من عند الرب صانع السماوات والأرض " (مزمور 21 ا) ؛ " تقف أرجلنا على أبوابك يا أورشليم . أورشليم المبنية كمدينة متصلة كلها حيث صعدت الأسباط ، أسباط الرب شهادة لإسرائيل . ليحمدوا الرب " ( مزمور 122 )

. وبعد أن أكلوا الحمل ، ومن حوله المرق المُصلح بأعشاب مرّة، وتناولوا خبز الفطير، وشربوا الخمرة بحسب المراسيم المبيّنة فيَ الشريعة، وانطلقت من صدورهم " التهاليل " الأخيرة ، قفلوا راجعين إلى بيوتهم . ففي مساء المرحلة الأولى، افتقد يوسف ومريم الصبيّ ، ة بين الأقارب والمعارف . وكان قد غاب عن أبصارهم سحابة النهار كلّه ، فظنوا أنه قد انضمّ إلى بعض الرفقة من الحجيج . وإذ لم يجداه ارتدّا إلى أورشليم يطلبانه متخوّفين . وبعد ثلاثة أيام وجداه في الهيكل . وكانت عادة الفقهاء أن يجلسوا للتعليم تحت أروقة الهيكل ، في وسط حلقات تلاميذهم . وكان بعض الفتيان ينضمّون إلى تلك الحلقات ، ويرخّص لهم أحياناً بطرح الأسئلة . وقد روى إفلافيوُس يوسيفوس أنه كان - وهو غلام - ينضم إلى تلك المساجلات الفكرية . ولما لم يكن التواضع من مناقبه الراسخة ، فقد أضاف " أن رؤساء الكهنة وعلية القوم كانوا يقصدونه للاستفسار عن شؤون الدين "

. لقد كان يسوع إذن ، في الهيكل ، وسط علماء إسرائيل وحكمائهم . ويقول لوقا ، من غير تكلف : " وكل الذين سمعوه بهتوا من فهمه وأجوبته " (لوقا 2 : 47 ). فلمّا رأته أمّهُ بهتت ، فسألته على سبيل المؤاخذة اللطيفة : " يا بني لماذا فعلت بنا هكذا ؟ هو ذا أبوك وأنا كنا نطلبك معذبين . فقال لهما : لماذا كنتما تطلبانني ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي ؟ " ( لوقا 2 : 48 - 49 ) . جواب قاَس ، شديد على الطبيعة ، يسطع فيه ، للمرّة الأولى، يقين يسوع برسالته ، ويتراءى فيه درس من دروس الإنجيل الكبرى : فمن أراد أن يتبع المسيح عليه أن يقطع كل علاقة إنسانية ، مهما كانت صميمة


. بيد أن هذه الحادثة الوحيدة، على قيمتها وبُعْد دلالتها، لم تكن لترضي فضول الجماهير . ولذلك فقد استرسلت الأناجيل المنحولة - ولاسيما " إنجيل الطفولة " و " إنجيل توما " - في ذكر نوادر تلك الحقبة الغامضة من حياة المسيح . ومن تلك النوادر ما هو ذائع وظريف . فهي تروي عن يسوع - مثلاً - أنه كان يلهو مع أترابه في صنع طيور من طين ، ينفخ فيها فتطير! . . . ( وهنا ، مرة أخرى نجد طل هذه النادرة في القرآن ، راجع سورة آل عمران 3 : 49 ، المائدة 5 : 11. ) وإذ كان يوماً عند مدخل غار مع رفقة له ، برزت له أفعيان هائلتان ، فأمرهما أن تذهبا وتطأطئ رأسيهما عند أقدام أمّه ! . . . جميع تلك الأضغاث ليس لها من جدوى سوى أنها أوحت إلى فنّاني العصور الوسطى، في جميع الديار المسيحية "، كثيراً من رسومهم ونقوشهم . . . ولكنها، من ذاتها: لا تجدينا أي نفع في معرفة الطفل الإلهي


حياة التستر


. انقضت أعوام ، ولا شك ، كثيرة .. فيسوع لم يخرج من عزلته إلا بعد الثلاثين من عمره . وأما تلك الأعوام فلا نعرف عنها شيئاً سوى أن المسيح كان ، في أثنائها ، " يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس " ( لوقا 2 ك 52 ) . وإن الأحداث التي نعرفها من غير ذلك لها أي اتصال بالبيئة التي نشأ فيها الطفل الإلهي


. وعلى كل ، فماذا كان يعرف في فلسطين ، عن تلك الأحداث التي باتت تقلق القلوب والخواطر ؟ .. أجل ، لم يكن أحد ليجهل أن هناك ، في روما ، بعد ذاك الجم من الاضطرابات والدم المستباح ، رجلاً قد استولى بيد من حديد على مقاليد الحكم ، وأن أوغسطس يملك في الأبهة والمجد . ولكن ، أن يقع ذاك الإمبراطور النائي في مصطرع من الدسائس العائلية والمطامع المحمومة حول وراثته ، وأن تسام سياسته الغازية ، من قبل الجرمانيين ( سنة 9 م ) خسفاً أليماً ، وخسائر فادحة ، فأي شأن للأمة اليهودية ، في ذلك كله ؟ .. لقد كان يسوع قد ناهز العشرين من عمره ؛ عندما توفي أوغسطس ( 14 م ) وهو في السادسة والسبعين من عمره ؛ وخلفه على العرش طيباريوس بن ليفا ، دعيه وحظية . فأن يكون أوغسطس قد نصب ، بعد وفاته ، إلهاً ، فما كان ذلك ، في نظر كل يهودي ورع ، سوى برهان جديد على وثنية الشعب الروماني . وأن يكون الإمبراطور الجديد قد أطلق يد صفيه " سيجان " في رقاب بطانته ، فما كان ذلك سوى دليل على بربر يتهم

! لم يكن الشعب اليهودي ليهتمّ إلاّ للأحداث التي كان لها بديارهم المقدّسة علاقة مباشرة . ففي السنة 6 م -وهي السنة التي جرت فيها حادثة يسوع في الهيكل - خلع "أوغسطس أرخيلاوس بن هيرودس ، عاهل اليهودية ، عن عرشه ، ونفاه ، بسبب ما تفاقم من أخطائه ؛ وتولى من بعده على اليهودية ولاة رومانيون . . . وكان يسوع قد بلغ -ولاشك - الحادية والثلاثين من عمره ، وعلى همة الشروع في رسالته العلنية ، عندما وصل إلى اليهودية ، في السنة 26م ، وَال روماني اسمه بنتيس بيلاطس ، ذاك الذي كان على المسيح أن يتواجه وإياه ، يوما ً، في ساعة عصيبة


. وأمّا بلاد الجليل - وكانت إقطاعية هيرودس أنتيباس ، أحد أبناء هيرودس الكبير- فكانت تنظر بعين التحفظ والحذر إلى ذاك المُليكْ الذي هبّ يتخلّق بأخلاق الرومان ، ويهدر الأموال الطائلة ، على ضفاف البحيرة، في بناء عاصمة باذخة مترفة، دعاها طبرية ، توددا إلى طيباريوس ، سيّد العرش المقتدر . وعندما شاع في الناس ، سنة 28م، أنه طلق امرأته الشرعية، وتزوج بامرأة أخيه هيروديّا ، سرت في الشعب المؤمن موجة من السخط ، وراحوا يرددون ، همساً ، اللعنات التي أنزلها الله بالزناة، قي جبل سيناء


. هناك حدث وحيد بات له علاقة بحياة يسوع ، في تلك الفترة، ويمكن تقديره من خلال أسطر الإنجيل : وهو موت يوسف . لقد كان بعد في قيد الحياة، يوم جرت حادثة يسوع في الهيكل . ثم لا نعود نصادفه في حياة ربيبه العلنيّة . وهناك تقليد قديم جدّ اً يذهب إلى أن يسوع كان له من العمر تسع عشر سنة يوم توفي يوسف . ولا شك أن ما يشعر به قارئ الإنجيل أن العذراء امرأةُ قد فقدت زوجها . ويسُوغ أن نتصوّرها، في الناصرة، بثوب الأرامل الضيّق ، تحلّ من الغرفة المشتركة في المحل الأوّل الذي يرخّص فيه التلمود للأرامل من ربّات البيوت . . . لقد ذهب ذاك الأب الطيّب ، ببساطة من عَرَفَ أن مهمته ، على الأرض ، قد انتهت ، فأسلم سائر أمره لله . . . لقد ذاد عن حياة الطفل ، ومهّد للأم أن تقوم بمسؤوليّات رسالتها الخارقة ، فبات في وسعه أن ينشد مع سمعان : " الآن تطلق عبدك ، يا سيّد ! . . . " ولم يكن على خطأ الكتاب المنحول الذي مثل ملاك الربّ مؤازراَ ذاك الرجل الطيّب في نزاعه الأخير


. وأعظم الظن أن يوسف هو الذي لقنّ يسوع المهنة التي ارتزق بها، في غضون حياته المتسترة. فقد كان على كل فرد من أفراد الأمّة اليهودية أن يتقن مهنة يدوية ، حتى ولو كان من المنصرفين إلى علم الشريعة : فرابيّ هلّيل كان شقّاق حطب ، ورابي شمعي نجارا . فيسوع قد سعى إلى قوته بعرق جبينه ، عملاً بالسُنّة التي فرضت على آدم . وقد جاء في أحد التعاليم الربينية :" من لم يلقنّ ابنه مهنة ، جعله لصاً !". وسوف يقول بولس ، فيما بعد : " من لا يعمل لا يأكل " . وأما مهنة النجارة فقد كانت تشتمل في الواقع ، جميع صناعات الخشب : من سحج عمدان السقوف ، إلى صناعة الأنيار ( جمع نير ) والمهاميز ، وإلى تجهيز الأسرة إلأصونة والمقاعد والمعاجين . . . وقد لاحظ بابيني ( كاتب إيطالي معاصر ، وضع " سيرة المسيح " بعد اهتدائه إلى الإيمان) ، مصيباً، أن الفلاحّ والحدّاد والبناء والنجّار همٍ ، بحرَفهم اليدوية، أكثر العمال اندماجاً في حياة البشر، وأعمقهم نزاهة وتديناً "


. لقد عاش يسوع عيشة الفقراء. ولاشك أنه سكن بيتا متواضعاً جدّاً شبيهاً بذاك الذي حضر فيه الملاك إلى مريم ، والذي أوى إليه يوسف مع أسرته . وأما طعامه فكان من طعام الشعب الجليلي ، قوامه خبز الحنطة أو الشعير ، واللبن الرائب ، والخضار ، والفواكه ، واللحم في بعض الأحوال النادرة ، وكثيراً من الأحيان " ذاك السمك المقلي الذي يخصب جسم الإنسان "، على حدّ ما جاء في كلام الرابيين . ويتبّين من مطالعة الأمثال الإنجيلية، أن يسوع لم يخالط قط الأغنياء وعظماء الأرض . فهو يتكلّم عن البذخ والترف بما نجده عند الفقراء من نزعة إلى التبسيط . وعندما يأتي ، في معرض أمثاله ، على ذكر الدرهم المفقود ، فًلا شك أنه يتذكّر والدته ، والسراج في يدها، تبحث في بيتها الفقير، عن قطعة النقود المفقودة، وتطفح بشراً إذا عثرت عليها . حياة فطرية رائعة يجب ألاّ تغيب عن الأذهان صورتها ، عندما يتجلى لنا المسيح ، في سناء مجده ، والجماهير زاحفة في إثره . .


. فمن تلك البيئة الاجتماعية، بيئة الفقراء .والصيّادين ، والكرّامين ، والفلاحين ، وذوي المهن اليدوية، استمدّ يسوع تلك الدربة التي يصادفها كلّ منا في مشاركاته مع الناس . وكان الجليليون من الأقوام الطيّبين ، أقلّ تشبّثاً بالشكليّات من يهود اليهودية ، قلوباً صافية، وإن على شيء من الخشونة . وسوف يستعين يسوع بلغتهم وعاداتهم وبكثير من تعابيرهم التصويرية . ولسوف تبقى ، سحابة حياته كلها، واحداً من أبناء الشعب له من سجايا النبل الفطري ، ما يجعله توّاً في مستوى جميع الناس


وقد اتخذ أيضاً دروساً من بلاده ، وأرض وطنه الجليل . فلقد كان ، ولاشك ، في بلدته الصغيرة، يُعنى -إلى جانب مهنته - بزراعة قطعة من الأرض . وقد جاء، في أحد التقاليد، أنه رعى الأغنام صبيا . ولسوف نراه ، في غضون حياته العلنية ، كثيراً ما ينَشد العزلة في الفلوات ، يقضي فيها الليل كله في الدعاء إلى الله أبيه ( لوقا 6 : 12 ) وكأنما قد أصبح التأمل والتوحّد، عنده ، عادة مستحكمة، تكتنف النفس ، أثناءهما ، آلاف من شهود الغيب ، فترقى ، بيسر أعظم ، مما يطيف بها من روائع الخلق ، إلى جمال المبدع الخلاق ‍


. من المشارف التي تطلّ على الناصرة، يكتشف النظر مشهداً رائعاً. هناك سهل عزر يلون ينبسط انبساطة مديدة بمربّعاته الدكنة والحمراء والغبراء، ومزروعاته الموّارة بجميع أصباغَ الأخضر . وفي البعد يتلألأ البحر المتوسط بمياهه الفضيّة الزرقاء . وإلى الشمال ، ينتصب حرمون ، فوق التلال ، بمنعرجاته البنفسجية، وهامته المكلّلة بالثلوج ،بينما طابور، على مسافة أقرب ، يتضجع فوق سرير من الخضرة الذاوية ، بأردافه الضخمة، التي كان القديس إيرونيمس يثني على استدارتها المتناسقة . وإلى الجنوب تنشّق جبال السامرة لتحضن " عين جنين "، ومفاتنها. وعند سفوح مشارف المدن العشر، تنفرج الثغرة العميقة التي ترقد فيها بحيرة طبرية ، محجوبة عن الأنظار، يتصاعد منها ،بين الفينة والفينة، أبخرة شفّافة


. إن جميع بقعة الجليل تكسوها من الخصب والرُواء ما يتعارض ومشهد الجفاء في أرض اليهودية . فالآكام فيها لينة، والأرض مريعة، تحجب الجثاء الصخري . والمطر فيها ( 6. سنتمتراً ) أغزر منه في أورشليم ، وفي وادي الأردن خصوصاً . لقد كانت أرض الجليل ، إذن ، في حياة المسيح ، مهبط البشرْ و الفرح . فيها درجت طفولته ، وانضوت حياته المتسترة الدائبة، واَنطلقت ، فيما بعد، تباشير نجاحه الرسولي . وإنه لمن الأهمية بمكان أن يكون كتاب الطبيعة قد رافق أعوام نشأته بتلك الهمسات الودية التي سوف يبقى ذكرها عالقاً في كل صفحة من صفحات الإنجيل


من تلك الأرض انطلق المسيح ، ذات يوم من شتاء سنة 27م، وشخص إلى مخاضة " بيت عَبرا " ، حيث كان ينتظره ، مع المعمدان ، اعتلان مصيره . . . "هو ذا الزارع قد خرج ليزرع . .. (مرقس4 : 3 ). ولكن في أي تربة

. سوف يقع ذاك البذار ؟